“سكون مُزعج، وضوضاء بيضاء”. تعزل “متعاطيها” عن الزمان والمكان. يضع سماعات خاصة، ويطفئ الأنوار عامة، ويغلق عينيه، والأجهزة المحيطة به. ومع هذا السكون، وبكبسة زر، يبدأ في تعاطي جرعات اختيارية لملفات رقمية صاخبة. تحتوي على نغمات أحادية أو ثنائية، فتصل إلى الدماغ وتتلاعب بموجاته وتحاكيها، وتجعله في حالة من الخدر. فيشعر”بمزاج يحاكي أمزجة المواد المُخدرة”. (المخدرات الرقمية)
تعتمد الملفات الموسيقية الرقمية على تقنية النقر على الأذنين. وهي طريقة اكتشفها العالم الألماني “هنري دوف” عام 1839، وشاعت عام 1970 عندما استخدمت في علاج بعض حالات العلاج النفساني كالأرق والتوتر. وتتم طريقة “الهولو تروبيك” تحت إشراف طبيب لتحديد نوعية الموسيقى ومدة الاستماع لها. ويسمح للمستمع بعد فترة بسيطة بالدخول إلى مرحلة تعرف ب”ما قبل الوعي”.
وفيها يسترجع الإنسان ذكريات ويتعايش فى خبرات سابقة قد تكون مؤلمة ولا يستطيع تذكرها فى الظروف العادية.
وطـُورت هذه التقنية (عام 2006) في “المخدرات الرقمية”. ليتم بث موجات صوتية صاخبة ومتشابهة في الأذن. لكن تردد كل منهما مختلف عن الآخر (بفارق نحو 30 هيرتز). مما يؤدي إلى تشويش/ تحفيز/ حث الدماغ على إصدار أمرين مختلفين في الوقت نفسه. فيقوم بتوليد موجات بطيئة كموجات “ألفا” المرتبطة بحالة الاسترخاء. وأخري سريعة كموجات “بيتا” المرتبطة بحالات اليقظة والتركيز.
ومن ثم يشعر المتلقي بتأثيرات متباينة، وإيحاءات وهمية، فتتبدل حالته النفسية والمزاجية. ويدخل في مرحلة من اللاوعي، والشرود الذهني مصحوبة بهلاوس، وارتجاف/ تشنجات، وصعوبة التنفس، وفقدان التوازن الجسدي والنفسي والعقلي. فيما قد يصاب آخرون بحالة الإبتهاج أو الإسترخاء تجعلهم غير قادرين على رفع السماعات عن آذانهم. وقد تمزج الصوتيات بمؤثرات بصرية، إلاّ أنها في الغالب تكتفي بالصوتيات المزدوجة.
وتتباين أوقات النغمات تبعًا للحالة المطلوبة التي يريد المتعاطي الدخول فيها. وتتراوح مدتها ما بين 15 – 45 دقيقة. كما يتراوح سعرها ما بين 3- 35 دولارًا وقد يصل سعر الملف إلى 100 دولار. وفي دائرة “التعاطي الإلكترونى” يتم الإنتقال من جرعة إلى أخرى دون سيطرة، مع فقد للتركيز في حال مر يوم دون الاستماع إلى الجرعة المعتادة اليومية، أو ترقيتها لأنواع أكثر صخبًا وأطول وقتًا. مُحدثة تأثيرًا يحاكي نوع الإدمان المطلوب حسب رغبة المتعاطي.
وهذا الإستخدام المفرط للأصوات المُحفزة يمكن أن يؤدي على المدى الطويل إلى قلق وتوتر، واضطرابات في النوم. مما يؤدي لأضرار في “كهرباء الدماغ”، والجهاز العصبي (الخلايا العصبية، والقشرة السمعية). كما أن بعض الأشخاص لديهم “بؤر صرعية غير مكتشفة” وهؤلاء من السهولة تعرضهم للتشنجات لدى سماعهم هذه الموسيقى.
تجارب مؤلمة – المخدرات الرقمية
نشر البعض – عبر مواقع ومنديات – تجربتهم المؤلمة مع تلك الجرعات الرقمية، وعرض مقاطع فيديو. وأشاروا إلى حالة الانعزال في الغرف لساعات طويلة أمام شاشة الحاسوب. وتبين أن المُستفيد الأول منها هم مروجوها. حيث يعطي الموقع الملف الأول مجانًا. وبعد ظهور “تأثير مختلف” في خلايا المخ والأعصاب فيدفع لطلب المزيد توهمًا للنشوة. ومن ثم يتم تحصيل المبالغ المالية على كل ملف أو جرعة مستعملة، تم إدمانها. كما يعطي نسبة خصم مالي (عمولة تزيد على 20%)، لمن يضيف عضوًا جديدًا لينضم لقائمة المتعاطين.
مؤامرة تشجيعية
مع إن الدراسات والتقارير العالمية لم تستطع أن تدرج “المخدرات الرقمية” Digital drugs ضمن تصنيف المخدرات المعروفة. إلا أن بعض اللجان المختصة بمكافحة المخدرات تنظر لهذه الظاهرة ضمن “مؤامرة تشجيعية” لنشر تعاطي المخدرات. فهي تقلل دوافع الرفض للمخدرات الحقيقية. وتسعى لتمييع الصورة المخيفة لمواد الإدمان ونتائجها على الصحة. مما يجعل المتعاطي – غالبًا ما يكون المراهق هو المستهدف – أكثر قابلية من غيره لتعاطيها في حال عرضت عليه. كما تجعله في حالة “إيحاء بتعاطي نوع من أنواعها”. وتُدخله في حالة نفسية ومزاجية أقرب إلى شخصية المتعاطي.
ومما يزيد الطين بلة. عدم وقوع هذه الخدمات الإلكترونية تحت طائلة القانون. مما يشكل خطرًا على المراهقين؛ لسهولة التواصل فيما بينهم لتبادلها، وترويجها ونشر مواقع الحصول عليها. وبعض هذه المواقع تستغل قواعد بيانات التي تحصل عليها من الزوار لترويج المخدرات الحقيقية! ورغم أن مروجي المخدرات الرقمية مازالوا محصورين في دوائر ضيقة. لكن التعامل مع المشكلة بالتجاهل التام يعتبر أمرًا مستغربًا. إذ حدثت حالات في الولايات المتحدة تشير إلى أن متعاطي المخدرات الرقمية يستخدمون المخدرات أثناء استماعهم أو بعده.
وهذا ما حدا بـ”موقع اليوتيوب” إلي حذف معظم التسجيلات عن المخدرات الرقمية وبعض مواقع الإستضافة. لكن مازالت هناك بعض المواقع تروج لها، وتشير إلي أن “إنتاجهم غير ضار بالصحة”. فتقوم بعرض قائمة بالمتاح لديها، و”تلبي الأذواق والاحتياجات، وبخاصة لمن يعاني ضعفًا أو خللًا عاطفيًا”. فتقوم بتصنيفها: هلوسة، ومخدرات روحية، وسعادة، وإنقاص الوزن، و”أبواب الجحيم”، ومضادات القلق، ومخدرات سريعة الخ. وتعد بـ تجربة توفر قسطًا من النشوة والسعادة”. وتضم القائمة تضم جرعات “للتخلص من الأرق، والتوتر، والإقلاع عن التدخين، ومنشطات ذهنية وجسدية، ومهدئات عصبية ونفسية الخ”. ويبقى أن أنواع من الموسيقى الرقمية باتت تأخذ منحى مخالف للمقولة الشهيرة “الموسيقى غذاء الروح”. فتتحول إلى غذاء ضار بالروح والنفس والذهن في آن.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.