غريبة الأطوار رحلتنا. فبينما نحن ننتظر بأمل بلوغ الهدف الّذي حددناه لبداية معانقة الحياة التي نؤمن بضرورة نيل الأجمل فيها قادمًا والأفضل لاحقًا. ننتظر تحقّق الكمال للمآل حتّى يرضي الطّموح السّاكن فينا منذ بداية الوعي بحتميّة السعي. يمرّ قطار العمر بلا ضجيج ولا ننتبه في أغلب الأحيان، إلّا وقد شارف على بلوغ آخر المحطّات فتصيبنا صدمة الفقدان. (لا تبدّد حياتك خلف هدف)
نحن بوعي غير مكتمل كيّفنا وجودنا على الانتظار بلا ملل منذ البدايات. ننتظر أن نتغلّب على الصّعاب الكثيرة في دروبنا. هدفنا المرسوم أن نستمرّ في سعينا بلا توقّف حتى الوصول للهدف. لكنّنا في الحقيقة نبدّد الطّاقة فينا وآملين ألّا نستنزفها سريعًا قبل الوصول. تستمرّ الصّعاب رفيقًا وفيًّا دائم الحضور حيث نكون. إنّنا كلّما تأملنا خطّ المواجهة رأيناها تتوالد بلا توقّف، فتستهلك منّا الجهد والانتباه وأغلب ما نحتكم عليه شحنات المقاومة والصّبر. ثمّ تخلّف وراءها دابّة النّسيان المقيتة. نحن ننسى أن نعيش بالتوازي. ننسى أن نشرب من نهر نعبره كلّ يوم لنبلغ ضفّة هناك تتراءى لنا سرابًا على سطحها أمنيات قد نطالها بعد معاناة وقد لا يحصل ذلك أبدًا.
بينما العمر ينقضي منسكبًا بإسراف أغلبه هدرًا بين ثنايا الأمل وبلا انتباه منّا ولا ترشيد يسهم في كبح جماح الخسارة العذبة نستمرّ في رسم الأمنيات. إنّ الأمر يشابه إلى حدّ لا بأس به حال ساكنات الشمعدان. هنّ شمعات يبعث فيهن فتيلهن الحامل لشعلة النّار على رؤوسهن أمل الانتصار على الظّلام المنسدل حولهنّ في تحدّ مقيت فتستمرّ تشتعل غير عابئة بالتلاشي والفناء.
مساحة إعلانية
لا تبدّد حياتك خلف هدف
واقع الأمر ينتهي بضمورالشّمعات كلّها ثمّ اضمحلالها فانطفاء شعلتها. ويستمرّ الظلام في تحدّ منتظرا مبارزًا آخر ليصرعه بعد ملاعبة لا تستمرّ إلا مقدار شحنة الأمل الّتي يركبها. نحن مثلهن أيضًا يلاعبنا الزّمن لعبه المغري فننساق. تلك اللعبة التي تنتهي بزوال العمر كلّه أو أغلبه في أفضل الحالات ولا ينتهي الزّمن المقيت. ربّما لو كنّا على وعي أكبر بقيمة ما نبدّده على هامش الحياة وهو الحياة التى لا تعاد متى انطلق عدادها.
لو كنّا لكان الوضع أصعب علينا وأشدّ قسوة وأكثر هلعًا وأقلّ استعذابًا أو لكانت رحلة بلا نكهة تميّزها أو بنكهة يتيمة هي الحزن والأسى على الضياع الّذي لا يعوّض والخوف من حتميّة الانطفاء المنتظرة حين يقترب خطّ الوصول. قد يحصل أيضًا أن نصير من معتنقي الواقع فنفضّل التأقلم مع السيّئ الغير مكلف كحلّ متاح بين أيدينا على الحَسن المنشود أملًا والباهظ الثّمن جدّا والذي قد لا يطال فيستمرّ سرابًا.
الحقيقة إنّنا جميعًا وبلا استثناء لكلّ العقلاء على خريطة الوجود، حين نفكّر بالحياة كطبق يُستهلك نرغب في جودته وهذا تمشّ سليم وفعل محمود فنسعى بكلّ الطرق لنيل طعم نستلذّه ونستعذبه فيها. نعتقد منذ صدامنا الأوّل مع قوانينها في مسؤوليتنا على توفير ظروف خلقها واستمرارها. نفهم بتجربة أو بملاحظة أو بتلقين أنّه لا شيء يأتي من العدم. لا شيء يولد من دون مخاض وألم نقبله بلا خيار للرّفض. كلّ النّتائج الّتي نتوصّل إليها لا تعدو أن تكون إلّا بنات أسباب. وكلّ الأسباب بَعثت بها على سطح الوجود حاجات ملحّة حملتها النّفس على وهن حتى تبلورت وحان أوان وضعها فأُنْزِلت مكرهة لتحكم على صلابة الفاعل ونجاعة الفعل.
الحاجة حين تُولد تَصير لتوِّها أُمّا تتبنّى كلّ حروب الذّات مع رغباتها. الحاجة دافع متحرّك لا يسكنه الهدوء مطلقا تبدّد كلّ طاقة في سبيل هدف لا ينتهي. كلّ دافع بدوره خالق لتفاعل آخر مستهلك للطّاقة والزّمن فيتلاشى على هامش ذلك العمر. هذا العمر لو ندري لا يكفي لمتابعة كل الدّورات. قد يتوقف بعد بعضها فقط.
إنه من المفيد أن نتبنّى لعبة السّير المتوازي للمتاح والمأمول حتّى يكون للحياة معنى. لن نتجمد في مكاننا دون تخطيط لما يضيف لحديقة الكينونة ما يغنيها ولن نتوه في السعي خلف المأمول على أمل أن نلتقطه فيلتقطنا إلى السّراب. حين يكتمل وعينا بمتلازمات الهدف والواقع والطاقة والزّمن فنسعى لبناء توليفة العيش مع السعي لا انتظار العيش بعد السعي. هكذا لا نشعر بتبدد العمر وتلاشي السنوات. إننا نبذل طاقة ونعيش.
بقلم: عامر علي ابراهيم
(لا تبدّد حياتك خلف هدف)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
عامر علي ابراهيم من الجمهورية التونسية. تخرج من المدرسة العليا للعلوم والتقنيات بتونس متحصلًا على الأستاذية في الهندسة الكهربائية، واختار مجال التعليم كمهنة، لكنه لم يُهمل غرامه بالحقل الأدبي. له إنتاجات لا تزال في انتظار النشر.