معارك اللّجوء النّاعم

“الحياة معركة لا تنتهي إلا بتحرّر الرّوح من جسدٍ يهاب الفناء، أو بانعتاق كليهما من صراع الهيمنة المتبادلة، والّتي تتقابل غاياتها بين السموّ والانحطاط. المعاناة لعبة الوجود وعنوان فسطاطه الذي لا تغيب عنه شمس التساؤل حتى تحين لحظة الصمت الأزلي. لكنّ صمتًا آخر يحدث بتواتر بين ردهات الصّراع، فيصنع فواصل حجاج بين فصيلين لوعي منقسم، تقابلا على ضفّتي نهر المنطق، أحدهما يرتدي بردة التسامح والثاني كساء المحاسبة”. (الوطن)

الوطن
Jubilee Plus

بعد اكتمال برهة صخب السّكون، انبرى المتسامح ينشر عباراته، ليردّ عليه المحاسب ويستمرّ السّجال بينهما، كلام صامت بلا تشنّج:
ـ نحن بشر عقلاء، يرهقهم العقل كثيرًا، يصيبنا التأثر حين نتعب من ضغوط أحمال الحياة. لا نحسن الصّمود المستمرّ في وجه الأحداث المتوالدة على سفح جبل المصاعب. نفشل عديد المرّات في الاستمرار كما نتمنّى أن نكون هادئين.

يسحبنا الصّمت إلى عالمه حين لا يبقى للكلام جدوى غير الضّجيج. نهرع هاربين من صخب إلى صخب أشدّ. الصّمت حين تعب النّفس سكون بضجيج قاتل. أغلب معاركه تسحب بعض الحاضر إلى سواحل الماضي في دوّامة تدفعك للّهو بالذكريات. توهمك بأنّك هناك لتتناسى فتغفو بعض الزّمن. لعلّ بعض الجميل الّذي لا يُعاد يحجب المعاناة قليلًا فتستعيد الذّات بعض البريق الخافت.

هل يعني ذلك….؟!

ـ هل يعني ذلك أنّ الحاضر بقسوته أحيانًا يُعدّ مسرح المعاناة دون غيره، يفسد بهجة النّفس حين يراكم على جدرانها الأتعاب الكثيرة بلا شفقة، والماضي بتجلّيه الموهوم يصير زائرًا ساحرًا يُداوي أسقام المعاناة المستعصية؟

أتعلم أنّك هكذا تضحكني كثيرًا بمنطق المغالطة النّاعم الّذي تخفي خلفه شيئًا في نفسك لم تُفصح عنه؟

ألست تقول: “أنّ الماضي ميّت في قانون الفعل، وأنت وحاضرك المنتصبان على قيد الوجود آنيّا فاعلان متى عنّ لكما الفعل”؟ أرأيت ميّتا منعدم الاستثارة يعالج حيًّا مثارًا ومثيرًا؟

هل تكون غيّرت قناعاتك وصرت تعتقد في معجزات الأموات؟ أم تحاول استغفال وعيك حين تريد، وتنصيبه قاضيًا عادلًا حينًا آخر؟ أتلاعبه بقناعات المفكّر المنضبط حينًا وقناعات البسطاء الموالين لفكر الأمير حينًا آخر؟

مضحكات كثيرًا قناعات المساكين، كتلك التي تنبني عليها أساطير كهنة المعابد، يحبُكون فصولها ليُتقنوا بها إدارة قطعان المغفّلين. يأخذهم الانبهار فيسلّمون أغلب المرّات رقابهم بلا تفكير. أمثلهم أنت؟

أنت تفكّر، هذا أعرفه. لكنّي لا أعرف إن كنت تنبهر فلا تستمِرَّ مفكّرًا طول الوقت.

ـ ليس الأمر هكذا أبدًا. أنت بتحليلك هذا تبحث عن السّقم في غير موطن الدّاء. كطبيب يصف للمريض مسكّنًا للحمّى ولا يلقي بالا للسّبب الذي نتجت عنه هذه الحمّى.

ـ إذن أفهم من ذلك أن الخالق الخفيّ للمعاناة ليس الحاضر السيّئ أو المملّ وكثير الأعطاب، أو أن تُزعجك رتابة أحداثه وتكرارها. وإنّما ثمة لعبة أخرى تسحب النّفس. فالحنين سفينة تُغري، حين ينشغل الحاضر عمّا تنبني عليه دعائم استقرار نفوذه، ويهمل دور اللمعان والبريق. فالحاضر الّذي يهمل توهّجه الدّائم يكون شبيهًا للغياب الذي لا حراك فيه. كلّ الجداول التي لا يكون ماؤها دائم الجريان تنتهي بالرّكود ولا يستمر صفاؤها كثيرًا. أليس مقنعًا هذا؟

الرّكود سيّء

ـ الرّكود سيّء على أيّة حال. نعم هذا الاحتمال وارد الحدوث، وربّما كان سببًا وجيهًا، لكنّه ليس الأهمّ بالتأكيد. لعلّه بمثابة السّبب الناّتج لا غير، تمامًا كالحمّى الناتجة عن سقم خفّي.

ـ طيّب. لنُخمّن فنقول: لعلّ لك بالماضي شيئًا جميلًا، قد تكون تركته دون أن يكتمل. كالبدايات الممتعة وتفاصيلها التي لا تغادر سطح الذاكرة، تلك التي توقّفت في نقطة ما دون اكتمال. ربّما لسبب قد لا تراه يحمل من الوجاهة الشيء المهمّ.

ـ كل الذي تقوله ممكن، لكنّه لا يفسّر الحال تفسيرًا عادلًا وأمينًا.

ـ دعني أتمم فكرتي. يمكن أن تكون تلك الحياة استمرت بأعماقك، تعيش بتوّحد في زاوية مقدّسة بعيدًا عن أضواء معاركك اليوميّة مع الأحداث والصّخب المتكرّر كمحراب لا يطؤه غير الإمام.

تعيش في هدوء بالتوازي مع الواقع، كما لو كان وطنًا بديلًا تحتمي به كلما أرهقك الحاضر بتناقضاته الكثيرة وأتعابه التي لا تنتهي.
قد تكون أيضًا سعيت لادّخارها حتّى تهرب إليها عند اللّزوم من استنزاف مريع لقدرتك على الصّمود تجاه صعوبة الحياة بمعطِّباتها الغريبة، وخوفك من تناقص طاقة التحمّل لديك. هكذا أنت تمارس اللجوء الواهم، وتستجدي الاحتماء من قسوة صامتة تفضل ألاّ تخرجها للعلن. إنّه شكل مقنّع من الجبن السّكن خلف الهروب.

ـ لنتّفق أنّه هروب مؤقت من فعل المعاناة. لكن لتعرف أنّ ذلك أبعد ما يكون عن الجبن. إنّه فعل مراقبة لا فعل استرجاع. ربّما طلبًا لحياة أخرى كنّا نراها رؤية الحلم الجميل ولم نحصل عليها أبدًا كما أردناها بالتّفاصيل الّتي رسمناها. حياة مفقودة رونقها في التّفاصيل الّتي غابت فغاب حلمًا عذبًا أفسدته معطّبات الحياة.

أتفهم تفكير اللّاجئ حين يهرب؟ الوطن

إنه يحبّ الحياة، ولا نية عنده للخسران. يرغب بالاحتماء، لكنّه لا يغيّر الوطن مهما اشتدت القسوة وتعاظمت المعاناة. لا يعتقد في غير الوطن ولو قتله الألم.

ـ ليس اللّاجئ فقط يفكّر هكذا. كلّنا ندرك بداهة أن الوطن ليس فقط قطعة الأرض التي عليها نعيش وعليها نغار، وثمنًا لقداستها تدفع أرواحنا إذا لزم الأمر. الوطن واقع نحتمي به ويحتوينا بكل الشّوائب التي نحن عليها. لا هروب منه إذا قسى إلا إليه حين يحتوي، ولا احتماء من ألمه إذا سقطنا إلا به.
مصدر الطاقة المتجدّدة فينا وينبوع الخير الذي يجمعنا. نقطة الانطلاق ونقطة العودة.

ـ لا اختلاف بيننا على ذلك مطلقًا. الوطن واحد لا يتكرر ولا يستبدل ولا يخذل. لكن في داخل كلٍ منّا عالمًا آخر، بنفس مزايا الوطن وخصوصيّات الوطن ورهبة الوطن. هو عالم الحنين إلى بعض الذي مضى، ولا يزال بأعماقنا يعيش. لا ينتهي إلا حين تنتهي معارك الرحلة ويسود الصمت الأزلي.

ـ ملجأ الذكريات برتبة وطن. لكنّ حاضرنا الوطن.

عامر علي إبراهيم

 

إقرأ أيضاً:  طبقة المهمشين وحقوق المواطنه


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

عناية الخالق

الجمعة يونيو 4 , 2021
تمت قراءته: 1٬588 تبعثرت الجُمل في ذهني قبل الشروع في الكتابة ولكن تفوقت جملة على جمل كثيرة وهي قول يعقوب عليه السلام لأولاده «وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ […]
عناية الخالق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة