“من لم ينشر نعيه في جريدة الأهرام، فكأنه لم يمت”. مقولة قديمة/ جديدة يرددها مصريون للتدليل على مدى ارتباطهم بالإعلان عن موتاهم، ونعيهم في الصحف. فهل يمكن اعتبار صفحة الوفيات في الصحافة العربية “نافذة وثائقية تثقيفية” تروي الكثير على كواليس عالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والفن والشهرة؟ (صفحات نعي الوفيات)
لا شك أن للموت، وطقوسه وأحواله ومشاعره الحزينة، أهمية مركزية لدي كافة شعوب العالم. المتحضر منها والبدائي. ومن طقوس الموت: “الإخبار/ الإذاعة/ الإشهار/ الإعلان عن موت ميت في أوساط أقاربه ومعارفه، والندب لشهادة جنازته، والصلاة عليه”، ويطلق “النعي” أيضًا على ما قد يصاحب ذلك ” الإعلان” من “تعداد مناقبه، وذكر مآثره ومفاخره”. ينعى “ابن الرومي” ابنه فيقول:
بكاؤكما يشفي، وإن كان لا يجدي = فجودًا، فقد أودى نظيركما عندي.
ألا قـــــــــــاتل الله المنايا ورميها = من القوم حبات القلوب على عمد.
توخى حمام الموت أوسط صبيتي = فلله كيـــــف اختار واسطة العقد؟
على حين شمت الخير من لمحاته = وآنســـــت من أفعاله آية الرشد.
طواه الردى عني فأضحى مزاره = بعـــــيدًا عن قرب، قريبًا على بعد.
كأنها صفحات جرائد – صفحات نعي الوفيات
كان الفراعنة قديمًا يعلنون / ينعون موتاهم – بحسب طبقاتهم – علي جدران معابدهم ومقابرهم وتوابيتهم وبردياتهم، تصويرًا ورسمًا وكتابة. أما العرب فكانوا يبعثون من ينادي في القبائل والعشائر: “مات فلان”، “مات فلان” على وجه الفخر والتعاظم والتعظيم لذلك الميت. أما في قرى مصر، وغيرها، فيعتمد على تناقل الخبر بين الجيران وأهل القرية، بالإضافة إلى إذاعة خبر الوفاة من مكبر الصوت في المسجد. أما في بعض المدن، فيتم الإعلان عن الوفاة عن طريق ما يسمى “الإذاعة المحلية”، وهي ميكروفونات منتشرة في أرجاء المدينة تبث خبر الوفاة، أو قد يلجأ البعض إلى استئجار سيارة تطوف لنشر الخبر وذكر أقاربه ووظائفهم أيضًا. أما النعي في الصحف فيكون لإخبار الناس، ومن يهمه الأمر، (ولأصحاب الحقوق أو الديون)، ولتقبل العزاء في المتوفى (وليس للصلاة عليه، وتشييعه لمثواه)؛ ذلك لأنه يكون لاحقًا لعملية الصلاة ودفن المتوفي.
وعلي جانب آخر. يبدأ العديد من الناس، لاسيما كبار السن، يومهم بقراءة صفحة الوفيات، للتعرف على من رحل من معارفهم وأصدقائهم، والمشاهير، حتى يبادروا بالعزاء أو بنشر نعي مناسب. لعل صفحة الوفيات بجريدة كالأهرام، يقارب عمرها، عمر الجريدة ذاتها، غير أنها لم تصبح بهذا الشكل الرسمي إلا في أوائل القرن الماضي، وبمرور الزمن أصبحت صفحة الوفيات في الأهرام أحد “أسرار خلطة الأهرام السحرية”. كان النعي ينشر، قبل ذلك، متفرقًا، ثم انتقلت صفحة الوفيات بعد ذلك إلى باقي الجرائد التي لم تستطع أن تنافس الأهرام في تميزها. وإذا كان المؤرخ د”. يونان لبيب رزق” يسمي جريدة الأهرام بـ”ديوان الحياة المعاصرة”، فإن صفحة الوفيات فيها بمثابة “التاريخ الحقيقي والصادق للمصريين” وبمرور الزمن أصبحت صفحة الوفيات في الأهرام أحد أسرار خلطة الأهرام السحرية، حيث أنها تكشف شجر عائلاتهم، وروابطهم الأسرية، وارتباطاتهم الاجتماعية والاقتصادية في آن معًا.
والمتتبع والمتأمل في أغراض الإعلان عن الوفيات بالصحف، وتعازي البعض يجد عدة ملاحظات: “النعي مقامات، ووجاهة وإشادة وإطراء، ومباهاة بالمتوفى، وأهله وعائلته وأقربائه”. هناك من يعمد – أفرادًا وعائلات ومؤسسات وهيئات – إلي نشر تلك الإعلانات. حجمًا وشكلًا ومضمونًا. فحجم النعي يكون حسب شخصية المتوفي، ومركزها الاجتماعي والاقتصادي، فهو يبدأ من سطور معدودة إلي صفحة كاملة. يتم الإعلان عقب الوفاة أو في ذكرى مرور أربعين يوما على رحيل المتوفي، ويذكر فيها عادة اسم المتوفي (بالبنط الكبير)، وقد يرفق صورة شخصية له، يتبعه التسلسل العائلي (بالبنط الصغير)، مع ذكر الوظائف لكل شخص من أقارب الميت، مما قد يُعد “اعتناء كبيرًا بالشكليات، حافزًا إعلانيًا” لهم في أعمالهم، مما قد يُعد “محاولة تكريم الأحياء على حساب الأموات”. (صفحات نعي الوفيات)
مساحة إعلانية
كما يكشف/ يعكس/ يوثق لشبكة المصالح/ المجاملات بين ذوي المناصب ورجال الأعمال وأصحاب الشركات، والموظفين ومديري البنوك وغيرهم، فعادة ما ينشر نعيهم، أو نعي أقاربهم مشفوعًا بأسماء كبار الشخصيات في هذه الجهات. وهو ما يجعل النعي “مرآة عاكسة/ راويًا” لتاريخ الميت الشخصي، وأهله، وأقربائه، وأصدقائه، والمشاطرين. ووظائفهم. ومن خلال الإعلان عن الوفيات بالصحف يقف كثيرًا من الناس على تسلسل العائلات، ويتعرفون على تفاصيل من حياتهم، وأحيانًا بعض خلافاتهم العائلية. فقد يجد الراصد للنعي أن الميت “نجل فلان وشقيق فلان”، وفي نعي آخر يكتشف أنه “زوج فلانة ابنة فلان”. كما قد تكون هذه الإعلانات سببًا في العديد من “المواقف الملتبسة” خاصة مع الإعلان عن وفاة من تتشابه أسمائهم، وهو ما حدث ويحدث كثيرًا، جاعلًا الاتصالات تنهال لتعزية الميت/ الحي!
تعطي هذه الصفحة مؤشرات عن “نوعية/ طبيعة/ تصنيف الوفيات” في بلد ما، فنجد، في الآونة الأخيرة، تنامي نسبة وفيات حوادث السير/ الجرائم الدموية مقارنة بالوفيات الطبيعية. كما قد لا يخلو نعي بعض الشخصيات، وبخاصة إذا كان المتوفي من أهل القضاء العادلين ذوي الأعداء الكثيرين، من عبارات تشي بأن الوفاة تبدو غير طبيعية، بل جنائية، وتطالب بالقصاص وتحقيق العدالة. كما يذهب البعض إلي أنه صفحة الوفيات قد تتابعها عن كثب بعض أجهزة الاستخبارات الأجنبية لتستشف منها قدرًا لا بأس به من المعلومات – خصوصًا في زمن الحرب – لذلك فإن القائمين علي الصفحة يضعون بعض الضوابط خصوصًا بالنسبة لذوي الرتب العسكرية وصلات القربى بكبار المسئولين.
وثمة عبارات معروفة تكتب في النعي المنشور. هناك من يُصدر الإعلان عن الوفاة بآيات قرآنية كقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: الآيات 27-30)، وأحيانًا بعض العبارات والأدعية بالرحمة والمغفرة. وبخلاف الذين يكتبون شعرًا رثاء للفقيد/ الشريف/ المناضل/ القطب، نجد أن النعي يبدأ بعبارة: “البقاء لله، أو إنا لله وإنا إليه راجعون توفي إلى رحمة الله فلان الذي يعمل في مهنة كذا، ووالد فلان الذي يعمل في وظيفة كذا وشقيق فلانة زوجة المهندس فلان” وهكذا. أما أقباط مصر، وهم الأكثر حرصًا على نعي ذويهم في الصحف المصرية، ولعلهم يرون فيها طقسًا تقليديًا معتادًا من قديم الأزل، وساحة للإعلان عن الذات، ومنبرًا لمخاطبة الغير، فإنهم عادة يبدأون نعيهم قائلين: “الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم، رقدت على رجاء القيامة عروس السماء الآنسة. المحاسبة بشركة. كريمة المرحوم. عزاؤنا أنك بالسماء، والدتك. وشقيقتك.”… إلخ.
ومؤخرًا. أصبحت رسوم الكاريكاتير “الرمزية” تقوم مقام صفحة الوفيات، ففي حالة رحيل أحد الزعماء فإن الرسامين يرسمون بلدته على هيئة امرأة حزينة تبكي عليه. أما حين يموت أحد الرسامين فنجد زملاؤه يرسمون ريشة تبكي. وحين يرحل أحد الكتاب الكبار فإنهم يرسمون قلما بجناحين يطير. لعل أطرف نعي في صفحة وفيات ما نشرته صحيفة أمريكية عام 1875م خطأ عن وفاة الأديب الكبير “فيكتور هوجو”، وبعد عشر سنوات مات “هوجو” فعلا، فكتبت الصحيفة عنوانا كبيرًا: “نحن أول من أعلن وفاة هوجو”. وأما الكاتب الراحل “أنطوان الجميل” رئيس تحرير جريدة “الأهرام” في بدايات القرن الماضي فقد وصله للنشر – متأخرًا – نعي أحد الأشخاص، فكتب “أنطوان” لعمال الجمع بالجريدة، مؤشرًا، أسفل النعي: “يـُنشر إن كان له مكان”، فظهر النعي في اليوم التالي: “فلان الفلاني. أسكنه الله فسيح جناته، إن كان له مكان”!
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
(صفحات نعي الوفيات)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.