إن الإنصاف من الصفات التي ربما يندر وجودها في عالمنا الحديث. حيث أن الوضع العام يدعوا الكثير -إلا من رحم رب العالمين- أن يكون متحزبًا أو متعصبًا لفريق أو جماعة أو حزب أو مؤسسة أو قرية أو بلدة من البلدان. وليس الإشكال في ذلك التعصب، وإنما الإشكال في تلك الغشاوة التي تكون على العيون، وذلك الران [1]تعريف و معنى ران في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي الذي يكسو القلوب بذلك التعصب.
والمنصفون امتدحهم رب العالمين
بأن الحق أقرب إليهم من كل شيء. الحق والوصول إليه هو الهدف الأسمى إليهم. وبَيَّنَ ذلك سبحانه وتعالى في مواطن في كتابه العزيز، أذكر مستأنثًا مستدلًا بهذه الآية على ذلك، وكيف وأن الشهادة بالقسط أمرنا بها ربنا، ولو كانت على الوالدين أو الأقربين، ومن باب أولى فمن دونهما أولى.
قال تعالى: ﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ إِن یَكُنۡ غَنِیًّا أَوۡ فَقِیرًا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلۡهَوَىٰۤ أَن تَعۡدِلُوا۟ۚ وَإِن تَلۡوُۥۤا۟ أَوۡ تُعۡرِضُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرًا ﴾ [سورة النساء 135]
فانظر، هداني الله وإياك لطريق الصواب واتباع الإنصاف وترك التعصب والأهواء، انظر في أدق تفاصيل الحياة، والميثاق الغليظ والشراكة الأسرية التي عظمها رب العباد ﷻ. انظر كيف أرشدنا سبحانه وتعالى أن نكون قوامين بالقسط، شهداء لله، ولو على (أنفسنا أو الوالدين والأقربين)، فذلك من سبل النجاة في الحياة الدنيا والامتثال لأوامر رب العالمين.
بل أذكر هنا من مواقف نبي الإسلام ﷺ موقفًا كان مع خصومه ولكنه كان منصفا ﷺ. كان الأشج بن عبد قيس ما زال على الكفر، ولما رآه النبي ﷺ قال له: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» [رواه مسلم]. فتأمل يرحمني الله وإياك: لم يمنعه ﷺ أن الرجل يعاديه أو يكيد له، ولكنه قدم الإنصاف في أمره. فذلك هَدْيُه وهذا هو سبيله: الإنصاف حتى مع خصومه. بل انظر رحمك الله لمَّا نادى القوم “يا معشر الأوس” ونادى آخرون “يا معشر الخزرج”، فنهاهم عن ذلك، وأعد ذلك دعوى جاهلية. وقال: «ما بال دعوى الجاهلية …. دعوها فإنها منتنة» [رواه مسلم]. فالإنصاف سبيل السلام الذي يدَّعي العالم كله أنه يبحث عنه.
الإنصاف سبيل السلام
هناك كثير من الناس يفتقد إلى السلام النفسي والسلام المجتمعي، وذلك الفقدان يكون لقلة الإنصاف داخل الشخص نفسه، فهو دائم التعصب سريع الغضب، لا يرى أمام عينيه إلا ما تراه نفسه. لا يعطي لمن حوله مساحة من الحرية والتفكير، لا يثني خيرًا على من خارج الصندوق الذي وضع نفسه فيه (صندوق التعصب). لا تجده إلا منتصرًا لنفسه أو متعصبًا لغيره، وهذا المسكين ربما باع آخرته بدنيا غيره وهو لا يدري. والخير كل الخير لمن ترك التعصب وتمسك بالإنصاف.
فالمنصف يعيش مع المجتمع بأكمله، يعيش ولا يجد في صدره حرجًا من العيش. يعيش متنعمًا بالسلام النفسي والسلام المجتمعي مع كل من حوله.
وأما المتعصب، لا يستطيع العيش ربما مع نفسه، فضلًا أن يعيش مع غيره. تجده دائمًا صدره ضيقًا حرجًا، مما وضع نفسه فيه وأغلق على نفسه إلا لمن تعصب له. تراه ضيق واسعًا وسعه الله عليه، كثير النقد والنقض، دائم الاعتراض، ضيق الأفق. لذا فهي دعوة لنبذ التعصب والإقبال على الإنصاف.
الإنصاف عزيز
وعادة ما يكون ذلك الإنصاف عزيزًا إلا لأصحاب القلوب السليمة والعقول المستنيرة. وبالرغم من أن الجميع حدد هدفه الذي يدافع عنه ويسعى لنجاحه، إلا أن المنصف دائمًا وأبدًا هدفه أسمى ورؤيته أوسع، وللناس أنفع.
فالمتعصب لا يريد نجاحًا إلا لفكرته وحزبه وجماعته، وأما من يسعى خلف الإنصاف يقدمه على كل شيء ولو كانت نفسه أو الأقربين. لذلك، الإنصاف عزيز، إلا على أصحاب النفوس المطمئنة، الذين يعملون ويحتسبون ويرجون رحمة رب العالمين. فهم عباد مصلحون مخلصون، يتمنون الخير لأنفسهم ولكل من حولهم. إذًا فهذه دعوة للإنصاف وترك التعصب.
وكتابتي في هذا الموضوع اعتقادًا مني أن رُب سامع أو من مبلغ. فلربما قارئ مخلص لكلماتي، تقع من قلبه بمكان فيؤمن بالفكرة ويدعو لها، فنُصلح من أحوالنا، وينصلح حال مجتمعنا الذي يدعو ظاهره إلى سياسة التفريق والفرقة والتفرق والعصبية. فما أحوجنا جميعًا لذلك الخلق وهذه الصفة، بداية من بيوتنا مع أزواجنا وزوجاتنا وأولادنا واقاربنا والمجتمع الذي نعيش فيه، ليعم السلام فيما بيننا.
ولكن أيها القارئ القدير، وأنت تدعوا لذلك الإنصاف، تذكر أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
إذًا عليك أن تعلم أن الجميع خاسر، إلا مؤمنًا عاملًا بأعمال صالحة، متواصيًا بها، يوصي غيره، يبلغها، يدل بها غيره، صابرًا على أذًى ربما يلاقيه في هذه الدلالة وهذا النصح.
وابدأ بنفسك ومن تعول، فإذا راقت لك فبلغ بها غيرك.
فكما أن الإنصاف عزيز إلا لأصحاب القلوب السليمة والعقول المستنيرة، فكذلك إبلاغ الحق ودلالة الناس على الخير، يحتاج لرجال كل آمالهم رضى ربهم، فاللهم ارضَ عنا وعنكم.
دمتم في حفظ الله ورعايته
كتبه
محمد بدر
معلم بالتربية والتعليم
مصر
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
محمد خيري بدر من مصر. تخرج من معهد دراسات تكميلية بدمياط وعُين معلم بمدرسة ثانوية صناعية، وتوجه بعدها للقراءة والكتابة الاجتماعية، ومن هواياته الرسم.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | تعريف و معنى ران في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي |
---|