يسبح سابح الخيال بالشعراء، فيستعيروا البكاء للطير وبخاصة الحَمَام. والعرب تجعل صوتَ الحمام مرة نوحًا وبكاءً، ومرة سجعًا وغناءً. ولعل كثيرًا من الشعراء يُشجيه النوح والبكاء عن السجع والغناء. بل لعلهم – بكلمات السجع والغناء – لا يقصدون الفرحَ والسرور، بل يقصدون الحزن والبكاء والعويل وطول النحيب. فصوت الحَمَام “نَجِيُّ الثّكالى والأيامى، وسميرُ المشتاقين والحزانى، وبلسمٌ جراحاتِ المتألّمين، ومؤنسٌ الغرباء المبعَدين”. (استبكاء الحمائم)
من خصائص الحَمَام – والحَمَام كلُّ ذي طَوْق مثل القُمْريّ، وسَاقَ حُــــرٍّ، والفاخِتة (من الفـَخـَتَ وهو أول ضوء للقمر)، والورقاء (الوُرقة هي السمرة) وأَشباهِها. وواحِدته حَمامة، وتقع على المذكر والمؤنث – أنه يحزن وينوح لفراق إلفه. فيسلي العشاق في الصبابة أو البين، ويتلذذ الشعراء في التشكي إليه، والتحدث معه كأنهم يتحدثون إلي عاقل. ويثير نـَوحه أو سجعه في الشاعر ما سكن وجدانه، وأخفاه قلبه، وغمر مشاعره من لواعج الشوق، وحُرَقِ الصبابة، يقول الشاعر “أحمد بن محمد بن عبد ربّه“:
أناحَتْ حَماماتُ اللِّوى أمْ تَغَنَّتِ فأبدَتْ دواعي قلبهِ ما أجـــــــــــنَّتِ؟
فَدَيْتُ الْتي كانَتْ ولا شَيءَ غَيْرُها مُنى النفسِ أو يقضى لها ما تمنَّــــــــتِ
وكذلك كان حال الشاعر “أبي القاسم” عندما سمع بكاءَ حماماتٍ، فهيجنَه ببكائهن، وزِدْنَ لوعته، وفجّرنَ اشتياقه، وعُدنَ به إلى عهدٍ سلفَ، ودهرٍ مضى، فانشد يقول:
ألَمْ تَسْمَعِي: أي عَبْدَ في روْنَـق الضُّحَى بكـاءَ حَـمَامَـاتٍ لُهَنَّ هَدِيرُ؟
بَكَيْنَ فهيَّـجْـن اشـتِيَـاقِي وَلوْعـتي وقَدْ مَـرَّ مِـنْ عَهْد اللّقَاءِ دُهُور
وقال “حميد بن ثور الهلالي”: (في استبكاء الحمائم)
وَمَا هَاجَ هَذَا الشَّوْقَ إِلاَّ حَمَامَةٌ دَعَتْ سَاقَ حُــــرٍّ نُزْهَةً وَتَرَنُّمـــَا
مُطَوَّقَةٌ غَرَّاءُ تَسْجَعُ كُلَّمَا دَنَا الصَّيْفُ وَانْحَالَ الرَّبِيعُ فَأَنْجَمَا
مُحَلاَّةُ طَوْقٍ لَمْ تَكُنْ مِنْ تَمِيمَةٍ وَلا ضَرْبِ صَوَّاغٍ بِكَفَّيْهِ دِرْهَمَـا
تَغَنَّتْ عَلَى غُصْنٍ عِشَاءً فَلَمْ تَدَعْ لِنَائِحَةٍ مِنْ نَوْحِهَا مُتَأَلِّمَا
وعندما سمع “أبو فراس الحمدانيِّ” نوح حمامةً بقربه، فسألها إن كانت تشعر بما يعانيه، وتذوق بعضًا مما يقاسيه فقال في الروميَّات:
أَقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبِي حَمَامَةٌ أَيَا جَارَتَا لَوْ تَعْلَمِينَ بِحَــــالِي
مَعَاذَ الهَوَى مَا ذُقْتِ طَارِقَةَ النَّوَى وَلا خَطَرَتْ مِنْكِ الهُمُومُ بِبَالِ
وكثيرًا ما نرى شعراء يشاركون القمريَّ جواه، فيهيّجُ لهم أحزانًا دفينةً، ويبعثُ فيهم الشوقَ بعد طول رُقاد، ويؤكد “أبو بكر يحيى بن بقيٍّ الطُلَيطُلِيَّ” أن القمريَّ دائمُ البكاء، ويُشبه شاعرنا نفسَه وتنهُّدَه بالقمريِّ وبكائِه عندما يقول:
فهلاَّ أَقاموا كالبكـاءِ تنهُّدِي إذا مـا بَكَى القُمْرِيُّ قالوا: تَرنَّما
ويستوقفنا “قيس بن الملوح”/ “مجنون ليلى العامرية” هو يلوم نفسه ألا يبكي كما تبكي الحمائم، وتسبقه في ذلك:
لَقَد هَتَفَت في جُنحِ لَيلٍ حَمامَةٌ عَلى فَنَنٍ وَهنًا وَإِنّي لَنائِمُ
فَقُلتُ اِعتِذارًا عِندَ ذاكَ وَإِنَّني لِنَفسِيَ فيما قَد أَتَيتُ لَلائِمُ
أَأَزعُمُ أَنّي عاشِقٌ ذو صَبابَةٍ بِلَيلى وَلا أَبكي وَتَبكي البَهائِمُ
كَذَبتُ وَبَيتِ اللَهِ لَو كُنتُ عاشِقًا لَما سَبَقَتني بِالبُكاءِ الحَمائِمُ
مساحة إعلانية
بكاء البين والفراق، والمشاركة الوجدانية
ارتبط الحمام بالبين والفراق (الحبيب والأليف والأهل والوطن). وأكثر الشعراء قد وقفوا عليها، وهي على الغصون تشجو، تذكرهم غربتهم، فمنهم من أحزنته، ومنهم من تعاطف معها، ومنهم من أشفق عليها، ومنهم من قاس غربته على أنينها. وكانت بينهما ألفة وشجن واستنطاق. يقول الشاعر “أبو الحسين النوري”:
رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفًا ودهرًا صالحـــــــًا فبكت حزنًا وهاجت حزني
فبـــــكائي ربمــــــا أرقهـــــا وبـكاها ربمــــــــــا أرقني
ولقد تشكـــو فما أفهمهــــــا ولقد أشكـــــــــو فما تفهمني
غــــير أني بالجوى أعرفها وهي أيضًا بالجوى تعرفنـي
أتــــراها بالبكـــــا مولعـــــة أم سقاها البين ما جرعني
ولقد خلع الشاعر “أبو الحسين النوري” على الحمام صفات إنسانية، فجعله يرى الشاعر يبكي، فيبكي لبكائه، ويحزن لحزنه، ويشجو لشجوه. وهذا الأداء الفني والاندماج العاطفي هو قمة الجمال والروعة والقيم الفنية العالية. وقد يجمع الشاعر إلى وصف الحمام وصفًا حسيًا (شكله، ولونه، وغنائه)، وصفًا نفسيًا، فيندمج معه، ويحقق بذلك روح المشاركة الوجدانية، يقول الشاعر الأندلسي “أبو الحسن علي بن غالب بن حصن”:
وما هاجني إلا ابـــــن ورقـــاء هاتف على فنن بين الجزيـــــــــرة والنـــهر
مفستق طــــــــــــــــوق لازورد كلكل موشى الطلى أحــوى القوادم والظهر
أدار على اليــــــــــــاقوت أجفان لؤلؤ وصاغ على الأجفان طوقًا من التــبر
حديد شبا المنــــــــــــــــقار داج كأنه شبا قلم من فضــــــــــــــة مد في حبر
توسد من فـــــــــــــــرع الأراك أريكة ومال على طي الجنـــــــــاح مع النحر
ولما رأى دمعي مـــــــــــراقًا أرابــــه بكائي فاستـــــولى على الغصن النضر
وحث جناحيـــــــــــــــه وصفق طائرًا وطار بقلبي حيــــــــث طار ولا أدري
لقد رسم الشاعر – بدقة – لوحة لفرخ حمام. وأبرز فيها ألوانه، وظلاله، وأجزاء جسمه الجميل، وجسد جلسته، وتابع حركته، في رقة الألفاظ ورشاقتها، وثراء المعاني وغنائها، إنها صورة ساحرة لفرخ الحمام على فننه، ومزجها بأحاسيس الشاعر وانفعالاته. وقد استخدمه رمزًا لحالته، فهو الذي يبكي وينوح محزونا لفراق أليفته، وأحس الشاعر أنه – مثله – حزين مهموم لفراق صاحبته، وقد حاول أن يضفي على الحمائم أيضا نوعًا من مشاركة الظواهر الطبيعية له في أحاسيسه النفسية.
وفي قصيدة لابن زيدون يثير غناء الحمام شوقه وحنينه إلى أهله ووطنه بعد أن أبعد عن مدينته، يقول:
وأرَّق العيــــــنَ والظلماءُ عـاكفةٌ ورقـاءُ قـــد شفَّها إذْ شفَّني حزَنُ
فبتُّ أشكو وتشــــكو فوق أيكتِها وباتَ يهفُو ارتياحًا بينــنَا الغُصنُ
وقد استخدم الشعراء الأندلسيون الحمائم؛ ليبثوا بها إحساسًا نفسيًا معينًا، وارتبط تصويرهم في الشعر بالسجع والبكاء، كما ارتبط أيضا بتلك المقارنة التي يعقدها الشاعر دائما بين إحساسه، وبين بكاء الحمام. يقول “ابن خفاجة”:
سجعت وقد غنى الحمام فرجـــــــــــــــعا وما كنت لولا أن يغني لأسجــــــــــــــــعا
وأندب عهــــــــــــــــــــدًا بالمشقر سالفًا وظل غمام للصـــــــــــــــــــبا قد تقشعا
ولم ادر ما ابكي أرسم شبيـــــــــــــــــبة عفا أم مصيــــــــــفًا من سليمى ومربعا
وأوجع توديع الأحبة فرقة شباب على رغم الاحبـــــــــــــة ودعـــــــــــــــــــا
البكاء علي “هديل” – استبكاء الحمائم
نشأتْ مزاعم أنَّ صوْت الحمام بكاء سببُه أنَّ فرخًا كان على عهد نوح – عليه السلام – اسمه “هديل”، صادَه جارحٌ من الطَّير، فقام الحمام يبكيه إلى يوم القيامة وعلى هذا الزْعم قال “النَّابغة”:
بُكَاءَ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا مُفَجَّــــــعَةً عَلَى فَنَقٍ تُغَنِّي
وقال “الكُميت”:
وَمَـا مَـنْ تـهْتُـفينَ به لِنَصْرٍ بـأقْـرَبَ جـابَـةً لَـك مِنْ هَدِيلِ
وقال “نُصَيب”:
فَقُلْتُ: أَتَبْكِي ذَاتُ طَوْقٍ تَذَكَّرَتْ هَدِيلًا وَقَدْ أَوْدَى وَمَا كَانَ تُبَّعُ
وقال “كعب الغنوي”:
كَدَاعِي هَدِيلٍ لا يُجَابُ إِذَا دَعِي وَلا هُوَ يَسْلُو عَنْ دُعَاءِ هَدِيلِ
وجعل بعض الشعراء من نوْح الحمام مطيةً للموت والردى، كما فعل القاضي “عبدُ المنعم الواسطيُّ” عندما قال:
ولمّا جزَعنـا الرَّمـلَ، رمـلَ عُنَيْزَةٍ وناحت بأعلى الدَّوْحتين حَمـامُ
صبوت اشتياقًا، ثمَّ قـلت لصاحبي: ألا إِنّـما نَـوحُ الحَمام حِمـامُ
ويربط الشاعر “أبو إسحاق الإلبيري” بين بكاء الحمائم وبكاء التائب من كثرة ذنوبه ومعاصيه فيقول:
أحمامة البيـــــدا أطلت بكـــــــــاك فبـــحسن صوتك ما الذي أبكــــاك؟
إن كان حقًا ما ظنـــــنت فإن بـــي فــــــوق الذي بك من شديــد جواك
إني أظنك قد دهيـــــــت بفـــرقـــــة مــــــن مؤنس لك فارتمضت لذلك
لكن ما أشكوه من فــــــرط الجـوى بخـــــلاف ما تــجديـن من شكواك
أنا إنما أبكي الذنـــــوب وأسرهـــا ومناي في الشكوى منال فــــكاكي
وإذا بكيــــــت سألـت ربي رحـمـة وتـــجاوزًا فبــــــكاي غــير بــكاك
ويكثر “ابن عربي” من الشكوى والبكاء والحنين، وقد أفاض في وصف ما يعانيه يقول:
ناحت مطـــــــــــــــوقة بحق حزيــــــن وشجاة ترجيـــــــــــــع لها وأنيــــــني
جرتِ الدُّمــــــوعُ منَ العيــــــونِ تفجُّعًا لحنيــــــــــــــنها فكأنهنَّ عيــــــــــــونُ
طارحتـــــــهما ثكلًا بفقدِ وحيــــــــــدها والثُّــــــكلُ منْ فقدِ الوحيـــــــــــدِ يكونُ
بي لاعجٌ منْ حـــــــبِّ رملـــــــة َ عالجٌ حيثُ الخيــامُ بها وحيـــــــثُ العيـــــــنُ
من كلِّ فاتــــــــكة ِ اللِّحــــــــاظِ مريضة أجفانُها لِظُبـــــــــــا اللِّحاظِ جفـــــــــونُ
ما زلتُ أجــــرعُ دمعتي مـــــــــن غلَّتي أُخفي الهوى عــــــــــن عاذلي وأصونُ
وبينما أظهر “رهين المحبسين” “أبو العلاء المعري” الشكّ في ذلك حين قال:
غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي نوح بــــاكٍ ولا ترنم شاد
وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيس بصوت البشير في كل ناد
أبَكَت تلكم الحمامة أم غنّت عــلى فرع غصنها الميّاد
والخلاصة: (استبكاء الحمائم)
هكذا نجِدُ أنَّ أكثرَ المواضِعِ الَّتي ذُكِرَ فيه الحَمامُ: هي مَواضِعُ الحنين والاشتياق، ومواقف الحُزْنِ والأسَى. وحينَ شَكَا الشَّعِراءُ البين الفراقَ الفقد والذنوب؛ رأيناهُم يذكرُون الحَمامَ، ويستعينُون به في تصويرِ وَجْدِهمِ، والتياعِهِم.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
(استبكاء الحمائم)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.