لا يختلف إثنان على أن “خفيف الظل، أبو ضحكة جنان” الكوميديان “إسماعيل ياسين”، له مكانة خاصة لدى الصغار والكبار في آن. فكما يتلهف الصغار على مشاهدة أفلامه، يجدها الكبار فرصة لمشاركتهم في متابعة كوميديا (أو تراجيديا في ثوب كوميدي) جميلة وهادفة تشدهم بعفوية إليها. وتُجبرهم علي الضحك (أو التأسي) منذ بدايتها وحتى نهايتها. لكن هذا الفنان الذي ترك بصمات واضحة في تاريخ الفن السينمائي، و المسرحي، والغنائي كان “يحترق ليُسعد الآخرين”. (“إسماعيل ياسين”: الكوميديان البائس)
شهدت مدينة “السويس” مولد “إسماعيل ياسين” (1912-1972)، ابنًا وحيدًا لصائغ ميسور الحال. لكن توفيت والدته وهو لا يزال طفلًا يافعًا. وفي بدايات حياته التحق -كالعادة- بأحد الكتاتيب، ثم تابع في مدرسة ابتدائية حتى الصف الرابع الابتدائي، ولم يكمل تعليمه. عندما أفلس محل الصاغة الخاص بوالده ومن ثم سُجن لتراكم الديون عليه، اضطر الفتى للعمل مناديًا أمام محل لبيع الأقمشة. ثم هجر المنزل خوفًا من بطش زوجة أبيه ليعمل مناديًا للسيارات بأحد مواقف السيارات بالسويس.
ومنذ نعومة أظفاره. كان “إسماعيل” يعشق أغنيات الموسيقار الكبير “محمد عبد الوهاب” (1902- 1991)، ويحلم بأن يكون مطربًا منافسًا له. لذا لما بلغ من العمر 17 عامًا اتجه إلى القاهرة كي يبحث عن فرصته الفنية كمطرب. فعمل صبيًا في إحدى المقاهي بشارع “محمد على” وأقام بالفنادق الشعبية. ثم التحق ليعمل مع الأسطى “نوسة”، من أشهر راقصات الأفراح الشعبية. لكنه لم يجد ما يسد به رمقه فتركها ليعمل وكيلًا في مكتب أحد المحامين. وحاول “إسماعيل” مرة أخري تحقيق حلمه الفني. وبخاصة بعد أن اكتشفه توأمه الفني، وصديق عمره، ورفيق رحلة كفاحه الفنية المؤلف الكوميدي الكبير “أبو السعود الإبياري” (1910-1969م). والذي كون معه ثنائيًا فنيًا شهيرًا. فذهب به الإبياري، وقدمه ليعمل ضمن فرقة “بديعة مصابني” (1892- 1974). وليقدم، عبر الملهى الخاص بها، فن المونولوج.
وبرع “إسماعيل” في هذا الفن وتميز فيه عن جدارة. وظل عشر سنوات (1935- 1945) متألقًا مبدعًا في هذا المجال. حتى أصبح يلقى المونولوج في الإذاعة نظير أربعة جنيهات عن المونولوج الواحد شاملًا أجر التأليف والتلحين، والذي كان يقوم بتأليفه دائمًا توأمه الفني “أبو السعود الإبياري”. وكان “الإبياري” قد ألف عددًا كبيرًا من الأغاني الشهيرة والذي تعدى الثلاثمائة أغنية. كما لُقب بعدة ألقاب منها: “موليير الشرق”، و”أستاذ الكوميديا” و”النهر المتدفق” و”جوكر الأفلام”، و”منجم الذهب” و”الجبل الضاحك” الخ. ويُعد “الإبياري” من أغزر مؤلفي الأفلام السينمائية. حيث له أكثر من 500 فيلم أي يعادل 17% من أفلام السينما المصرية.
فنان متعدد المواهب – إسماعيل ياسين الكوميديان البائس
كانت بداية دخول “إسماعيل” السينما في عام 1939. عندما اختاره المؤلف والسيناريست والممثل والمخرج “فؤاد الجزايرلي” (1910 ــ 1979) ليشترك في فيلم “خلف الحبايب”. ومن ثم قام بلعب “مساعد البطل/ الدور الثاني” في العديد من الأفلام من أشهرها في تلك الفترة “علي بابا، والأربعين حرامي”، و”نور الدين، والبحارة الثلاثة”، و”القلب له واحد”. وفي عام 1945 جذبت موهبة “إسماعيل ياسين” انتباه الفنان “أنور وجدي” (1904- 1955)، فاستعان به في معظم أفلامه.
ثم أنتج له عام 1949 أول بطولة مطلقة في فيلم “الناصح” أمام الوجه الجديد “ماجدة”(1931-2020). واستطاع “ياسين” أن يكون نجمًا لشباك التذاكر تتهافت عليه الجماهير، وكانت الأعوام ما بين (1952- 1954) عصره الذهبي. حيث مثل 16 فيلمًا في العام الواحد، وهو رقم لم يستطع أن يحققه أي فنان آخر. وعلى الرغم من أنه لم يكن يتمتع بالسمات المعهودة في نجوم الشباك حينئذ مثل “الوسامة، والوجاهة، والجاذبية… إلخ”. إلا أنه استطاع -في معظم أفلامه- جذب الجماهير عندما كان يسخر من “شكله، وكبر فمه، وتهدل أشداقه” مع تميزه بضحكته “الجِنان”. (إسماعيل ياسين الكوميديان البائس)
وبداية من عام 1955 كون هو وتوأمه الفني “أبو السعود الإبياري” مع المخرج “فطين عبد الوهاب” (1913- 1972) ثلاثيًا هامًا وفريدًا ترك بصماته الواضحة في تاريخ السينما المصرية والعربية. ويذكر أن 30% من الأفلام التي قدمها نجم الكوميديا كان وراءها المخرج “فطين عبد الوهاب”. وهكذا استطاع أن يقفز للصفوف الأولى وأن يحجز مكانًا بارزًا، مما دفع المنتجين إلى التعاقد معه على أفلام جديدة. وليصبح البطل الأشهر (بعد ليلى مراد) الذي تقترن سلسلة كبيرة من الأفلام باسمه، حتى وصل للقمة.
فمن هذه الأفلام (إسماعيل ياسين في متحف الشمع – إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة – إسماعيل ياسين في الجيش – إسماعيل ياسين بوليس حربي – إسماعيل ياسين في الطيران – إسماعيل ياسين في البحرية – إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين – إسماعيل ياسين طرزان – إسماعيل ياسين للبيع… إلخ). والتي كان معظمها من تأليف “الإبياري”. ولازمه في معظم هذه الأفلام “الشاويش عطية” والذي كان يؤديه الممثل الكوميدي “رياض القصبجى” (1903- 1963) (والتي انتهت حياته أيضا بمأساة). حيث كانت مشاهدتهما -ولا تزال إلى الآن- محطة ماتعة وهامة في تاريخ الكوميديا. وذلك بسبب المفارقات العجيبة، والمواقف الطبيعية والإنسانية، و”المقالب” التي يدبراها لبعضهما البعض. كما شاركهما التمثيل في بعض هذه الأفلام الفنان الرائع “عبد السلام النابلسي” (1899 – 1968). فضلًا عن أصدقاء عمره: “حسن فايق” (1898 – 1980)، و”عبد الفتاح القصري” (1905- 1964)، و”زينات صدقي”(1913 – 1978). (إسماعيل ياسين الكوميديان البائس)
وفي 23 فيلمًا، التقت الفنانة “شاديه” مع “إسماعيل ياسين”. وعملا، فيما بين عامي 1949 – 1954، بمعدل لا يقل عن 3 أفلام في العام الواحد. وكان أول لقاء بينهما في فيلم “كلام الناس”. ثم التقيا مره أخرى في “صاحبه الملاليم”. وكان لنجاحهما معًا أكبر الأثر مما جعل المنتجين والمخرجين يجمعون بينهما. فكان لإسماعيل ياسين دورًا بارزًا في أفلام “شاديه” حتى ولو لم يكن هو البطل الرئيسي للفيلم. ومن الأفلام التي جمعتهم “في الهوا سوا”، و”حماتي قنبلة ذريه”، و”مغامرات إسماعيل يس”، و”الظلم حرام”، و”الحقونى بالمأذون”. ويعتبر فيلم “الستات مايعرفوش يكدبوا” آخر فيلم جمع بينهما عام 1954 بالاشتراك مع النجم “شكري سرحان” (1925- 1997). ومن أفلامه التليفزيونية “وصية المرحوم”. وخلال عمره الفني الثري. قدم “ياسين” أكثر من 482 فيلمًا.
أما مساهمته في صياغة المسرح الكوميدي المصري فقد قدم نحو 60 مسرحية. وكون، العام 1954، فرقة تحمل اسمه بشراكة توأمه الفني “الإبياري”. وظلت هذه الفرقة تعمل على مدي 12 عاما حتى 1966. قدم خلالها -ومن تأليف “الإبياري”- ما يزيد على 50 مسرحية بشكل شبه يومي. ومن أشهر مسرحياته: “حبيبى كوكو”، و”المفتش العام”، و”اتفضل قهوة”، و”زوج سعيد جدًا”، و”أنا عايزة مليونير”. وقد استعان “إسماعيل، والإبياري” بعدد كبير من المخرجين المرموقين في إخراج مسرحياتهما منهم: السيد بدير، ومحمد توفيق، وعبد المنعم مدبولي، ونور الدمرداش. كما عمل في مسرح إسماعيل ياسين نخبة كبيرة من كبار النجوم أمثال: عبد الوارث عسر، شكري سرحان، سناء جميل، تحية كاريوكا وغيرهم. وسجلت جميع المسرحيات للتليفزيون. ولكن، من المُحزن، أنه قد حدث إهمال وخطأ وتم مسحها جميعًا. إلا فصلين من مسرحية “كل الرجالة كده. (إسماعيل ياسين الكوميديان البائس)
مساحة إعلانية
أهم المشاهد
ثمة مشاهد لا تنسى سواء في أفلامه التي قام ببطولتها أو أدى فيها دورًا مساعدًا منها فيلم “الآنسة ماما” (1950) لحلمي رفلة. حيث قدم مع “محمد فوزي”، و”صباح” نموذجًا بديعًا لفن “المحاكاة الكاريكاتورية الساخرة” لمشاهد شهيرة. وكان هذا في اسكتش: “أبطال الغرام”. ويتضمن ثلاثة مواقف «كلاسيكية» “قيس وليلى”، و”أنطونيو وكليوباترا”، و”روميو وجولييت”. وفي “دهب” الذي أخرجه “أنور وجدي” عام 1953، قدم “إسماعيل ياسين” مشهدًا صامتًا من فن “البانتوميم”. عندما يندمج في أكل “المعكرونة” الوهمية، وشرب الشوربة التي لا وجود لها. وفي الفيلم نفسه قدم مع الطفلة “فيروز” عدة استعراضات غنائية تضاف إلى الثروة الهائلة التي خلفها، في هذا المجال. وفي فيلم “الآنسة حنفي” (1954) لـ”فطين عبد الوهاب” الذي يكتسب قيمة متميزة بلمسات “إسماعيل ياسين” الساحرة وبأدائه “الكاريكاتوري” خصوصًا في مشاهد الحمل والولادة. ما زال الفيلم قادرًا على إثارة الضحك حتى الآن.
عود علي بدء
في رمضان 2009. تم تقديم مسلسل عن “إسماعيل ياسين” للمخرج “محمد عبد العزيز”، وحمل اسم “أبو ضحكة جنان”. وقام بطولته “أشرف عبد الباقي”، و”رانيا فريد شوقي”. وقام بتأليفه “أحمد الإبياري”، و”ياسين إسماعيل ياسين”. وقد تناول شخصيته في عدد من الأفلام والمسلسلات منها مسلسل “الشحرورة” (2011) عن قصة حياة المطربة “صباح”، وقام بدور “إسماعيل ياسين” الممثل “محمد فهيم”، ومسلسل “كاريوكا” (2012) عن قصة حياة الفنانة “تحية كاريوكا”، وقام بدور “إسماعيل ياسين” الممثل “رضا إدريس”. وإحياءً لذكرى هذا الفنان العملاق. أنتجت شركة “صوت القاهرة” لهذا العملاق العظيم ألبومان: “ياللى تملي تحسد” ويضم: (الدنيا تياترو- نبوية- من أين لك هذا؟- لت وعجن- ياللي مشفتش- أصلى مؤدب- ميمى وفيفى- إبليس إيه ذنبه- خيرات رمضان – خير الكلام- العجوز – ياللى تملى تحسد). وألبوم آخر: “ارتحت يا باشا” ويضم: (أنا أنا- صاحب السعادة- ولع ولع- فين وفين- صد ورد – حرب الحما – سخطة يا سخطة – الدنيا دى متعبة – ماتستعجبش – كل ما فوت ع البنك- ارتحت يا باشا).
ورغم النجاح الساحق الذي حققه “إسماعيل ياسين”، خصوصًا فترة الخمسينيات، لكن مسيرته الفنية تعثرت في العقد الأخير من حياته. فقد شهد عام 1961 انحسار -تدريجي- للأضواء عنه. فبعد أن كان يقدم أكثر من عشرة أفلام في العام الواحد قدم فلمين فقط هما “زوج بالإيجار”، و”الترجمان”. وفي العام الذي يليه قدم “ملك البترول”، و”الفرسان الثلاثة”، و”انسى الدنيا”. ثم في الفترة من 1963 – 1965 لم يقدم سوي فيلمين: “المجانين في نعيم”، و”العقل والمال”.
ولعل انحسار الأضواء عنه يعود إلى مرض “القلب” الذي أصابه، وابتعاده عن الساحة الفنية في مرحلة تحول هامة. فضلًا عن تدخل الدولة في الإنتاج الفني في فترة الستينيات وإنشاء مسرح التليفزيون. كذلك اعتماده شبه الكلي على صديق عمره “أبو السعود الابياري” في تأليف جميع أعماله مما جعله يكرر نفسه. سينمائيًا، ومسرحيًا. وابتعاده عن تقديم المونولوج في أعماله الأخيرة، والذي كان يجذب الجمهور إلى فنه. وفوجئ “إسماعيل ياسين” بتراكم الضرائب عليه وأصبح بين عشية وضحاها مطاردًا بها. وحجز علي العمارة التي بناها بكفاح عمرة لتباع أمام عينه. فاضطر “حزينًا” إلى حل فرقته المسرحية عام 1966. ثم سافر إلى “لبنان” وعمل في بعض الأفلام القصيرة منها “لقاء الغرباء”، و”عصابة النساء”. وعمل مرة أخرى كمطرب للمنولوج كما بدأ. ثم عاد إلى “مصر” “محطمًا كسيرًا أسيفًا”. وعمل في أدوار صغيرة لا تتناسب مع تاريخه الحافل. ثم توقف عن العمل طوال سنوات أربع سبقت وفاته.
وإثر أزمة قلبية حادة. وافت النجم الكبير منيته في 24 مايو 1972 قبل أن يستكمل دوره الأخير والصغير في فيلم من بطولة “نور الشريف”. توفي، وليس في جيبه جنيهًا واحدًا، ولعل تلك النهاية يصدق فيها مقولة “نيتشه”:
والخلاصة: (إسماعيل ياسين الكوميديان البائس)
“ظاهرة فنية لن تتكرر” تحلت بصفات جعلت منه فنانًا متعدد المواهب. فكان من نجوم التمثيل، والمسرح، والمونولوج. واستطاع أن يرسم البسمة علي شفاه الجماهير بفضل تلكم الملكات والمواهب الفريدة. لكن”الكوميديان الضاحك، المُضحك” عاش بداية ونهاية “بائسة، وحزينة، ومُبكية”، لكنه كان مصدر بسمة، وضحكة، وبهجة على مر السنين. (إسماعيل ياسين الكوميديان البائس)
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.