في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام يحتفل العالم بـ”اليوم الدولي للغة العربية”. وليس من شك في أن كل من له صلة، من قريب أو بعيد، نطقًا وكتابة بلغة الضاد وما يصدر عنها من إنتاج أدبي وفكري وثقافي يسعد عندما يتبوأ هذا الإنتاج مكانة ومكانته اللائقة. محليًا وعالميًا، و”عولميًا”. (الأدب العربي بين المحلية، والعالمية، والعولمة)
اللغة العربية من أكثر اللغات السامية تحدثًا (422 مليون نسمة)، وهي من أكثر لغات العالم إنتشارًا. وتتجدد الأمنيات، كل عام، أن يكون الفائز بجائزة نوبل في الآداب ناطقًا بلغة الضاد. لذا يبرز السؤال: هل الأدب العربي المعاصر عالمي أم محلي؟ وهل ثمة “قواسم ثقافية” تنهض به وتقربه من مقام العالمية، في عصر “العولمة اللغوية”؟ يرى فريق من المُهتمين أنه “عالمي” مستندًا إلي قيمه الرفيعة، ومضامين تعبيره، ودقائق تفاصيله، وإبداعات تصويره الماثلة في ذلك الإنتاج على اختلاف ألوانه الفنية.
ويستندون إلى ترجمات لبعض هذا الإنتاج إلى لغات شتى في أقطار العالم، كما حدث مع السفر الكبير”ألف ليلة وليلة”، مرورًا بترجمة أعمال الأديب الراحل “نجيب محفوظ“، الحائز على جائزة “نوبل” في الآداب.
أما الفريق الآخر فهو “يُنكر” على أدبنا العربي المعاصر “عالميته”، ويستنكر ضعف مشاركته “العولمية”، وبخاصة في العتاد اللغوي الحاسوبي. كما كونه يقولون أنه: “يفتقد القيمة الأساس التي تصبغ الأدب فتجعله عالميًا وهي إنسانية الأدب، وعنايته بالإنسان من حيث كونه إنسان، لا يحده مكان ولا زمان، حتى لو لجأ لبلوغ تلك القيمة بوسائل محلية لها دلالاتها المتجاوزة “للتجزئة”، وسياج الحدود الوطنية، والسدود الإقليمية إلى ما هو أشمل وأوسع وأرحب مدي”. وفي معرض ردهم على ترجمة أعمال أدبية يرون أنه ما كان هذا النقل لبعض إنتاجنا الأدبي إلى لغات أخرى إلا رغبة بالحصول علي “شيء يتسم بالغرابة، لا على شيء يتسم بالجودة، ورغبة في الحصول على مادة للدراسة في الأقسام الجامعية الأكاديمية”.
ولعل هذ الجدل قديم / جديد، وقد قطع فيه شوطا طويلًا عمالقة كبار كالأستاذ “عباس محمود العقاد” في خمسينيات القرن الفائت. وفي مقال د.”زكي نجيب محمود”، ضمن كتابه: (مجتمع جديد أو الكارثة) [1]دار الشروق، ط3، 1983م، ص: 174-180 . نراه يذهب إلى أن: صفة العالمية والمحلية ليست صفة تلصق بالشيء فتصبغه بها، كما تلتصق صفة الحلاوة بالعسل: (فيتذوق فريق إنتاجنا الأدبي فيقول إن به حلاوة لا تضاهى، لولا “تعصب” قد أعمى عيون العالمين خارج بلادنا فلم يبصروا الشهد في منابعه. وقد يقول فريق آخر إن به مرارة لا تقبلها أذواق الناس في أقطار العالم الأخرى).
وعالمية الأدب كما يراها د.زكي تكمن في: (أن يكون العمل الأدبي معروضًا في مكتبات العالم المختلفة. مباعًا، ومقروءًا، والأهم أن يكون موضوعًا لاهتمام النقاد في دنيا الفنون الأدبية بقطع النظر عن رداءته أو جودته. فالعالمية والجودة صفتان قد لا تتلازمان. فمن العالمي ما هو ضعيف القيمة الفنية، ومن الجيد ما هو “محلي” محروم من العالمية وشيوعها. ويبقى كي نجعل أدبنا العربي المعاصر “سلعة عالمية”. معروضة، ومباعة، ومقروءة، ومنقودة هو استثارة اهتمام المترجمين لنقل إنتاج لغة الضاد إلى غيرها من اللغات، على أن الترجمة وحدها لا تكفي ما لم يترادف معها دخول هذا النتاج عالم النقد الأدبي هناك.
اللغة العربية، و”العولمة اللغوية” – الأدب العربي بين المحلية، والعالمية
تمثل اللغات سُبل تواصل مع النسق الكلي الفعال في صياغة المجتمع الإنساني وتحريكه وفق متطلبات العصر. وتوجد تحديات جسام لتغييب معالم (الآخر) اللغوية. فالصراع اللغوي القائم بين اللغة العربية وغيرها (كالإنجليزية والفرنسية… إلخ) هو نزاع على البقاء. تسعى فيه “اللغة القوية” ذات المقومات العلمية، بمزاحمة اللغة الأم وتحقيق السيطرة والغلبة. وذلك عبر الإحتكاك والتسلل إلى العقول والوجدان بأحدث الطرق والوسائل. فاللغة “العالمية” بما تملكه من قوة ونفوذ من شأنه مصادرة “الهوية اللغوية” وإلغائها والتقليل من أهميتها. فتعمل شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) على ترويج الأفكار والثقافات باعتبارها سلعًا تدخل منافسة غير متكافئة، من أجل خدمة ثقافة واحدة.
وتستند “العولمة اللغوية” إلى اللغة الإنجليزية، باعتبارها أداة إنتاج للمعرفة. فبهذه اللغة يوجد نحو 90% من الوثائق المنجزة في الإنترنت، 80% من الأفلام ناطقة بالإنجليزية، 85% من المكالمات الهاتفية الدولية تتم بها، 25% من برامج الإذاعة باللغة الإنجليزية. لذا فقد ألغت “العولمة” ما يسمى “بالتثاقف بين الشعوب”، بل أصبحت تهدد “التعددية الثقافية” في العالم. وتفرض ثقافة عولمية/ نمطية تضبط سلوكيات الشعوب على تنوع ثقافاتهم.
جملة القول:
يجب المحافظة على كيان ووجود اللغة العربية، والعمل على جعلها لغة إبداع فكري وعلمي وفني متطور، وذلك بإخضاعها للإنتاج والمردودية، وإخضاع تكنولوجيا المعلومات لّها. صرفًا، ونحوًا، وتركيبًا، وذلك عن طريق المعالجة الحاسوبية، وزيادة المحتوى المعلوماتي منها. مع الإهتمام بالتعريب والترجمة من العربية وإليها قصد التعريف بالإنتاج الأدبي العربي، وإحداث المثاقفة.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | دار الشروق، ط3، 1983م، ص: 174-180 |
---|