اعوجاج البنية النفسية في المجتمعات العربية

“مجتمعٌ عربيٌّ” مصطلح ما إن يتم تداوله حتّى يعم الأجواء غبارٌ رماديٌّ هاربًا من أُحجيةٍ تراثيةٍ. (المجتمعات العربية)

المجتمعات العربية
Adobe Stock

صورةُ المجتمع العربي، صورةٌ ممزّقة بكل بناها. والعربي أعلم بذلك من سواه. إلاّ إن تشكيل صورةٍ جديدة يبدو مشروعًا مخيفًا لأقصى حد، ولا يلبث هذا المشروع أن يُنسى عند عتبة شهادات التقدير والمؤتمرات التكريمية البالية، ونعود حينها لاستذكار أمجاد الجدود والقبائل والعشائر. إذ إن البنية النفسية لإقامته، ليست بثابتة.

من المؤسف أن الشعور بالفخر لا يُعزّز ما لم نعُد بالتاريخ إلى قرونٍ مضت. فلا حاضرنا يشكّل مجدًا قائمًا بذاته، ولا مستقبلنا يحمل صورة واضحة.

متى التغيير؟ من أين نبدأ؟

اعتادت المجتمعات العربية على الدوران في حلقة فارغة، داخل الحلقة الأكبر. فعلى الرغم من امتلاكها لثروات طبيعية وبشرية لا يستهان بها ومواقعٍ مغريّة مشبعةِ بالجمال والأصالة، إلا إن التبعية مصيرٌ حتميٌ ينتظرها خلف صورة تراثية درامية مدججة بعادات وتقاليد الفكر العربي. وحفاظًا على مشاعره! يتم في الغالب استخدام مصطلح “هيمنة” عوضًا عن “تبعية” إلًا إن العين ترى والعقل يُدرك. فنحن قد نتقبل أحيانًا نقدًا خارجيًا، رغم أننا لا نتجرأ على انتقاد أنفسنا.

يعيد التاريخ نفسه بنا، فها هو يسأم ويقذف بنا للهاوية

كل جيل ينشأ اليوم ليس سوى صورة مصغّرة عن جيلٍ قد سبقه، فإن ما يظهر على سطح المجتمعات العربية عبارة عن مجموعة أفكار ونظريات وعادات فرضت عليها بالإكراه أو بالوراثة وتجذّرت في بنيتها بطرقٍ غير مشروعة نتيجة الخضوع السياسي أو الثقافي والاجتماعي الذي تعرضت له. وفي هذه الحالة، يكون التسليم المطلق والإيمان الجازم بها، حلمٌ بعيد. تغذيه الممارسات اللا مفهومة بفعل العادة والاعتياد. وهذا ما يجعلها مهددة للسقوط عند أول حاجز، فيهعلون حينها لإنقاذ عروبة تلفظ أنفاسها الأخيرة، بأيدي أطباء ومسعفين يحددهم مجلس التعاون العربي، في كنف مركز صحيٌ أنشأته رؤوس أموال غربية.

“سنصير شعبًا عندما ننسى ما تقوله لنا القبيلة” يقول الدرويش

نلد أولادنا على أمل أن يكونوا نسخةً عنّا، نعلمهم ما تعلمناه ونسقط عنهم ما اُسقط عنّا أيضًا. حتى وإن كان حريتهم الفكرية!
نجعلهم سفراء لقضايا عدّة بينما يشكلون بأنفسهم القضية نفسها. سنوات من التلقين والاكتساب وتكوين خطوط في رسم مندثر، تلعب دور المنقذ بينما لا تعي أهمية إنقاذ نفسها اولًا من تصديق ما لم تفكر به يومًا.

إقرأ أيضاً:  البحث عن الحقيقة

مساحة إعلانية


البنية النفسية أساس المجتمعات (المجتمعات العربية)

سنُخَلَّد داخل دائرة الوهم والعبث، إن استمررنا باعتبار الآراء المغايرة لنا شبحًا جاهلًا نمَّته الظلمات الغربية لتشويهنا.
كُثر هم أولئك الذين يعتبرون أن بأيديهم الحقيقة الخالصة، الحقيقة المطلقة. وإن عرضت عليهم أفكارًا جديدة لا تتوافق مع ما تلقنوه واكتسبوه بفعل الوراثة والتأثر بالمحيط الضيّق، سيجعلون منك مُلحدًا أو جاهلًا، بينما يُلبسون الجهل لديهم لباسًا موحّدًا فيصبحون نسخًا عن مفكرين سبقوهم دون التفكير بأبعد من ذلك.

العقل المنظَّم، ليس سوى عقلًا مقّيدًا يمنع الذات من التطور في اتجاهات معاكسة، فالزمن في حركةٍ مُستمرة والتجارب لا يحصرُها إطار، والتغيير من متطلبات العيش السليم. بينما العقل المفكّر، يجتذبه الكون في مسارات الوجود المختلفة، فيتراقص على الأنغام المتنوعة، ثم يلقي نظرة لداخله فيجد نفسه جوابًا لألغازٍ تشغله.

في زمن العلم والمعرفة المتطورة والقرنُ الجديد، باتت عملية التفكير عملية تكفير، وأصبحت المراجع أُسس بناء وتشكيل، والمقرّ به مسلّمات من العار اعتراضها. وهنا الفخ الأكبر، هُنا الفخ الذي تم نصبه للبقاء داخل حجرة الفكر الصغيرة، حيث الحياة أسهل مما تظن، والبقاء قرارٌ لا يشمله سوى مفهوم محدّد، محدّد من كل الجوانب، كالمربّع تقريبًا، ٥ سم فوق، ٥ سم تحت، ٥ سم من اليمين، ٥ سم من اليسار. ربع سنتيمتر زائد يهدُم التركيبة. والخوف من الهدم يعزيه عدم توفر خطط إصلاح وبناء هادفة نتيجة تراكم الاتفاقيات في جارورٍ يحدد مصير آلاف الأجيال القادمة.

إن اعتبرنا بأن الإنسان صورة كونية مصغّرة، لا بد وأن يكون اجتماع الإنس صورة الملكوت الإلهي. وكله! عبر الفطرة الربانية. إذ إن النفس مفتاح المملكة وفيها تقبع كل الممتلكات.

يخاف العربي من الجرأة (المجتمعات العربية)

التجرؤ على الرؤية، وعلى الشعور أيضًا. فقد اعتاد البقاء في الصف الثاني وفي المرتبة الثانية.
فهل يتجلّى الخطأ هنا بسيطرة الواقع؟ أم رفض الوهم؟

أحياءُ اليوم، أمواتُ الغد.
أحياءُ الغد، هم عدمُ اليوم.

إلاّ إننا ننجح في أن نُخضِع العدم لسيطرة الوجود. فتغدو مرة أخرى الحلقة الأكبر فضاءً تتعدد بها الحلقات، نلبس إحداها ونخلع الأخرى في الأثير نفسه. حيث الهو والأنا الأعلى وجهان لعبارة “ها أنا” المتواجدة فقط في مجتمعاتنا العربية.

نتبنّى الظواهِر الاجتماعية ونصنّفها بين رفض وقبول فنحلل منها ما شئنا على أولادنا ونحرّم بعضها الآخر. ولكن هل تمّ التفكير يومًا بِحثّهم على خلق ظواهر علمية وثقافية خاصّة بهم؟

عملية التفكير ليست بعمليّة تكفير. في عصور مضت قد كانت الخطيئة متمثّلة بتناول الثمرة، أما اليوم قد تكون الخطيئة كامنة في الكف عنها.

نملك الكثير من الثروات الطبيعية والفكرية، ورؤوس الأموال إن وُظّفت في مكانها المناسب، لبلغ الازدهار أَوجه. إلا إن العامل النفسي الخاضع لألاعيبٍ طويلة أوقفته عند حدٍ ما من الابتكار والتطوّر، أرهق كاهل المفكّرين، وأراح حركة المترفين، وأخمد الثورات الاجتماعية المتأججة في كل حي وبيت وقبيلة.

عندما ننظر خلف الكواليس، يبدو من الفظاعة والسخافة الاعتقاد بأن الفرد العربي حرٌ طليقٌ لمجرد امتلاكه البعض من حقوقه الطبيعية والبيولوجية، بينما هو في العمق منهوب الإدراك، وسجين عدة أفكار ومعتقدات وممارسات، لا تجعل منه سوى كائنًا مستهلكًا لما يصدر، نابذًا لا واعيًا لكل ما يُنتجه عقله وحواسه.

ومن جهة أخرى، حينما نكتشف المشكلة ونتطلع على جذورها، لا نسعى للإصلاح بقدر ما نبحث عن إطار المشكلة الأكبر المكوّن لصورةٍ درامية تجعل منّا ضحيةً لدرجة البطولة. فلا التنشئة الأولى القائمة بدور الأهل، ولا التنشئة الثانية القائمة بدور المدرسة والتعليم، ولا التنشئة الثالثة القائمة بخبرات المجتمع وأنشطته، نجحت في فكّ البرمجة النفسية القبلية للعرب ولا في توجيههم المجرّد من الأضواء الاصطناعية نحو بزوغ ضوءٍ فجريٍّ دون الإصابة بالعمى. فإذًا هل سينجح الوعي الفردي بمجهوده الفكري التراكمي الخالص بتخليص نفسه من برمجةٍ تاريخية، وبإنشاء بنية نفسية جديدة تنقذ أجيالًا وتحمي أخرى؟

زهرة عارف العمر

 

إقرأ أيضاً:  البدون


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

الطبقية الفكرية

السبت يوليو 3 , 2021
تمت قراءته: 3٬437 المجتمعات تتكون من طبقات مختلفة ربما هذه طبيعة نشأتها وتطورها منذ آلاف السنوات، أو كما يُحب أن يرجعها المتدينين دومًا إلى أنها تقسيمة إلهية كما خلقنا الله المهم أنها متواجدة على اختلاف تعريفاتها أو مدى الإعتراف بها. (الطبقية الفكرية) ورغم محاولات العديد من المفكرين على مدار السنوات […]
الطبقية الفكرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة