حين يكون أملنا في ذاتنا.. (الأمل المفقود)

قبل قيام الثورة العرابية بقليل وتحديدا في (1879م) تم تأسيس أول جمعية للمقاصد الخيرية بغرض: (التعاون على فتح مدارس للبنين والبنات لجميع أبناء الشعب و نشر المعارف ليتزود بها الناس.. فتقوم فى داخلهم الأفكار الخامدة) ..كان الوعى قد تشكل لدى كثير من الإصلاحيين وعلى نحو واضح ، أن الخطوة الأولى لنهضة الشعب وتقدمه ،هي الارتقاء بفكرة (الإنسان/ المواطن) .. وأنه لابد أن تتجه أفكار وأهداف الإصلاح إلى الإنسان المصري (مربط فؤاد الوطن) وحيثما كان ، لتعبئته وتكوينه وتعليمه.

الثورة العرابية
إضاءات

وكان عبد الله النديم (ت/ 1896م) قد أخذ البادرة وأقام فى القاهرة جمعية أخرى للمقاصد الخيرية فى 1880م.. ثم اتجه بعدها إلى القرى والنجوع وأخذ يدعو أصحاب الرأي والوجهاء إلى إنشاء (جمعيات ) و(تعاونيات) وتألفت على يديه جمعيات كثيرة، ودخلها الناس بكثرة.

***
سيأتى بعد ذلك عملاق الفكر السياسى الإسلامي د حامد ربيع رحمه الله ( ت/1989م) ويعرفنا أن الديمقراطية مثل (الهرم) ، قمته السلطات الثلاث: تشريعية وتنفيذية وقضائية .. ومنتصفه الأحزاب و النقابات والمؤسسات .. وقاعدته الجمعيات الأهلية والتعاونيات والمحليات… والقواعد بالكبع هي أهم أسس اى بنيان . الفكر ليس كلاما أجوف يشغل السطح الخارجي لعقول الناس بل هو رؤية لحقائق العالم الذى نعيش فيه.
لم يكمل النديم مساعيه ولا مقاصده ولا أهدافه.. وكرر نفس الخطأ الذي سيحكيه التاريخ كثيرا عن الإصلاحيين وهو (التعجل والمسارعة) إلى الثمرة قبل نضجها ..

***

فوجد في طريقه الزعيم أحمد عرابي رحمه الله (ت/1911م) وأصحابه يتجهون إلى قمة الهرم بالقوة العسكرية، فودع طريق (الزحف البطيء الهادىء )..وانغمس بكل كيانه فى الثورة العرابية . فكرة الثورة بالقوة دون الحاجة إلى (التكوين الاجتماعي الصلب)، فكرة براقة وجذابة للغاية خاصة اذا كانت مصحوبة بحالة تكثيف تاريخى واضح كما كانت الحالة العرابية التي كان على رأسها قادة عسكريين وأعيان ورؤساء وعمد ومشايخ .. لكن الشعب كان لم يكن هناك !.
فشلت الثورة العرابية والتي سيحدثنا عن أسرار فشلها الزعيم عرابى نفسه في مذكراته الهامة ذات الثلاثة أجزاء بعنوان:(كشف الأستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية .. المسماة بالثورة العرابية) ..

***

واحتلت انجلترا مصر 1882م، هذه هي المرة الثانية التي حاولت فيها إنجلترا احتلال مصر.. المحاولة الأولى سنة 1807م بقيادة ماكينزى فريزر(ت1809م) وفشلت .. والانتصار فيها كان لـ(ألمقاومة الشعبية) التي دعمها (محمد على) وقتها والذى لم يكن قد مضى على توليه سنتان ..
وستكون المفارقة هنا صارخة بكل ألوان الصراخ ..ذلك أن (محمد على ت/1849م) قضى على هذه المقاومة الشعبية فيما بعد!!! .. قضى عليها تماما، على مذبح تأسيس (الدولة والجيش) .. ليكن ذلك ..!!!! لكن ماذا حدث بعد 75 سنة من هذه المحاولة الإنجليزية الفاشلة التي هزمتها إرادة الشعب؟ ماذا حدث بعد أن تم (اختزال) المقاومة الشعبية في أعيان ورؤساء وجيش نظامى .. ؟

دخل الإنجليز القاهرة ..التي فشلوا في الاقتراب منها تحت حراسة الشعب .. الشعب الذى طرد نابليون بونابرتاته وكليبرتاته ومينوتاته قبلهم، طردا مهينا ..
مفارقة المقاومة الوطنية والجيش النظامى .. سيحتفظ بها الإنجليز في أعمق أعماق وعيهم بهذا البلد العظيم .. وسيعملون بكل قوة، في سنوات الاحتلال وبعد الاستقلال على أن لا يكون هناك (شعب قوى)..ولذلك حديث أخر!
لقد انتبه اللئام إلى أن قصة (الانتصار) مرتبطة بقوة الشعب ..

***

سنعرف أن الشيخ محمد عبده(ت/1905م) الذى كرر تجربه القوة والثورة مرتين مرة مع جمال الدين الأفغاني ( ت/1879م) ومرة مع عرابي وسٌجن ونَفى، ورأى بعينه انقسامات الحركة الوطنية ، حركة النخب والاختراقات السهلة لها.. وقال لنا في مذكراته المهمة التي عمل عليها ا/ طاهر الطناحى (إن السياسة أضاعت علينا أضعاف ما أفادتنا، وان الأفغاني كان صاحب اقتدار كبير، لو صرفه ووجهه للتعليم، لأفاد أكبر فائدة، وقد عرضت عليه ونحن فى باريس أن نترك السياسة معا، ونعلم ونربى من نختار من التلاميذ، فأجابني الأفغاني إنما أنت مثبط )..

***
ستأتي الخمسينيات ستدخل مصر فى أعوام شداد يابسات ذاخرة بالخيبات المتتاليات والكثير من الازدهار التعيس .. وسيتم تجريد الشعب من نفسه .. نعم من نفسه .!( تذكر هنا الخبرة الإنجليزية العتيقة عن الشعب القوى والانتصار.. تسليم وتسلم! ) ..

إنها مصر .. تاج الشرق وقلب الدنيا ..(ما أخبار السودان بالمناسبة؟) . وسيصبح الشعب مجموعة من الأفراد المبعثرين هنا وهناك.. خرس صامتون..
حيث سيسود القهر والهزيمة والبطش والتخلف والفقر والنفاق والانهيار الأخلاقي وانعدام الأمل وانتشار اليأس .. وامتلاء المجتمع بأمثال (شرارة النحال) من الأسافل والمنحطين كما صورهم لنا نجيب محفوظ رحمه الله(ت /2006م) فى قصة (المرايا).

إقرأ أيضاً:  مساهمات المسلمين في حرب استقلال الهند

مساحة إعلانية


***
هناك الزمن الذي نعيشه، وذاك الذي يذهب بنا إلى المستقبل ..ما هو ؟ الشاعر العراقى احمد مطر (69 سنة) أدار لنا حوارا شعريا مع (عفروتو) حول ذلك:
قلت للعفريت أبدل كل أصحاب الصروح الفاسدة..قال لى ما الفائدة..؟
سوف يأتى مثلهم أو ربما أكثر منهم مفسدة.. إنما تختلف الأسماء، لكن المعاني واحدة.
قلت ما الحل إذن…؟ قال بسيط.. لو غدت أمالكم فى ذاتكم.

***
أمالكم فى ذاتكم ..!؟ ذاك ما بدأ به كل الإصلاحيين الكبار فى القرنين الماضيين .. ولم يكملوه .. ؟
يا سيدى.. مهلا ..مهلا .. القرآن يقول لنا (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) في سورة يوسف.
نعم سنسلك الطريق القديم القويم .. ؟ طريق (العجين اللاصق) لمكونات الشعب.

***
إن إدراكا عادياً، وعاديا جدا، من أجل حاجات الإنسان، أكثر من كاف .. بل هو الكفاية كلها ..هكذا قال الأديب الروسي ديستوفيسكى( ت1881م) ناصحا أحد المثقفين المتعالين على الناس ..
المسألة بسيطة للغاية .. فقط فكرة (الصبر الجميل) والنظر إلى الأفق الأوسع: من الذاتية الى التاريخ، ومن الفرد إلى الأمة..

***

إنها (نظرية الفسيلة المغروسة).. تذكرون حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها .. والفسيلة رمز هنا إلى فكرة النماء والخصب الطويل.. سنسمع من علماء البيولوجيا الجزيئية والخلوية للنبات في معهد (هوارد هيوز) الطبي بأمريكا من يقول لنا: أن قوانين نمو النبات بها من الصرامة ما يمكن تطبيقه على الأفراد و المجتمعات .. يا حبيبنا يا رسول الله .

***

سنعمل على تأسيس جمعيات فى مختلف المجالات.. ينتظم فيها الناس فتتكون منهم تيارات قوية تستطيع أن تحمل السلطة على الحكم الرشيد لا بالعنف ولكن بتواصل الفعل. وحتى لو رفضت السلطة مستخدمة بعض القوانين.. نلح و نكرر الإلحاح ..من طلب شيئا أدركه ..أو أوشك أن يصل قريبا منه .. وسنكون تيارات مفتوحه لا تنظيمات مغلقة ..

وما الدنيا سوى أخذ ورد **وهدم ناب عنه بناء بانى.

***

فنكون مثلا جمعيه لمحو الأمية الأبجدية، وجمعيه لمحو الأمية الدينة والمعرفية، وجمعية لمحاربه الدروس الخاصة وإعلاء شأن المدرسة، وجمعيه للنظافة والتخلص من القمامة التي تعج بها الشوارع..الخ الخ .

ولدينا من الأعلام والرموز من يكون على رأس هذا الجمعيات ويمنح الشباب (الأمل المفقود) ..وقد تتكون من هذه التكتلات والجمعيات (أحزاب حقيقية) تتنافس على خدمة الوطن وإعلاء شأنه.. على مستوى الدولة والنظام.
الناس لا يريدون شيئا يشبه الحياة، بل يتجاوزها .. شيئا افضل منها .. شيئا أجمل منها.

بقلم د. هشام الحمامي

الثورة العرابية

إقرأ أيضاً:  البشرية تـُعيد الاعتبار للشعوب الأصلية


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة