عادة ما يوجه السؤال: بخصوص المحاماة
لماذا يدافع المحامي عن القاتل والسارق والإرهابي والمغتصب؟ أين فضيلة هذا العمل؟
ملخص “فلسفة مهنة المحاماة”
إن المحاماة تدافع عن “حتمية الالتزام بالقانون”، وبالتالي فالمحامي يدافع عن “حقوق باقي المجتمع” في “صورة وشخص حقوق المجرم” الماثل أمام العدالة.
بمعنى آخر، لو سمحنا بتجاوز القانون في حق المجرم، سنعجز مستقبلًا عن إلزامية احترامه في حق البريء. وهذا الأمر ذاته هو جوهر وماهية كون تطبيق القانون حرفيًا هو سر نجاح الدول واستقرار المجتمعات، لثقة الجميع أن العدالة تظلهم جميعا؛ وهو ذاته جوهر المنع لاختراق القانون بحجة أن اختراقه تم مع مجرم.
فلو سكت المحامي على تعذيب المجرم أو سبه أو انتهاك حقوقه، غدًا سيتم انتهاك حقوق الأبرياء، ووقتها لن نستطيع قول لا؛ وسيكون عرف اجتماعي، كما نرى للأسف حاليًا من بعض أجهزة الضبط القضائي من انتهاك لحقوق الناس والتعدي عليهم وعلى حقوقهم، كعرف في سلوكها وأفعالها، بالرغم من كون ذلك بالأصل يشكل جريمة، مما ينعكس سلبًا على مفهوم العدالة لدى أفراد المجتمع.
ونضرب هنا على سبيل المثال
فمثالًا:
تخيلوا لو أن المحامي سمح باختراق القانون وتجاوزه في اتهام أنثى بتجارة المخدرات؛ قام ضابط بتفتيشها، ووجد في موضع بجسمها (صدرها) المخدرات. القانون هنا ينص في حالة تفتيش أنثى (من أنه لابد من تفتيش الأنثى بواسطة أنثى).
فلو أن المحامي لم يدافع ويتمسك ببطلان هذا الإجراء بمواجهة جهة الضبط القضائي، هنا بالإمكان معاقبة تاجرة مخدرات واحدة؛ وهذا لن يؤثر على المجتمع كثيرًا؛ لكنه بالمقابل سيفتح الباب، لأن كل أنثي سيتم العبث بجسدها وانتهاك حقوقها المرعية شرعًا، بحجة التفتيش على مخدرات، أو الاشتباه بها؛ وتصبح كل فتاة وامرأة جميلة بنظر مأمور الضبط محل شك في حيازتها للمخدرات، ويتم العبث بأعضائها وانتهاك حرمة جسدها.
فالمحامي هنا، وفي هذه الأحوال، يدافع عن حرمة جسد كل أنثى بالمجتمع، من خلال دفاعه عن حرمة جسد تاجرة المخدرات تلك.
وقس على هذا كل دفاع للمحامي، يحمل رسالة المحاماة في الدفاع عن حقوق الأفراد وفرض سيادة القانون.
جوهر رسالة المحاماة
نعم هناك شرف عظيم في الدفاع عن القاتل والإرهابي والمغتصب والسارق، وهؤلاء بشر وأفراد في المجتمع، ولهم حقوق دستورية وشرعية وقانونية؛ والسماح بانتهاكها سيقودنا لبلد بوليسي يتحول فيه رجل السلطة العامة لإله، يقرر من يعيش ومن يموت، من يُكرَّم فيه ومن يُهان، وتصبح حياة الناس وحرياتهم وكرامتهم مجرد منحة من الموظف الحكومي، وليس حقًا يجب عليه احترامه وحمايته وخدمته؛ وأنه تسقط شرعية قراره أو فعله بمجرد الاعتداء على تلك الحقوق.
المحاماة شيء عظيم وإنساني لأبعد حد. ونحن هنا لا ندافع عن القتل والاغتصاب ولا عن الإرهاب كأفعال، ولا نقول إنها أفعال جيدة. نحن ندافع هنا عن القانون واحترامه؛ وإن القاتل أو المغتصب أو الإرهابي يجب أن تُحترم حقوقه من أجل أن نضمن ألا يصل لقصاص العدالة إلا من كان فعلًا يستحق، وألا يُظلم بريء.
وسواء كان هذا مقصد المحامي أو لا؛ فهذا لا يعني أن الفائدة المادية ليست متحققة؛ وطبعًا لا يعيب المحامي أنه يتقاضى أتعابه على هذه الفضيلة المجتمعية؛ لأنه بالنهاية ككل البشر يستحقون أجرًا مقابل عملهم، وهو إنسان ولديه أسرة وحياة ومتطلبات للعيش، وليس ملاكًا لا يأكل ولا يشرب.
فالمحاماة بحق مهنة عظيمة جدًا، ولا أريد القول أنها أشرف مهنة وأكثر المهن إنسانية ورقي.
ولذلك، القانون نفسه في أغلب بل وكل دول العالم يمنع المحاكمة بدون وجود محامٍ، وإلا كان الحكم باطلًا؛ لأن المُشَرِّع يريد من هذا التأكد من أن العدالة متحققة، وأنه لا يوجد بريء سيُدَان في النهاية؛ ولأن الخطأ البشري موجود من الكل، فكل ابن آدم خطاء، ويمكن أن ينتج عنه ظلم بريء. فكثيرًا ما يحصل أن يدان أناس في أعرق النظم القضائية، ويتضح بعد ذلك براءتهم بعد سنوات من سجنهم ظلمًا؛ فلا بد من وجود عقل ناقد ومنبه يعكس رغبتنا بالانتقام من الجناة ومسائلتهم عن أفعالهم.
قيمة رسالة المحاماة
تريد أن تعرف قيمة رسالة المحاماة، انظر إلى التاريخ، وتابع حركة تطور البشرية، وانظر كيف كان المحامون ورجال القانون، وماذا كانت أعمالهم ومنجزاتهم، والأدوار التي لعبوها في مجتمعاتهم، بداية من العظيم “أبراهام لينكولن” الذي ألغى العبودية وأسس لمبدأ المساواة والمواطنة، وليس انتهاء بالعظيم “نيلسون مانديلا” الذي كان له فضل إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي ساد لعقود، وتأسيس نظام حر وديموقراطي يستند على الحرية والتعددية الحزبية وحق المشاركة في الحكم، وحتى تاريخه، …الخ. و ستجد المحامين كانوا وما زالوا دائمًا بطليعة كل تقدم بشري ومجتمعي.
يحزنني عندما أجد أناسًا غير فاهمين فلسفة مهنة المحاماة ورسالتها، ومنهم بعض المحامين للأسف. فنحن ندافع عن القانون واحترامه، ندافع عن العدالة ومبادئها، لا يهمنا من هو المستفيد من العدالة حتى لو كان عدونا.
محكمة النقض المصرية وغيرها من المحاكم العليا قالت إنه لا يضر العدالة إفلات مجرم من العقاب، لكن يضرها الافتئات [1]يقال: افتأت بأمره وبرأيه: استبد به ، ولم يستشر من له الرأي فيه – قاموس المعاني على حريات الناس دون وجه حق. الكلام هذا يفلسف حركة المجتمع، وهذا لا يفهمه إلا نخبة المجتمعات الواعية والراقية.
فضلًا عن أن المحاماة تمنع الهوس بالعداء والكراهية وظلم الأبرياء، أو الإيغال في كراهية المُدان والإسراف في الانجرار لغريزة الانتقام منه، لأن هذا يكون له آثاره السلبية على المجتمع ككل.
والله من وراء القصد
عدن 12 مارس 2019
المحامي/مازن سلام
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
تخرج مازن سلام من كلية الشريعة والقانون بجامعه صنعاء باليمن، واتجه لممارسة مهنة المحاماة وهو الآن محامي بدرجة النقض ويهوى القراءة والشعر وكتابة المقالات، ويهتم بالشأن العام.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | يقال: افتأت بأمره وبرأيه: استبد به ، ولم يستشر من له الرأي فيه – قاموس المعاني |
---|