شهد القرن الماضي تحولات غيرت المفاهيم، والمبادئ، وأحدثت شرخًا في حياة الفرد جعلته في صراع دائم مع واقعه، ومع ذاته التي تاهت وسط كل هذا التحول واستغرقت فيه، ولما كانت الرواية الجنس الذي لا يستقر على عود ولا يهدأ عن طرح التساؤلات نحو طريق الصيرورة والبحث الدائم على الكمال الذي ظل مطلبًا بلوغه من وحي الخيال، وهذا ما جعلها في حالة استنفار دائم مثلت الرواية المنفذ الوحيد الذي انكب عنه الأدباء من أجل البحث عن صورتهم الضائعة، بين تمثلاتها كمؤسسة فاعلة في التعبير، وقدرتها على التماهي مع متطلبات اللحظة الآنية في الفعل الكتابي، كتبت الرواية الذات، والمجتمع، وتحولت لفعل مضاد مناهض يؤسس بذاتية منصهرة تفضي بضياعها وهواجسها وممكنات الأحلام عندها في ذاكرة على ورق، هذه الممارسة التي أثثت لتحول نقدي وجه دراساته بالانطلاق من الأسئلة التي تبنى حول المنتوج الفعلي للكتابة، ونوعها وطرق تطيرها من خلال مساءلتها من منطلق كتابة لذات مبدعة تكتب من ذاتها ولذاتها، بوعي ينم عن خصوصية التجربة ورؤيتها وفق منظور رؤيوي ذاتي آليات اشتغالية جديدة تجعل من الرواية قادرة على الاحتواء والتمدد طول الفعل السردي وعملية الإبداع.

استجابت الرواية للتحولات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وحتى الثقافية منها كون أن الكتابة هي فعل يولد لحظة تحرك المجتمع وتحوله، بتمثيلها المرآة التي تكشف عن كل تحول وإدراك جديد لكنه الحياة في عباءة خاصة تكشف رؤية الكاتب في استيعابه لمثل هذه التحولات وهذا ما اصطلح عليه بالسيرة الذاتية أو الرواية السيرذاتية .
تذويت الرواية: (الكتابة الذاتية)
عند كتابة أي عمل فني يجد المبدع نفسه أمام تشكيل عالم خاص به من جيناته يحمل أوصاف فكره، وشبه موقفه، وتأثيث نوعٍ من الخصوصية التي تمنح للإبداع نسبه و مرجعيته، يتباين الطرح وتختلف المادة الحكائية ومضمون الفكرة غير أن عملية الخصوصية تظل ترافق كل عمل مهما اختلفت حيثياته الإنتاجية.
اصطلح على هذا النوع من الكتابة في المخيال السردي “السيرة الذاتية” التي تمثل “قصة ارتجاعية نثرية يروي خلالها شخص ما(قصة) وجوده الخاص وذلك عندما يؤكد على حياته الفردية وخاصة على تاريخ شخصيته” [1]جليلة الطريطر، مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث (البحث في المرجعيات)، ج1، ج2، مركز النشر الجامعي، … Continue reading بمعنى أن الكاتب أثناء فعل السرد يقوم بتسليط الضوء على جانب من حياته الشخصية واستعراضها داخل المتن الحكائي ب” اعتماده على السرد والتصوير، وإيجاد الترابط والاتساق بين الأحداث الفنية، واستخدام الخيال، استخدامً محدودًا في تجسيد هذه الأحداث (الحقيقية) واللجوء إلى الحوار في تجسيم الموقف، والكشف عن أبعاد شخصيته وتحقيق المتعة الجمالية في عمله الأدبي، ناهيك عن استخدام اللغة ذات الطابع التصويري الإيحائي الذي يساعد على تجسيد الأحداث وتصويرها، مع حسن صياغة الأسلوب جملًا وعبارات” [2]شعبان عبد الحكيم محمد، السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث رؤية نقدية، دار العلم والايمان، ط1، 2004، ص 72. فالكتابة عن الذات من خلال الواقع المعاش، أو من خلال الذات كشخص بعينه لا يعني الكتابة التقريرية في نقل المعطيات العامة بشكل رسمي في توضيح بطاقة هوية للشخص بقدر ما يقصد بها القدرة على إمكانية كتابة “الأنا”، القدرة على لمس العمق الذاتي، صحيح أننا لن نجد من هو أفهم منا وأعرف منا بحالنا غير أننا دائما ما نتساءل كيف يمكننا إنصاف هذا الجزء القابع بعيدا عن الآخر “التعبير عن الذات أصعب من إقناع أمي أن الطفولة مرحلة وليست حياة” [3]أحمد راجح خالد، الكتابة في المنظور الحداثي، الموقد، ع 5، 2010، ص 12. لذا كثيرًا ما يلجأ الكاتب إلى تلك الحيل اللغوية والفنية والأسلوبية في إفشاء لوحات تعبيرية هو الآخر ربما لن يفهمها إلى بعد ما يكتبها، وكأن فعل الكتابة إنما حدث بغير وعي فغالبية الإبداعات التي امتزجت بالسير ذاتي إنما تكتب في حالة شرود من أجل القدرة على احتمال تلك الرواسب والمكبوتات التي ستظهر للعلن بعد أن فاضت وفضحت على أعتاب ذاكرة لم تعد تستوعب التخزين أكثر فكان لابد لها من التنفس في أوعية جديدة أكثر اتساعا واستيعابا من أجل منح بعض الراحة من خلال التعبير عن الذات.
الحديث عن السيرة الذاتية في الرواية إنما هو الحديث عن الفعل والقراءة بمعنى الحديث عن فعل التعبير عن الذات، والقدرة على استيعاب هذا القدر من السلبية أو الايجابية في المعطى الذاتي، والنفسي ومحاولة إخراجها للعلن بكل قوتها النفعية والضارة، وفعل القراءة يكمن في قراءة المجتمع كونه يمثل جزءا من الذاتية باعتبار أن الكاتب أيقونة مشَكّلة لهذا الصرح الكبير، والقدرة على التعبير عن أزماته وانكساراته، وحتى أحلامه فذاتية الرواية إنما ذاتية كبرى وصغرى أو معضلة الكتابة الذاتية العامة المشكلة لذات المجتمع وذاتية الأنا في الطرح [4]قاسم يوسف، استراتيجية التجريب في الرواية الحداثية، مجلة الأنبار، ع6، 2010، ص 6.
مساحة إعلانية
وعي الذات ونقل الأزمة:
مثلت الرواية ” إعادة إنتاج حياة يظهر فيها ما يميز الحياة نفسها: شخوص، أحداث، زمان ومكان، يصطرع فيها ما تضطرم به الحياة – أيضًا- من تعدد لغوي وفكري، وصراع أيديولوجيات ورغبات مختلفة” [5]المرجع نفسه، ص 22. عملت على استيعاب كل الظواهر الاجتماعية بكل خلفياتها، ومثلت صوت المجتمع في نقل أبعاده، وتسليط الكتابة على لفظ الجانب المسكوت عنه في التجاوزات والأزمات التي يرتوي بها حد الفيض عن الاحتمال في مراحل حياتية متتالية، نقلت ” أثر الوضع الاقتصادي والاجتماعي في فترة ومكان معينين على السلوك الإنساني ” [6]المرجع نفسه، ص 33. إذ مثلت بعض الأعمال الروائية في كل حدث أو نكسة وقع المجتمع في بوتقتها لسانا ناطقا يعبر عن الأزمة من خلال رفضها لتلك الممارسات، والمناهضة كفعل رد، وبرنامج مضاد على ما هو موجود ومن كل هذه الممارسات تنوعت التسميات التي التصقت بالرواية بمنظور نفعي براغماتي من الرواية الاجتماعية إلى الواقعية [7]المرجع نفسه، ص 12. من خلال استيعاب بطل الأعمال الروائية للوضع القائم، والتجاوزات، والممارسات الاجتماعية كونه جزءا من هذا الكل حيث تنطلق فكرة الكتابة من خلال ممارسة ذاتية تنطلق من الوعي التام للواقع المعاش.
يؤثث المبدع لمحطات السرد بصيغة المتكلم المجسد لنمط الكتابة الذاتية” وهناك من يصطنع ضمير المتكلم وهو تشكل خصوصا في الكتابات السردية المتصلة بالسيرة الذاتية” [8]عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ( بحث في تقنيات السرد) عالم المعرفة، ع 240، الكويت، 1998،ص 82. التي تتموضع كفعل سردي من خلال ما يعرف ب ” الرؤية مع”حيث تتبلور ذاتية الكتابة عند الكاتب” س” مثلا للتوضيح أكثر في رواية “أرخبيل الذباب” للروائي ” بشير مفتي” في الذاكرة الجمعية التي تبرز علاقات الكاتب من خلال بعض الشخوص التي مثلت في الرواية صور ناطقة ترسم بألوان الشتات، والضياع، وحتى الهلاك الواقع الراهن للجزائر أثناء المحنة
“حذارٍ أن لا تحمل دائماً بطاقة هويتك.. إن لم تحملها فأنت مجنون: سيضربونك، لن تكون واحداً منهم، لن تكون عظيمًا أبدًا، إن لم تحمل بطاقتك سيسبونك بأقذر الشتائم، سيتهمونك بأنك لقيط وكلب، أما إذا ناقشت فاللعنة عليك، سيرمون عليك كل قاذوراتهم وحتى البول.. سيبولون عليك.. أيها اللعين إذن حاول أن تفكر، لا تفكر مثل نفسك، فكر مثلهم، قل لهم بأنك جزء منهم وباسم الوحدة الوطنية لا تجادل في الثوابت، الواحد هو الواحد، الشمس هي الشمس، الكرسي هو الكرسي، الزعيم هو الزعيم، الزعماء هم الزعماء” [9]بشير مفتي، أرخبيل الذباب، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط1، الجزائر 2000، ص 20-21.
بهذا المقطع يتضح لنا جزءًا يسيرًا من تلك الممارسات القهرية التي كان يعيشها الجزائري في ظل المحنة والتي حدت من حريته في التعبير عن متطلباته التي يراها مطلبا شرعيا من حقوقه، وبالتالي هنا مثلت علاقة ” محفوظ” – من شخصيات الرواية – بالكاتب “س” – بطل الرواية – منصة سردية تمريرية للواقع الذي اغتالته السلطة بنظرته التي شكلتها مخيلته الكاتبة كتجسيد الفعل الذاتي من خلال شخوص تعمل على توضيح النظرة الخاصة كنوع من الوعي حول ما هو موجود.
“أبي إذ كان طيبًا ومثاليًا وعندما اعتقلوه… التهمة كنت سياسية فهو نقابي قديم… يردد في المقاهي (لن تسقط الاشتراكية.. لن تسقط الثورة العمالية… الموت للإمبريالية.. الموت لأمريكا.. كل تلك الشعارات قد كلفته غاليا” [10]بشير مفتي، ص 21-22. .
” صحيح لم تكن الأمور تسير بشكل حسن بالنسبة لأصدقائي، فمصطفى تعرض لحادث غريب، حيث اختطف وهدد ثم أطلق سراحه من طرف منظمة مجهولة، هددته بالقتل إذا أكمل كتابة مقالاته السياسية تلك” [11]بشير مفتي، أرخبيل الذباب، ص 137. .
“ابنة أب مسؤول في جهاز الدولة .. حقير ولص، يملك الأموال الكثيرة التي يبذرها على من يراهم شركائه في تسيير أمور البلاد.” [12]الرواية، ص 94-95.
بكل هذه الأمثلة يعصف الكاتب “س” بكل تلك الانكسارات والهزائم التي أعطيت الشعب الجزائري من نظام فاسد لقادة يهدمون أكثر ما يبنون فلا يتركون إلا الشعب يكتب بانكسار أحلامه يخرج الكلمات من جوف الجرح الغامق الذي أوصله للقبر دون إقامة صلاة جنازة عليه.
مثلت الكتابة السير ذاتية من هذا المنظور قيمة الوعي الكامن من رأي عام للواقع المعاش، ومحاولة النبش في ذاكرته والرمي به على صفحات الكتابة لإنصاف تلك المؤَسسة / المجتمع المنتمي إليها، ومن هذا المنظور التحديثي في تذويت الرواية وجعلها عدسة تلتقط الوقائع بمكيال تخييلي ينم على القدرة الإبداعية في المزاوجة بين الخيال والواقع في نصوص سردية نزع إليها العديد من الكتاب من أجل محاولة استدراك الذات العامة/ المجتمع وذواتهم الخاصة ومحاولة إنقاض الجانب المخضر الذي لازال يحاول بفعل الكتابة.
مساحة إعلانية
كتابة الأنا:
شكلت الانتكاسات المتتالية للبلدان العربية سواء كان ذلك قبل الاستقلال أو ما لحقها من أزمات في وقت محاولة التخلص من أثار المستعمر بعد الاستقلال خطرًا على الإنسان المثقف الذي كان يمثل نقطة تهديد من خلال مقدرته على استيعاب نوعية القوانين والممارسات المطبقة ليجد نفسه في وجه المدفعية كما يقال مهددًا ومحاصرًا حيث كان تصفية المثقفين أولى أولويات النظام، مثل هذا الوضع مادة خامًا للمبدع من أجل صياغة كل تلك التجاوزات في حقه، فلم تكن الكتابة سوى خيط الأمل الذي يكسر عتمة الأزمة التي فجرت سيلا عارما من إبداعات اتكأت على التاريخ، والواقع، والذات على الانهزامات، والانكسارات، والحلم، والضياع، والكتابة فجاءت ” أعمالهم فاضحة للقوانين والحكام والمجتمع والتقاليد” [13]المرجع السابق، 70. التي عملت على الحد من ممارسة الفعل المنوط بهم كونهم النخبة العالمة بما يمكن أن يكون بدل ما هو كائن وبالتالي تغييب الدور الايجابي الذي يمثله هذا النوع من التحديات.
لم يكن من المقبول في شيء مناهضة القوانين، ولا مناقشتها وإلا فإن السجن أو الموت أو التهجير حليف هؤلاء الكتاب فلم تكن كتاباتهم في زمن المحنة إلا سير ذاتية تترجم فشلها في محاولة إقامة دورها في تغيير الواقع المعاش إذ يذهب ” بشير مفتي” في روايته للقول” عالم يتشكل أمامي شخصيات تهرب من الأرض إلى الورق، تتحول إلى كينونات تختلط بكينونتي فأصاب بالأسى، إنها ليست من لحم ودم ولا من ورق، إنها جزء فقط من أرض الإشارات التي تلتمع في الذهن بالذاكرة، بالعقل بالحواس ثم تنفجر فجأة، اللغة تحبط عزائمي لأنها تفرج بصعوبة عن هذا الذي يحدث لي.” [14]بشير مفتي، أرخبيل الذباب، ص 106.
أصبح الفعل السردي مكتوبًا بلغة الضياع وتأزم الذات وفقدانها الاستقرار والأمل والتيه الذي تضاربت أسبابه ومخلفاته، فلم يكن من بدٍ إلا اللجوء إلى الكتابة بعد أن ضاقت بهم سبل الواقع وفق آليات جديدة أعطت الحرية التي انعدمت في الواقع، فعمد المبدع إلى خوض ثمار التجريب بخلق واقع متخيل مضادا للواقع من خلال جعل النص قادرا على استيعاب كل تلك التغييرات وبالتالي الإحالة إلى مؤسسة فكرية وفنية أعطتهم منظومة إبداعية مشروعة الإحساس بالوعي وأحقية الفعل والممارسة باستنزاف كل احتمالات الكتابة لخلق عالم بديل من خلال التعبير عن الذات والواقع.
الأستاذة: علي صوشة سهيلة
دكتوراه في الأدب المغاربي الحديث
الجزائر
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية

د. علي صوشة سهيلة من الجزائر، ناشطة في المجال الأدبي. متحصلة على شهادة الدكتوراه من جامعة محمد بوضياف مسيلة / الجزائر تخصص أدب مغاربي حديث، تهوى الكتابة خاصة في مجال الرواية.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | جليلة الطريطر، مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث (البحث في المرجعيات)، ج1، ج2، مركز النشر الجامعي، مؤسسة سعيدان كلية العلوم الانسانية والاجتماعية، د ط تونس، 2004، ص12. |
---|---|
↑2 | شعبان عبد الحكيم محمد، السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث رؤية نقدية، دار العلم والايمان، ط1، 2004، ص 72. |
↑3 | أحمد راجح خالد، الكتابة في المنظور الحداثي، الموقد، ع 5، 2010، ص 12. |
↑4 | قاسم يوسف، استراتيجية التجريب في الرواية الحداثية، مجلة الأنبار، ع6، 2010، ص 6. |
↑5 | المرجع نفسه، ص 22. |
↑6 | المرجع نفسه، ص 33. |
↑7 | المرجع نفسه، ص 12. |
↑8 | عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ( بحث في تقنيات السرد) عالم المعرفة، ع 240، الكويت، 1998،ص 82. |
↑9 | بشير مفتي، أرخبيل الذباب، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط1، الجزائر 2000، ص 20-21. |
↑10 | بشير مفتي، ص 21-22. |
↑11 | بشير مفتي، أرخبيل الذباب، ص 137. |
↑12 | الرواية، ص 94-95. |
↑13 | المرجع السابق، 70. |
↑14 | بشير مفتي، أرخبيل الذباب، ص 106. |