من رحم الثقافة، والتقانة ولدت أسطورة “قطار الشرق السريع، وسكة حديد الحجاز”. “أسطورة” لها نوافذ من خيال، وتلمس أوتار الجمال. “وثيقة” تبعث فضول المكاشفة الثقافية والتاريخية، وإعادة استقراء أحداث عالمية. وبين دوران عجلاتهما عبر القارات. انتقل ركاب، وحجاج، وبضائع، وخدمات، وثقافات. ودارت حروب، فاختفت إمبراطوريات، وظهرت دول، وممالك، وتكتلات. استقلهما “أشتات” من الناس، ونخب وشخصيات، وسايرا أحداثًا ومحطات. وحُكيت فيهما، وعنهما، حكايات ومقالات وروايات قبل أن تتوقف صافرتهما الأخيرة. إنها “حكاية”، لكنها ليست كباقي الحكايات!
في الزمان، يعود لأكثر من مئة وثلاثين عامًا. وفي المكان تمددت أطرافه. متنقلًا بين عواصم أوربية، ومدن عربية. من ضفة نهر “السين” بباريس، إلى إسطنبول، وبغداد، وحلب، وطرابلس، وحيفا، والقاهرة. ليناقض مقولة “الغرب غرب، الشرق شرق، ولن يلتقيان”. لقد فتح “قطار الشرق السريع” (1883ـ1977) الباب للتواصل الصناعي، والتجاري، والثقافي بين أوروبا ودول الشرق. ونقل “البوسفور” ليكون فى أحد ضواحى باريس، أو يجاور نهر “السين”. وقطع القطار الطريق إلى بغداد فى ثمانية أيام، وإلى القاهرة فى سبعة أيام. كما عبر ثلاث قارات: أوروبا، وآسيا، وإفريقيا فى رحلة واحدة.
ودشن لمرحلة من التواصل العالمى، حيث السياحة السريعة الأنيقة. بلا حدود. كما أتاح للمهتمين، والمغامرين، والنخب، والأثرياء إستكشاف المدن العربية في جو من “الفخامة، والخصوصية المٌبهجة”. فشكل “قطار الشرق السريع” خليطاُ من المغامرة، والمتعة، والتميز. وفي عربات نومه، وصالوناته، وغرف استقباله تفاصيل ذوق رفيع. وكان شاهدًا على مرحلة فنية غنية سادت الثلث الأول من القرن العشرين أطلق عليها اسم “آرت ديكو”. وكانت تزين جدرانه لوحات لأسماء كبيرة في عالم الرسم مثل “رينيه برو”، و”رينيه لاليك”. وحملت زواياه عبقرية الديكور، ولمسات الفخامة والرفاهية. تلمسها في الموائد، والكراسي، والأرضيات، والسجاد، والستائر، والثريات الخ. وفي في المطعم المهتز فوق نغمات البيانو، وفي الحجرات المجهزة بأسرّة تبعد عن أحلام النائم صدي طرق الحديد المتحرك. فكان قصرًا فريدًا يسير فوق سكة حديدية.
وقف خلف هذا المشروع. الثري البلجيكي “جورج ناجلميكرز” Georges Nagelmakers. فاقنع مدراء عدد من الخطوط الأوربية لتسيير قطار تتولى إدارته “الشركة الدولية لقطارات النوم والقطارات السريعة الأوربية”. ومستلهمًا قطارات “جورج بولمان” في الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد نجاح تجربته الأولى بتسيير قطار مجهز بين باريس وفيينا، وسَّع “ناجلميكرز” أعماله بتسيير “قطار الشرق السريع” الذي تم تدشينه باحتفال كبير في الرابع من أكتوبر عام 1883.
وفي رحلته الأولى سافر الركاب بالقطار من باريس إلى ميناء “فارنا” في بلغاريا، بعد عبور الدانوب على قوارب. ثم انتقلوا من “فارنا” إلى إسطنبول على متن باخرة، أبحرت بهم عبر البحر الأسود.وقطعت الرحلة مسافة 3050 كيلومترًا في 81 ساعة ونصف الساعة. وفي عام 1889 صارت الرحلة بكاملها بالقطار لمدة 67.5 ساعة فقط. ومنذ عام 1932، أصبح ـ حسب أيام الأسبوع ـ ينضم إلى القطار عربات قادمة من برلين، وأوستند، وأمستردام، وفيينا، وبراغ، وينفصل عنه قطار صغير يتوجه إلى أثينا.
ويشار إلى أن المسئولين عن القطار اضطروا للانتظار أعوامًا حتى سمح لهم شاه إيران بمد خط طهران – إسطنبول. وفي عام 1914 تم مد الشركة بـ 57 قطاراَ جديداَ على الخط القديم، وخط المغرب والقاهرة – الأقصر. مما نتج عنه انتعاشة سياحية لهذه البلاد وإقامة فنادق فاخرة لاستقبال الزوار والركاب مثل فندق “ونتر بالاس” بالأقصر. كذلك تم تشغيل خط تونس عام 1902 بعنوان “القطار الأبيض” واستمر نحو 16 شهرًا.
مساحة إعلانية
حكاية، بل “أسطورة” – قطار الشرق السريع
ومنذ رحلته الأولى، تبوء القطار مكانه ومكانته. فكان ركاب الرحلة الأولى نخبة من الصحافيين والكتاب والوجهاء. ومن أشهر من سافروا على متنه “ليوبولد الثاني” ملك بلجيكا، و”فرديناند الأول” ملك بلغاريا الذى كان يعشق ركوب القطارات. كما استقله الكاتب “بيير لوتي”، والفنانة “أسمهان”. وكان سائق القطار أو مديره يتولى إستقبال الركاب بنفسه وتلقى طلباتهم والعمل على تنفيذها، كما كان يقوم بجمع جوازات السفر فى حال عبور حدود الدول بالليل ليقدمها للمسئولين بنفسه حتى لا يتم إزعاج الركاب. وكان “جورج ناجلميكرز” قد حرص على أن يكون مشروعه “حكاية” تثير اهتمام الرأي العام، و”أسطورة” تتناقلها الألسن، وتكتب عنها الأقلام.
وباتت كل حادثة يمر بها “قطار الملوك، وملك القطارات” مثار اهتمام الجميع. فحين هاجمه لصوص عام 1891 كان الخبر يتصدر الصفحات الأولى للصحف. وكذلك خبر انتشار وباء الكوليرا في عرباته عام 1892. كما أنعشت فخامته، وسحر الشرق قرائح الكتاب والشعراء والفنانين والسينمائيين. فتحدث عنه الروائي الحائز على جائزة نوبل “هيرمان هيسه” في كتابه “رحلة إلى الشرق” (1932). وأسهم “جراهام جرين” في ذيوع شهرة القطار عالميًا. وكانت الروائية الشهيرة “أجاثا كريستي” تستقل القطار كثيرا فى طريقها إلى زوجها “ماكس مالوان” عالم الآثار في العراق. لكن القطار تعرض للتوقف بضعة أيام (عام 1929) في تركيا بسبب الثلوج الكثيفة. فما كان منها إلا أن ألهمت بروايتها “جريمة على قطار الشرق”(1934).
“جريمة في قطار الشرق السريع”
تعتبر رواية “جريمة في قطار الشرق السريع” (1934) Murder on the Orient Express من أكثر روايات “أجاثا كريستي” شهرة وتقديرًا من محبي الروايات البوليسية. وتدور أحداثها المثيرة داخل القطار. وتبدأ باستدعاء عاجل من رئيس وزراء إنجلترا للمحقق “هيركيول بوارو”. فيركب قطار “طوروس السريع” الذي سيقله إلى تركيا حيث مقصورته في الدرجة الأولى بقطار الشرق. وفي القطار ـ المزدحم بالركاب من مختلف الجنسيات على غير المعتاد في هذا الوقت من العام ـ تحدث الجريمة. وكان “بوارو” التقي السيد “راتشيت”، الأمريكي الثري الذي يظن أن حياته مُهددة. فيطلب من “بوارو” مساعدته إلا أنه يرفض قائلا: “وجهك لا يعجبني سيد راتشيت”. في ليلة اليوم الثاني من الرحلة، يتوقف القطار بسبب الثلوج الكثيفة قرب “فينكوفتشي” في يوغوسلافيا. وتزعج عدة أحداث “بوارو”، بما فيها صراخ من مقطورة السيد “راتشيت”.
حيث يصرخ السيد “بوك”، أحد معارف بوارو ومدير الشركة التي تسير قطار الشرق السريع، أن السيد “راتشيت” قتل باثنتي عشرة طعنة في جسده. ويطلب “بوك”من”بوارو” التحقيق في القضية لتجنب التعامل مع الشرطة اليوغوسلافية، فيقبل ذلك. وبعد معاينته لجثة ومقطورة السيد “راتشيت” التي كانت مغلقة من الداخل وقت الحادث، يبدو “بوارو” متأكدًا من هوية ودوافع الجريمة. كما كتبت فصول من الرواية في الغرفة رقم 411 بفندق “بيرا بالاس” بأسطنبول حيث كانت تقيم حينما تسافر إلي تركيا. كما أن حادثة اختطاف “أرمسترونج” الواردة في الرواية مقتبسة من حادثة اختطاف حدثت عام 1932. كما أن رسائل أجاثا لزوجها تصف فيها بعض الشخصيات التي قابلتها في رحلتها في قطار الشرق وحادث تعطل القطار.
حولت هذه الرواية إلي أعمال سينمائية وتليفزيونية جيدة ثلاثة مرات. ومن أشهرها الإنتاج السينمائي الضخم عام 1974 للمخرج “سيدني لوميت”. وضم الفيلم عددًا من كبار النجوم على رأسهم “ألبرت فيني” في دور المحقق “بوارو”، “شون كونري”، و”جاكلين بيسيه”، و”انجريد برجمان” الخ. ونظرًا لحساسية “أجاثا كريستي” من تحويل رواياتها لأفلام فقد اضطرت شركة EMI Films المنتجة له بالاستعانة بالأمير “لويس مونتباتن” حفيد الملكة “فيكتوريا” وأحد أصدقاء أجاثا لإقناعها بذلك. فشاهدت الفيلم، ولم تضق به على عكس المعالجات السابقة لأعمالها.
أما المعالجة الثانية فكانت فيلمًا تليفزيونيًا، قام فيه الممثل “ألبرت مولينا”بدور”بوارو”. وعرض سيناريو العمل الأحداث المعاصرة لوقت إنتاجه عام 2001 وليس في الثلاثينيات وقدم “مولينا” بملامحه وأدائه معالجة درامية لشخصية “بوارو” حيث استبدل الصفات التي رسمتها الرواية بأخرى أكثر معاصرة. ثم جاءت آخر المعالجات الدرامية عبر الفيلم التليفزيوني “أجاثا كريستي. بوارو”، وجسد بطولته “ديفيد سوشيه”.
مساحة إعلانية
مراحل، ومحطات – قطار الشرق السريع
حلُم صاحبه يحلم بربط شمال إفريقيا بأسبانيا وإيطاليا ليتمكن القطار من المرور بدول البحر المتوسط فى 11 يومًا. لكن مع نشوب الحرب العالمية الأولى توقفت خدمات القطار، ثم استؤنفت عام 1919، وصار يعرف باسم «قطار سيمبلون ـ الشرق السريع» Simplon Orient-Express، لأنه يجتاز جبال الألب عبر نفق سيمبلون الشهير بين سويسرا وإيطاليا، ويربط وسط أوربا بجنوبيها. ويعد من أطول الأنفاق في العالم (20 كم).
وقد اختيرت كاليه Calais على المانش محطة لانطلاقه، ومنها إلى باريس، ثم لوزان (سويسرا)، ويجتاز ممر “سيمبلون” ليصل إلى ميلانو Milan فالبندقية ومنها إلى زغرب فبلغراد (يوغوسلافيا) ثم صوفيا (بلغاريا). وقد توقفت خدمات هذا القطار مرة أخرى مع نشوب الحرب العالمية الثانية واستؤنفت مجددًا عام 1947. ولم يستعد القطار مكانته المرموقة بعد الحرب العالمية الثانية. واستبدلت بعرباته الفاخرة عربات نوم ومقصورات عادية. لكنه حافظ على تسميته إلا أن رحلته اقتصرت على باريس، وفيينا، وبودابست. وبعد عقود من الزمن. تضاءلت أعداد ركابه شيئًا فشيئًا، حتي توقف عن العمل نهائيًا عام 1977.
غير أن رجل الأعمال الأمريكي “جيمس شيروود”James Sherwood أعاد إحياء القطار عام 1982. وغدا اسمه “قطار البندقية، سيمبلون الشرق السريع” Venice Simplon Orient-Express، ويقوم برحلاته من لندن إلى البندقية على محاور عدة.
ومؤخرًا. تنوي فرنسا إحياء “قطار الشرق السريع” وإطلاقه بحلول العام 2020. لذا ففد أعادت التذكير به عبر معرض (من 4 إبريل- نهاية أغسطس 2014) لبعض عرباته ومقتنياته في معهد العالم العربي بباريس، وجذب 251 ألف زائر.
وشكل المعرض “حدثًا ذا قيمة كبيرة على الصعيدين الفكري والفني. فسمح بالغوص في فترة تاريخية درامية إثر انهيار السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية الهنغارية، وتشكل العالم العربي، وقيام الإستعمار وانتهائه”. ولقد حقق القطار بامتداداته بخطوط السكك الحديدية في تركيا والدول العربية، معتمدًا مرات على خطوط “طوروس إكسبريس”. وفي الجنوب على بعض سكة حديد الحجاز. ليتقاطع مع “حكاية” اخري لا تقل روعة وإبهاراُ عن حكايته الخاصة.
سكة حديد الحجاز – قطار الشرق السريع
كان حلمًا بعيد المنال. “خط شمندفر الحجاز”، أو “خط حديد الحجاز الحميدي”. هكذا عُرف في السجلات العثمانية. فوسط مراسم رسمية مهيبة. انطلق في الأول من سبتمبر عام 1908م ـ وبعد ثمانية أعوام من العمل الشاق المتواصل ـ القطار البخاري، بدخانه الكثيف. قام من “حيدر باشا” بإسطنبول مارًا بعمَّان، ومعان، وتبوك، ومدائن صالح وصولا إلى المدينة المنورة. وكان في خطة المشروع الإمتداد إلى مكة المكرمة، ثم إلى جدة.
وتحقق هذا الجزء الكبير من المشروع في عهد السلطان “عبد الحميد” الثاني. لسعيه الحثيث لإيقاف تداعي الدولة العثمانية. ويتحدث السلطان في مذكراته عن الخط الحجازي بقوله: “أخيرًا تحقق الخط الحجازي؛ ذلك الحلم الذي طالما راود مخيلتي. فذلك الخط الحديدي لم يكن فقط مصدرًا اقتصاديا للدولة العثمانية، بل كان في الآن ذاته يمثل مصدرًا بالغ الأهمية من الناحية العسكرية من شأنه تعزيز قدرتنا العسكرية على امتداده”.
مساحة إعلانية
غايات عدة – قطار الشرق السريع
ثمة غايات دينية واقتصادية وعسكرية وسياسية دفعت السلطان لإنشاء هذا الخط الحجازي، مع شبكة تلغرافية. استهدف الخط الحجازي خدمة حجاج بيت الله الحرام من خلال توفير وسيلة سفر آمنة، وسريعة، ومريحة، وأقل كلفة. فتجنب الحجيج غارات البدو ومخاطر الصحراء، برًا، وهجمات القراصنة، بحرًا. مما سينعكس علي زيادة عدد الحجاج، وما يشكل ذلك من حركة اقتصادية رائجة. كما قام القطار بمهمة عريقة، عبر تسهيل إرسال “الصرة السلطانية” إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. حيث كان السلاطين العثمانيون ـ بدءأً من السلطان “يلديرم بايزيد”، وكتقليد يرجع إلى العباسيين ـ يرسلون أموالًا. فكانت “الصرة السلطانية” تبدأ رحلتها في بداية كل ثلاثة أشهر عبر الطريق البري. وعرفت الطريق البحري مع استخدام السفن البخارية عام 1864م، ثم أصبح لها مكانها الخاص في القطار الحجازي بعد عام 1908م.
وكانت أموالها مخصصة للإنفاق على الخدمات، مثل شؤون الإعمار والإصلاح وغيرهما، ودفع رواتب العاملين. كما كانت أيضًا مصدرًا من مصادر توفير الراحة وتيسير مناسك الحج لزوار بيت الله الحرام. إضافة إلى أن القطار الحجازي وفر لوفد “الصرة السلطانية” رحلة سريعة ومريحة وآمنة. كما كان لغير المسلمين الحق في استخدام المحطات البينية على خط حديد الحجاز. غير أنه لم يكن مسموحًا لهم الوصول إلى المدينة المنورة. وكانت القطارات تتحرك على نحو لا يخل بأوقات الصلاة. فإذا ما دخل وقت الصلاة توقف القطار وتوجه الركاب لأداء الصلاة في العربة المخصصة لذلك.
واستهدف الخط الحجازي إنعاش الإقتصاد الراكد بالمنطقة والمدن الواقعة على امتداده. وحيث يوفر سرعة وسهولة نقل وترويج وتبادل المنتجات الزراعية والصناعية. لذا كان من المخطط له مد الخط لأحد موانئ البحر الأحمر. ومن ثم سترتبط طرق التجارة بين قناة السويس ومدن خط حديد الحجاز. كما استهدف تسهيل التحركات العسكرية وحشد الجيوش بُغية التصدي لهجمات خارجية قد تتعرض لها مناطق الحجاز والبحر الأحمر واليمن. مع إحكام السيطرة على البقاع الجغرافية غير المستقرة، للحفاظ على وحدة أراضي الدولة العثمانية. ومن ثم تشعر المنطقة بقوة الإدارة المركزية. ومع إنجاز المشروع العملاق، وتحقيق غاياته، بتمويل وكوادر عثمانية، سيتبين للدول الطامعة في نهش “جسد الرجل المريض”، أنه يمكن تحقيق منجزات حضارية دون الحاجة إليها. ومن ثم تحقيق قدر من “الاستقلالية” للدولة العثمانية عن أوربا.
لذا أوكل السلطان “عبد الحميد” الثاني مهمة تنفيذ المشروع لـ”أحمد عزت باشا العابد” والمعروف باسم “عزت باشا العربي”. وتضمن إنشاء خط سكة حديد الحجاز ليربط بين خط سكة حديد الأناضول وخط سكة حديد بغداد.وكذلك تأسيس شبكة اتصال تلغرافية بمحاذاة ذلك الخط الحديدي. لسهولة وسرعة عمليات الاتصال والمتابعة بين مركز الدولة العثمانية وولاياتها في الشام والحجاز. وقد أصدرت الإدارة السلطانية قرارًا بالبدء في إنشاء خط حديد الحجاز في الثاني من مايو عام 1900م، وفي الأول من سبتمبر من نفس العام، والذي وافق العام الخامس والعشرين لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني على العرش، تم تدشين العمل في الخط بين الشام ودرعا في احتفال رسمي مهيب.
ووصل خط الحجاز إلى عمّان عام 1903م، وإلى معان عام 1904م. وفي الأول من سبتمبر عام 1905م اكتملت المرحلة الأولى من خط الحجاز، وانطلقت أولى رحلات القطار بين الشام ومعان لنقل الركاب والبضائع. وفي الأول من سبتمبر 1906م وصل الخط إلى مدائن صالح، ثم في 31 أغسطس 1908م وصل إلى المدينة المنورة. وخلال الثمانية أعوام التي جرى فيها تنفيذ خط الحجاز وصل طول الخط إلى 1464 كم. ومع إضافة الخطوط الفرعية الأخرى في المراحل اللاحقة بلغ طول الخط 1900 كم عام 1918م.
وكان الجيش العثماني المصدر الرئيس للقوة العاملة في إنشاء خط حديد الحجاز. مما خفض كثيرًا من نفقاته. وساهم أيضًا في إنشائه عمال من مناطق في مقدمتها “سوريا”، و”العراق”.
حيث قاموا بشق الطرق عبر الفيافي والقفار والجداول والوديان. وتولى منصب كبير مهندسي الأعمال الفنية، مهندس ألماني يُدعى “مايسنر باشا”، وعمل تحت قيادته أربعة وثلاثون مهندسا، سبعة عشر منهم عثمانيون والآخرون كان معظمهم من الألمان. بالإضافة إلى مهندسين من إيطاليا وفرنسا والنمسا وبلجيكا واليونان. وبعد وصول الخط الحديدي لمحطة “مدائن صالح” أصبح الجزء المتبقي من الخط داخل حيز المنطقة الحرام. ولما كان من المحظور شرعًا دخول غير المسلمين إلى هذه المنطقة، فقد جرى إنشاء الخط الواقع بين “مدائن صالح” و”المدينة المنورة” بأيدي مهندسين وعمال مسلمين.
ومع تقدم العمل في المشروع ازدادت خبرة العثمانيين، وقل عدد المهندسين الأجانب. وتميز خط حديد الحجاز بعمل الكثير من المهندسين المسلمين، قياسًا بخط حديد الأناضول، وخط حديد بغداد.ولقد انتشرت شواهد قبور العثمانيين وغيرهم الذين قضوا خلال العمل في خط سكة حديد الحجاز بجوار محطات القطار. فقد شهد عام 1908م وحده أكثر من 126 غارة من غارات البدو على خط حديد الحجاز. فضلًا عن مشكلات نقص المياه وظهور بعض الأمراض وتدخلات الدول الأجنبية. وهو ما يعطي مؤشرًا لفهم أسباب البطء في تنفيذ المشروع.
مساحة إعلانية
تحديات المشروع
تلقت أوربا الإعلان عن الخط الحجازي بدهشة بالغة، واعتبرت إقدام الدولة العثمانية على مشروع مثل هذا ضربًا من الخيال، حيث كانت في وضع اقتصادي متدهور أوشكت فيه على الإفلاس بسبب ديونها. وتطاولت بعض الصحف الأوربية على المشروع بالاستهزاء والسخرية، وخصصت لذلك أخبارًا مطولة ورسومًا كاريكاتيرية بذيئة. ومع التقدم في إنشاء الخط، أخذت الدول الأوربية تضع العراقيل للحيلولة دون إكماله. وكانت بريطانيا وفرنسا في مقدمة هذه الدول. فأسرعت تلك الدول للحيلولة دون مساندة الشعوب التي تخضع للاستعمار البريطاني لهذا المشروع، حيث قامت بنشر الشائعات بين المسلمين الهنود الذين يقومون بالتبرع لإقامة الخط، بأن “التبرعات لا تُستخدم في إنشاء الخط الحجازي”. لكن استمر المسلمون الهنود في جمع التبرعات. كما حظر الإستعمار البريطاني على مسلمي الهند تعليق “وسام خط حديد الحجاز” الذي يُمنح لكبار المتبرعين.
وقد سعت بريطانيا إلى استعمال شتى الطرق لانسحاب العثمانيين من الأراضي المقدسة بعد الحرب العالمية الأولى. ومما يلفت النظر أن تعطيل خط حديد الحجاز كان أول ما قامت به بريطانيا بعد انسحاب العثمانيين من مكة والمدينة المنورة. ومن ثم شعرت بارتياح شديد بعد أن قامت بقطع الروابط بين الأناضول وشبه الجزيرة العربية. أما فرنسا فقد سعت لفرض القيود والعقبات أمام إنشاء خط حديد الحجاز من خلال الموانئ التابعة لإدارتها؛ حيث فرضت ضرائب جمركية باهظة على مستلزمات خط الحديد، وعطلتها داخل الموانئ فترات طويلة. هذه العقبات أبطأت من معدل إنجاز الخط، إلا أنها لم تستطع إيقافه. واكتمل خط حديد الحجاز، ومعلنًا أن قلب “الرجل المريض” لا يزال ينبض بالحياة.
تمويل سكة حديد الحجاز
لم يفكر السلطان “عبد الحميد” الثاني في الحصول على أي قروض خارجية لتمويل إنشاء خط حديد الحجاز. وكانت الدولة العثمانية قد خصصت 18% من ميزانيتها لإنشاء الخط، بيد أن تلك النسبة اعتُبرت ضئيلة للغاية عندما تم الإعلان عن أن إنشاء الخط سيتكلف نحو ثمانية مليون ليرة عثمانية. ومن ثم برز الإحتياج الشديد للأموال اللازمة لتنفيذ المشروع. لذا كانت التبرعات – للمرة الأولى في تاريخ السلطنة- المصدر الرئيس لتمويل هذا المشروع الضخم. فكان تمويل خط حديد الحجاز من تبرعات المسلمين في شتى أنحاء العالم. دون أن تشوبه أي مساهمة من الدول الأجنبية على النقيض من خطي سكة حديد الأناضول وبغداد اللذين أقيما بتمويل أجنبي. وأصبحت التبرعات التي تم جمعها من الضخامة ما تكفي لإنشاء ثلث الخط الحجازي.
وحرصت الدولة العثمانية على تكريم المتبرعين بمنحهم نياشين وأوسمة مصنوعة من الذهب والفضة تخليدًا لذكرى الخط الحجازي. وإضافة إلى ما تم جمعه من تبرعات، فقد اضطرت الدولة العثمانية إلى الإقتطاع الإجباري (دون شكوي أو تذمر) من مرتبات موظفي الدولة من أجل الإسهام في إنشاء الخط. وأصدرت طوابع تمغات متعددة الفئات المالية في كافة دوائرها الحكومية والبيروقراطية، وجمعت جلود الأضاحي وباعتها وحملت عائداتها إلى ميزانية المشروع. إضافة إلى أن نظام البدء الفوري في تشغيل رحلات الركاب والبضائع في الأجزاء التي اكتملت من الخط الحديدي، كانت مصدرًا آخر من مصادر التمويل. ورغم الانتهاء من إنشاء المشروع الحجازي، وانسحاب العثمانيين من المنطقة مع حلول عام 1918م، وتخريب الخط ونسف جسوره وانتزاع قضبانه مع نشوب الثورة، إلا أن التبرعات لم تتوقف.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
قطار الشرق السريع
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.