تعيش طيور أبي منجل، وتهاجر في أسراب كبيرة. وهي تطير كل صباح إلى أماكن الغذاء التي قد تبعد ثلاثين كيلو مترًا أو أكثر وتعود إلى أعشاشها عند العصر. وتقتات على الضفادع، والقشريات، والأسماك الصغيرة وغيرها من الكائنات البحرية. وقد تصطاد من وقت لآخر سحلية أو ثعبانًا صغيرًا، وبعض الحشرات. ويتميز طيرانها بأسلوب خاص حيث تحلق في صفوف مائلة تأخذ شكل الحرف “V”. وتطير في نسق معين على مسافة قريبة من الطائر “القائد” حيث يتصدى وحده لمقاومة الهواء على أن يتولى كل طائر مركز المقدمة على فترات منتظمة. وتساعد هذه الطريقة “الذكية” على توفير الطاقة والجهد أثناء الطيران. وأدرك الإنسان هذه الطريقة واستخدمها في سباقات الدراجات لتوفير جهد المتسابقين. (أبو منجل)
ومن بين الخصائص المدهشة التي يتميز بها أثناء التحليق خفق أجنحته لبعض الوقت حتى ترتفع عن الأرض. ثم يتوقف طائر المقدمة عن التخفيق بأجنحته وينساب في الهواء بسرعة الرياح، كما لو كان طائرة شراعية. ثم تتوقف باقي طيور السرب عن التخفيق بأجنحتها، تباعاُ، كما لو كانت قد تلقت أمرًا من قائدها. وبعد برهة، يبدأ “القائد” في التخفيق بأجنحته مرة أخرى وتعقبه باقي الطيور حتى تصعد إلى إرتفاع أعلى في السماء. وتقيم طيور أبو منجل أعشاشها في تجمعات ضخمة، وفي مكان واحد. وبعد أن كانت أسرابها تقدر بالآلاف قبل نصف قرن، أصبحت أعدادها، الآن، محدودة بسبب أنشطة صيدها، والأنشطة التنموية الإقتصادية.
أنواعه – أبو منجل
ينتمي “أبو منجل” (ثريسكيورنيثيدي) لفصيلة الطيور الخواضة. وتضم عائلته حوالي ثلاثين نوعاً تنتشر في المناطق الدافئة والمدارية من العالم. وهو يفضل الأراضي الرطبة، والمياه الضحلة، والمستنقعات، والبرك، سواءا الداخلية أو على الساحل. وتنقسم العائلة إلى مجموعتين: “أبو منجل”، و”أبو ملعقة” (يشبه الأول إلى حد كبير). وفي الجزء الجنوبي من أميركا الشمالية يوجد أبو منجل الأبيض الأمريكي Eudocimus Albus.
أما في أمريكا الجنوبية فيوجد نوعاً آخر لا يقل جمالاً وهو “أبو منجل القرمزي أو الأحمر/ يودوسيموس رابر E.ruber. ويتميز بريشه الأحمر الفاقع (يشبه لون الفلفل الأحمر الحار). وتحلق طيور أبو منجل القرمزي التي تعيش في مستعمرة ضخمة على جزيرة ترينداد إلى فنزويلا وجزر جويانا وتنتشر على مساحات ضخمة للغاية يصعب حمايتها. وتزداد قوة لون أبو منجل القرمزي بسبب وجبته المفضلة من القشريات الصغيرة التي تحتوي أجسامها على نسبة عالية من الأصباغ. وتنتج هذه الكائنات الصغيرة التي تشبه الجمبري مواد تلوين كيميائية معقدة من الأملاح الموجودة في مياه البحر، ولهذا السبب فإن طيور أبو منجل القرمزي الموجودة في حدائق الحيوان لا تكون بنفس درجة ألوان الطيور التي تعيش في الطبيعة رغم أنها قد تكون في حالة صحية جيدة.
ويتميز أبو منجل “المصري” Ibis بريشه ذو اللونين الأبيض والأسود. وبساقين طويلتين، ومنقار طويل، ورفيع، ومنحن للأسفل. يصل طول جسمه نحو قدمين (65 سم). ويعيش في مستعمرات كبيرة العدد. ويتغذى على الحشرات الأرضية، والأسماك، والعوالق المائية. ويتصف بالهدوء، والصبر عند البحث عن غذائه. بينما يطير في خطوط مائلة أو علي شكل رقم سبعة (مما يقلل مجهود مقاومة الرياح). ويصنع أعشاشه من العصي، ويتكاثر في مجموعات، ويبيض 2-4 بيضات. ولأبي منجل أهمية كبيرة عند المزارعين حيث يلعب دوراً هاماً في السيطرة علي الآفات الزراعية. لكن استخدام المبيدات الحشرية تسبب في تناقص اعداده بشدة مما جعله مهدداً بالإنقراض في العديد من مناطق. وحالياً.. لا يعيش أحفاد “أبو منجل المُبجل” في حوض نهر النيل، إلا أنه لايزال يستوطن أجزاء أخرى من أفريقيا (مثل جزيرة مدغشقر)، وفي جنوب آسيا وأستراليا.
مساحة إعلانية
طائر عريق
لأبي منجل سجلات حفرية تعود لنحو 60 مليون سنة. وهو عند قدماء المصريين “رمز المعرفة، والعلم، والكتابة”: (البحث وليد المعرفة – والمعرفة تهدى الى العلم والحكمة. إذاً هذا الطائر رمزاً للحكمة والمعرفة). ومن حكمه :”إذا كنتوا تريدون حضارة فعلموا أولادكم الزراعة والكلام والغناء” . وكان المصريون القدماء يعتقدون أن الطيور، من بين كل الكائنات، هي التي تستطيع الكتابة. واختصوا بهذه القدرة طائر “أبي منجل” (ثريسكيوميس أيثيوبيكا) وأطلقوا عليه اسم “تحوت”. وظهرت صورة “تحوت” يحمل رأس أبي منجل وجسم إنسان على جدران المقابر والمعابد الفرعونية في مختلف أنحاء مصر. حيث كان يظهر في مشاهد تتويج الملوك وكانت مهمته أن يؤرخ لسنوات حكم الملك ويكتب أسماء العائلة المالكة على أوراق الشجرة المقدسة في هليوبوليس. كما يكتب أحداث العالم ويرويها وهو مخترع الكتابة واللغة والمسئول عن قياس الوقت، وصاحب التقويم المصري. وكان راعي المخطوطات وحارس العلوم السرية والشعائر المقدسة ومسئولاً عن حفظ نظام العالم، والتحكيم في المنازعات مع الإلهة “معات” إلهة الحق والعدل.
ويبدو الربط بين هذا الطائر وبين حفظ التقويم ومعرفة فنون الكتابة أمرًا خياليًا بعض الشيء. ولكنك إذا ما لا حظت سلوك أبو منجل “المُبجل”، فقد كان يظهر مع فيضان النيل ويختفي بانتهائه. وكان الفيضان هو أهم أحداث العام لدى المصريين القدماء كونه مصدر الخير والرخاء. وكانت الاحتفالات والمراسم المهمة ترتبط بالفيضان. وكان التقويم يقاس بموعد حلوله (مرة واحدة كل عام) ويتزامن مع ظهور أعداد كبيرة من طيور أبو منجل. وربما تكون القدرة على الكتابة قد ألصقت بهذا الطائر نظرًا للطريقة التي يحرك بها منقاره المقوس في المياه الضحلة بحثاً عن الطعام وأسلوب التقاطه للحشرات من الأشجار التي كان يعشش عليها. حيث إن منقاره يشبه وسيلة الكتابة. كما أن طريقة تحريكه لرأسه ومنقاره تشبه طريقة تحريك اليد وهي ممسكة بالقلم.
ويقول “أ . ج . سبنسر” عن “جبانات الحيوانات المقدسة” ضمن كتابه “الموتى وعالمهم فى مصر القديمة”: (وجد فى “تونا الجبل” سراديب سفلية تعود إلى العصر المتأخر والعصر اليونانى الرومانى. وهى مكرسة لدفن طيور “أبى منجل، وقردة البابون“. وكلاهما يمثل المعبود “جحوتى” رمز العلم والمعرفة، ورسول الألهة للبشر، ومبلغ تعاليمهم (أكتشفها عالم الأثار المصرى “سامى جبرة”). وبهذه الدهاليز كوات فى الحائط لدفن طيور أبى منجل. وكانت تلك الطيور المٌبجلة توضع فى نعوش صغيرة من الخشب أو الحجر. وغالبا ما يزين غطاؤها بصورة منحوتة للطائر.
وفي بعض الممرات.. توجد صفوف من تلك الصناديق تحت الأوانى المكدسة التى تحتوى على دفنات الطائر. ويمتد الصف بعرض الممر ويحتوى على ثمانية صناديق. ويستشف الكثير من المعلومات من قطع الفخار المكسور التى دون عليها المصريون بالخط الديموطيقى ملاحظاتهم، وتركوها فى الموقع. ومنها ما يذكر كميات الغذاء التي تكفى لإطعام ستين ألف طائر من طيور أبى منجل. وقد قدر متوسط عدد الطيور التى كان الكهنة يدفنوها كل عام فى سقارة بعشرة ألاف طائر وسط إحتفال رسمي. ويتضمن الإحتفال موكباً جنائزيا من الكهنة، يتجه نحو دهاليز الدفن.
مساحة إعلانية
تجربة إكثاره بحدائق حيوان الجيزة
تمت محاولة رائدة لإكثار طائر “أبي منجل” المُبجل في الأسر. فأُحضر ـ عام 1952ـ عدد 2 زوج من السودان. وتم تعديل غذائها، فتحولت من آكلة حشرات (الجراد والخنافس وبعض الثعابين الصغيرة) إلى آكلة أسماك وبعض الحبوب، الأصناف الغذائية. وفيما بين 1953- 1968 وصل عددها إلي 24 طائراً. نفق منها واحد، وأُهديت حديقة حيوان لندن إثنين منها، وأكملت التجربة بالباقي (21 طائراً). وخلال عشر سنين (1969- 1979) وصل العدد إلي 53 طائراً، نفق منها تسعة عشر، وأكملت التجربة بـ 34 طائراً. ومن ثم زاد عددها في العشر سنين التالية ليصل إلي 46 طائراً، نفق منها خمسة طيور، وأهدى ثلاثة إلى معهد البرديات، وأكملت التجربة بعدد 38 طائراً.
صفوة القول: للطير “نصيب الأسد” من ثقافة البشر. فلقد تكرست بينهما “علاقة خاصة” مازال الكثير من آثارها شاخصاً في عطاءات الحياة، والأدب، والشعر، والفن. كما اتسع نطاقها، وامتد من عصور “الأساطير”، حتي عصر غزو الفضاء. فعنها أطقلت أساطير، وقرضت أشعار، وسُطرت أنثار، ونسجت أمثال، وسجلت مأثورات، ورويت حكايات، وتنامت استثمارات، ونضجت زراعات الخ. ولقد كانت، ومازالت، مثار إعجاب وشغف البشر. ويبقي “أبو منجل” طائراً فريداً متميزاً.. شكلاً، وطيراناً، وعراقة، وتبجيلاً كرمز “للمعرفة، والعلم، والكتابة، والتقويم المصري القديم”.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.