لعل الأقوال الأخيرة للصالحين والأبرار – شفهية كانت أم مكتوبة – هي أبقي وأمضي أقوالهم على مر سنين حياتهم. وإذا كان البعض يتحفظ على بعضها، وملابسات قولها.. حالاً، وشعوراً،ً ومقالاً، وانتساباً. إلا أنها تبقي خلاصة حياة صالحة، وثمرة فكر، وعصارة تجربة، وعمق ثقافة، وتقرير رؤية، وحكمة عمر. فضلاً عن وجازتها، وبلاغتها، ودلالتها، وكونها “وصية مودع” تثير كثيرًا من التأمل والتفكر والتدبر.
نادراً ما تكون آخر الكلمات تعبر عن السعادة والرضا بالممات. ومع ذلك تذكر الروايات أنه لما حضرت الوفاة مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم “بلال بن رباح” (توفي بالشام عام 20 هـ) قالت زوجته: واحزناه.. فكشف الغطاء عن وجهه.. وقال: “لا تقولي واحزناه، وقولي وافرحاه”. ثم قال: “غداً نلقى الأحبة محمداً، وصحبه”. وكان أمير المؤمنين “علي بن أبي طالب” (23 ق.هـ/ 599م – 40 هـ/ 661م) رضي الله عنه، يؤم المسلمين بصلاة الفجر في مسجد الكوفة، وأثناء الصلاة ضربه “عبد الرحمن بن ملجم” بسيف مسموم، فقال جملته الشهيرة: “فزت ورب الكعبة”.
يؤثر عن “خالد بن الوليد” (توفي 21هـ/642 م) رضي الله عنه – لما استقر به المُقام في حمص، من بلاد الشام، وجاءه الموت، قال: “لقد شهدتُ مائة زحف أو زُهاءَها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةٌ أو طعنة أو رَمْية، ثم هأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء”.
وبكى “سلمان الفارسي” رضي الله عنه حين وفاته. فقيل له: ما يبكيك؟ قال: “عهدٌ عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “ليكن بلاغُ أحدكم كزاد الراكب”. قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا فيه إلا إكافًا ووطاءً ومتاعًا قُوِّمَ نَحْوًا من عشرين درهمًا. وكان “سلمان” من المعمّرين، توفي بالمدائن في خلافة “عثمان” رضي الله عنه، قيل: سنة اثنتين وثلاثين. وقال “لويس كارول” (1832- 1898): “تقاسموا الوسادات لن أحتاج لها مرة أخرى!”. وعن زاد آخر.. قال “الفضيل بن عياض”(أحد أعلام التصوف في القرن الثاني الهجري): “آه.. وابعد السفر، وقلة الزاد”!
ولما حضرت الوفاة الإمام العالم “محمد بن سيرين”(توفي 110هـ) بكى، فقيل له: ما يبكيك؟. فقال: “أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية”.
ولما دخل “المزني” على “أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي” (150هـ/ 766م- 204هـ/820م) في مرضه الذي توفي فيه فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبدالله ؟! فقال “الشافعي”: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول:
ولما قسـا قلبي و ضاقـت مذاهبي
جـعـلت رجـائي نحـو عفـوك سلـمًا
تعاظـمــني ذنبــي فلـما قرنتـه
بعـفــوك ربـي كـان عفوك أعظـمًا
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل
تجـود وتعـفـو منـــــــــة وتكـرمـًا
وقال الخليفة “المأمون” (170- 218هـ): “أنزلوني من على السرير. فأنزلوه على الأرض، فوضع خده على التراب، وقال: يا من لا يزول ملكه إرحم من قد زال ملكه”.
وصفوة القول: (الأقوال الأخيرة للصالحين والأبرار)
عديدة هي الأقوال الأخيرة لمشاهير وعلماء ومثقفي وفناني العالم. ولعل آخر أقوالهم التي ينطقون بها تحمل خلاصة أفكارهم، وقناعاتهم، وثقافتهم، وفلسفتهم في الحياة. وتبقي مفيدة في بابها.. عبرة وتبصرة، ووعياً وثقافة.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
(الأقوال الأخيرة للصالحين والأبرار)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.