لقد انتشرت ظاهرة “التسول” في المجتمع، حيث تفنَّن فيها المتسولون وابتكروا لها من الحيل والوسائل ما يُرِغمون به الناس- دون حق- على بذل أموالهم، غير مدركين أنهم- في مقابل ذلك- يبذلون كرامتهم وحياء وجوههم.
وللأسف لم تكن الجهود المبذولة لمعالجة انتشار هذه الظاهرة بالكمِّ والكيِّف المناسبين، فإلى جانب غياب الرادع السلطاني، تراجع الوازع الديني لدي كثير من السائلين، بسبب عدم التوظيف الأمثل للخطاب الديني لتحقيق التوازن بين الحق في المسألة وواجب الإمساك عنها، فجاءت حاجة الفقراء والمساكين للصدقة والعطاء على حساب حاجتهم لعزة النفس والكرامة، وعلا صوت السؤال على صوت العمل، وتقدم الثناء على المنفقين الصادقين على ذم السائلين الكاذبين. فظهر “التسول” بمعناه الواسع، وانتشر في أغلب المجتمعات بكل طوائفها ومستوياتها، حتى أصبح “وباء يُخشى من تفشيه”.
مساحة إعلانية
وللتسول وجوه عديدة، منها الصريح ومنها الضمني، فكل صورة يستعطي فيها الإنسان على حساب عزته وكرامته وحيائه هي في الحقيقة “تسول مستتر”، مهما أُطلق عليها من تسمية.
، عندما يُطلب باسم الفقر والحاجة، بلا نية جادة لرده، هو في الحقيقة صورة من صور “التسول”. وادعاء الفقر لمزاحمة المستحقين -دون وجه حق- فيما تقدمه الدولة والمؤسسات من إعانات ومعونات، يعتبر صورة من صور “التسول”. ومطل الغني ولي الواجد، الذي يرتدي ثياب العسر وعدم السعة، والهدايا والمجاملات، التي تُؤخذ بسيف الحياء، . وحضور الحفلات والموائد بغير دعوة أو استحقاق، . لما في ذلك من بذل ماء الوجه، والتضييق على الفقراء والمحتاجين.
في الواقع، “التسول” في هذه الأيام وجد فيه أصحاب النفوس الضعيفة ملاذهم واستأنست به نفوسهم الهلوعة، وراحو يتفننون في خلق الأعذار والمبررات.
وللأسف، فإن عدم زجر “ممتهني التسول” والإنكار عليهم قد يُزَيِّن الأمر في عيون غيرهم، فينجذبوا للاقتداء بهم. وكأن التسول أصبح مرضًا اجتماعيًا معديًا، فلو نظرنا حولنا للمسنا “عدوى التسول” فعلا في مجتمعنا، ولوجدنا كثيرين كانوا بالأمس يأكلون من عمل أيديهم واليوم يأكلون بسؤال الناس. ألم نسأل أنفسنا كيف قَبِل هؤلاء هذا التحوَّل الخطير؟ كيف استصاغوا الذل والهوان؟ دون فقر أو حاجة حقيقية! حتى بات التسول حرفتهم والتفنن فيه أصبح شغلهم.
لذلك فإن الخطر قد دق ناقوسه، منذرًا الجميع بعدم التهاون أو التساهل في أمر المسألة أو المساعدة ما لم تكن لحاجة حقيقية، فمعظم النار من مستصغر الشرر. كما يجب التوقف عن المسألة بكافة أنواعها ما استغنى الإنسان أو انتفى موجبها.
ومناديًا بضرورة دراسة هذه الظاهرة الخطيرة ووضع الحلول والعلاجات الفاعلة للتصدي لأؤلئك الذين اتخذوا “المسألة” مهنة لهم، ولأولئك الذين يدَّعون الفقر ويتخذونه- دون حق- مطية لتحقيق أطماعهم، فالمسألة في حق أهلها مشروعة، وفي حق غيرهم مذمومة، ويجب إنكارها عليهم وزجرهم عن اقترافها، فالأمم لا ترتقي إلا بعزة شعوبها وهممهم العالية في العمل بصدق وإخلاص.
ولكن، وحتى يتم تطبيق حلول جذرية لهذه الإشكالية، ينبغي أن نعمل على الحد من انتشار “عدوى التسول”، عن طريق تعزيز سبل الوقاية والحماية من هذا “المرض الاجتماعي”، بنشر التوعية وتنشيط الشعور بالعزة والكرامة، وضرورة صون النفس عن الابتذال والوقوف مواقف الذل والهوان، فهذا واجب وحق للجميع، الغني والفقير سواء، لأن من يسأل الناس بحق لا يبذل كرامته ولا يهين نفسه، بل يصونها ويحفظها.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
د. عصام الدفراوي
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
د. عصام الدفراوي من مصر. تخرج من كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية. يعمل بالمحاماة والاستشارات القانونية. حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق عام 2016، وله كتاب منشور. يهوى كتابة المقالات الاجتماعية. يحب دراسة المشكلات الاجتماعية الفعلية في ضوء الفقه والقانون.