لا يوجد مجتمع بلا قيم، أو اتجاهات “تجريدية”، واجبة ومـُحددة لتوجه وسلوكيات أفراده نحو مختلف الموضوعات. وهي إحدى المؤشرات الدالة على (نوعية حياة) المجتمعات، ومستوي تحضرها، ونسق تفكيرها. وبوصلة تعديل سلوكها، واختياراتها المستقبلية. كما إن “ماهية” الفرد والمجتمع، وتيار أفعالهما ونهج معاملاتهما، رهن بنسق تلك القيم المتبناة عمليًا. لذا فللقيم دور نفسي وتربوي وتعليمي واجتماعي وإنساني كبير في صلاح وإصلاح وتماسك ورفعة ورقي المجتمعات، والبشرية جمعاء. ولقد إن ديننا الإسلامي الحنيف، في جوهره وروحه، وفي أسمي معانيه لم يكن “منهاجًا نظريًا/ تجريديًا”، بل كان “عمليًا”: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (سورة الروم: 30). (القيم الإسلامية)
ولقد كانت التربية القيمية والخلقية هي جوهر الإسلام وغايته: فعن مَالِك أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ”، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ”(1). لكن مع (استيراد) بعض المجتمعات لفلسفات تربوية واجتماعية أخري، ثمة مظاهر للتناقض التربوي القيمي. وفي ظل العولمة، وتجلياتها الثقافية والإعلامية، برزت مظاهر “تمييع لكثير من القيم، وسيولتها، وتجزئتها”، بل وقولبتها وفق مبادئ “نفعية مادية”. حيث تذهب إلي: “إعادة النظر في القيمة إن أدت إلي ما يثظن أنه مضرة، ويُعلي من شأنها إن أدت إلي نفع ظاهري”.
ما هي القيم؟
(قوّم، يقيم، تقويمًا): عدّل، واستوي، واستقام، وفي الذكر الحكيم: “. وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة” (سورة البينة: 5): دين الاستقامة والاعتدال. و(قيمة) الشيء: قدره، و(قيمة) المتاع: ثمنه وما يقابله. أما تعريفها اصطلاحا فمتنوع. فالقيم Values)) هي: “التي توجه سلوك الأفراد، وأحكامهم، واتجاهاتهم، فيما يتصل بما هو مرغوب فيه، أو مرغوب عنه في ضوء ما يصنعه ويضعه المجتمع من معايير وقواعد”. وهي: “الأحكام التي يصدرها الفرد تفضيلا أو بعدم التفضيل بين موضوعات وأشياء. وهي “عملية” تتم عبر التفاعل والاختيار بين بدائل متاحة، وفق معايير الفرد/ المجتمع وخبراتهما ومعارفهما. وهذا “الإختيار القيمي” يُبني علي إدراك للأمور ونتائجها (سلبًا أم إيجابًا) وعلي وعي اجتماعي وتربوي”. كما تعرف بأنها: “معتقد ثابت يحمل تفضيلًا شخصيًا أو اجتماعيًاً نحو غاية من غايات الوجود أو لشكل من أشكال السلوك المحصل لهذه الغاية. وهي تتسم بأنها (معرفية) ترتبط بالوعي، و(وجدانية) ترتبط بالشعور، و(سلوكية) يحددها معيار”(2).
وقد يتعدد نسق القيم وسلم أولوياتها، فهناك قيم إلزامية (أساسية): أوامر ونواهي محددة، كقيم العفة والعفاف وعلاقة الذكور بالإناث وفق القيم الإسلامية. وهناك قيم (فاضلة) كالتقوي والصدق والأمانة والشجاعة والرحمة والبر والإحسان ومقابلة الإساءة بالحسنة، والوفاء بالعهد والوعد، والتكافل والتضامن الخ. وقيم تفضيلية (تشجيعية): كالحصول علي ثروة مشروعة، والإنجاز والترقي في العمل الخ (3).
وعن أولويات القيم وشموليتها يقول الأمام “أبو حامد الغزالي“: (يهتم الإسلام في تربيته للناشئة علي إقامتها علي أربعة أركان هي أساس القيم الفاضلة: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل. فالصبر يحمل الصبي علي الاحتمال وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة. أما العفة: فبها يتجنب الرذائل في القول والفعل، وهي تحمل علي الحياء الذي هو رأس كل خير، وتمنع من الفحشاء والكذب والغيبة والنميمة والبخل. أما الشجاعة: فتحمله علي عزة النفس، وإيثار مكارم الأخلاق، والعدل: يحمله علي اعتدال أخلاقه فلا إفراط ولا تفريط. كما أن منشأ الأخلاق السيئة أربع: الجهل، والظلم، والغضب، والشهوة. فأما الجهل: فبه يري الحسن قبيحا والقبيح حسنا. وأما الظلم: فهو وضع الشيء في غير موضعه، فيبخل حيث البذل ويجبن حيث الإقدام.
وأما الغضب: فيحمل علي الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه. وأما الشهوة: فتحمل الفتي علي الحرص والشح والبخل والجشع والذل والدناءة). وقد أكدت دراسات أن أطفال ما قبل المدرسة (4-6سنوات) يستطيعون التمييز بين “السلوك/ الحدث الأخلاقي” كالصدق والأمانة والشجاعة الخ. وهي لديهم أكثر وضوحًا من تلك التي تتعداهم “اجتماعيا” كالتعاون، والصداقة، ومحبة الناس، واحترامهم، والنظام الخ. لكن أطفال العاشرة من العمر يراعون ويقدرون تلك المعايير الاجتماعية وقيمها أكثر ممن هم في السادسة.
(القيم الإسلامية)
مساحة إعلانية
العمر، ونسق القيم
توجد إرهاصات “نمو القيم” عندما يصل الطفل لعامين من عمره. وهو نفس العمر الذي ذكره القرآن الكريم: ” وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ. “. (البقرة: 233)، تلك المدة من الرضاعة جديرة بأن تـُنشئ روابط وعوائد وجدانية/ نفسية بين الطفل وأمه تمهد لتشرب نسق القيم الممتد.فالطفل منذ ولادته في تعلم مستمر، يتعلم عندما يري، ويسمع، ويلعب، ويأكل، ويبكي، ويضحك الخ. وهناك دراسات أخري تشير إلي أن بداية ظهور القيم/ الضمير يوجد بين 7- 10 سنوات. وهي المرحلة التي أشارت لها الرسول صلي الله عليه وسلم بقوله: “مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ”(4).
فالأولاد في هذه المرحلة لوحة بيضاء سهل النقش عليها: “. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”(سورة الروم: 30)، وصدق المصطفي صلي الله عليه وسلم: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ “(5). وقد أثبتت “المدرسة السلوكية الحديثة” ما ذكره الأثر النبوي الشريف عندما ذهبت إلي أن: “الطفل يُصنع ولا يولد” مؤكدة علي الدور الكبير للبيئة/ التربية. وفي هذا يقول الشاعر:
قد ينفع الأدب الأطفال في صغر ولا ينـــفعهم من بـــــــعده أدبُ
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا يلين ـ ولو لينته ـ الخشبُ
وخلال هذه المرحلة تتولد لدي الطفل “القدرة علي التمييز بين الخير والشر”، والقيام بفعل الأوامر/ اجتناب النواهي: “هيا إلي الصلاة”، “لا تقترب من الخزانة”، “لا تضرب أخيك الأصغر” الخ. ثم تتسع هذه الأوامر والنواهي لتشمل معايير اكثر تعميما وتجريدا (عما يجب، وعما لا يجب)، فلا يتم العزوف عن “ضرب الأخ الأصغر”، بل ينبغي معاملته بطريقة “عطوفة”، كما يتم تعليم الطفل أن يكون: “أمينا / صادقًا/ مطيعًا/ منظمًا” الخ.
غرس القيم في الأبناء – القيم الإسلامية
غرس وارتقاء نسق القيم لدي الأبناء يعتمد علي عوامل: بيولوجية/ وراثية، وأسرية/ بيئية، ونفسية/ شخصية، واجتماعية. وتتم علي مرحلتين وفق تمييز الطفل بين ما هو جسمي/ مادي / عياني، وبين ما هو عقلي/ معنوي/ لا عياني. فالمرحلة الأولي: مرحلة السلوك الأخلاقي/ إحداث أخلاقية التي تُُرسخ: (واجبات تؤدي، وأخطاء لا تؤدي)، وتعتمد علي “المسئولية الموضوعية/ الملموسة” حيث يَحكم الطفل علي إيجابية/ سلبية نتائج سلوكه. هذه المرحلة مؤسسة علي مبادئ: الثواب والعقاب، والمحاولة والخطأ، والتقليد والتقين، والتوحد والملاحظة.
وللقيم الدينية الإسلامية دورها وأثرها الكبير والهام في زرع “السلوك”، وتحوله إلي قيم و”ضمير خلقي وازع/ رادع”، أمثلة: “من الخطأ أخذ نقود الآخرين/ أشيائهم دون رضاهم”، ومع نمو القدرات العقلية ترسخ “قيم الأمانة”، من الخطأ قول ما ليس له وجود/ أو يضر بالآخرين. ثم تنمو “قيمة الصدق، وعدم إيذاء الآخرين”، من الخطأ “غش اللبن بالماء”. ثم تنمو قيمة “المراقبة الذاتية، والوازع الإيماني” الخ. وللأبناء عالم واسع من السلوكيات، ولا يستطيعوا بسهولة اتخاذ الخيار (الأخلاقي) المناسب، أو التمييز بين ما هو صواب وما هو خطأ. لذا ينهض بهذه المرحلة “سلطة خارجية”(الأسرة/ المدرسة الخ)، حيث توفر معلومات كافية وموضوعية ومبسطة حول السلوك/ القيمة، وتراعي توافقا مع عالم حاجات الطفل الملموسة (المتعة واللذة).
والمرحلة الثانية: مع نمو القدرات العقلية نحو التركيب والتجريد والشمول والتعميم (من موقف لآخر ومن خاص لعام)، تأتي مرحلة المسئولية الذاتية/ و”السلطة”/ الضبط الداخلي، وتكون المثل العليا، ونمو “الضمير”. مرحلة تقوم علي الإقناع والاقتناع، وتحكم علي الفعل وفق نية/ وقصد فاعله أكثر من التركيز ـ كما في المرحلة السابقةـ علي نتائجه، وهنا (مناط القيم). هنا “السرقة والغش جرائم”، وإذا كان: “القائم علي القانون لا يرانا، فإن الله يرانا”.
(القيم الإسلامية)
مساحة إعلانية
دور الأسرة، والمدرسة – القيم الإسلامية
ينبغي توفير الحاجات الأساسية الأولية للأبناء (طعام وشراب وملبس ومأوي الخ)، وكذلك الحاجة إلي الثقة و”الأمن النفسي” (العطف والحب والحنان الخ) مما يُحدث عملية “توحد” إيجابي (عن حب، وليس عن خوف) بين الطفل ووالديه/ معلميه (ومن يحيط به) ومن ثم تبني قيمهم بسهولة. وفي سبيل توفير هذه الحاجات البيولوجية الأساسية، وإنشاء الروابط الوجدانية/ النفسية/ التربوية، وإحداث التواصل والتلقي السلوكي والقيمي والمعرفي والإيماني. يُعد الطفل البشري “أطول الكائنات طفولة”، ففي احدث القوانين التشريعية جاء أن الطفل: هو من دون 18 عامًا. فترة طويلة تؤكد علي كون الإنسان”كائن أخلاقي/ قيمي/ مُستخلف”، عليه مسئوليه الاضطلاع بالقيم/الرسالة الإيمانية/ الأمانة: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”(سورة الأحزاب: 72).
ووفق هرم” ماسلو” للحاجات الشخصية بدرجاته الخمس، يمكن القول: إن نسق القيم يرتقي متشابها مع ارتقاء نسق الحاجات الشخصية (6). وملازمة الأم لأبنائها ـ وخصوصًا في أولي سنواتهم الخمس ـ وعدم انفصالها المتكرر عنهم ـ ليشعروا بالطمأنينة والأمن وهما سياجان ضروريان لنمو سلوكي / وقيمي سليم. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يده”(7). وقد قام باحثون بالتأكيد علي أن”الأطفال الذين تتولى أمهاتهم رعايتهم طول الوقت يميلون أكثر من غيرهم لتمثل المعايير السلوكية التي يقرها الراشدون، أما الذين رعتهم (بدائل الأم) فلا يأبهون برأي الكبار بقدر ما يأبهون برأي نظرائهم فيهم”. ولقد أسفرت دراسات ميدانية عن وجود ارتباط كبير عند الأحداث الجانحين بين الانحراف الخلقي والسلوكي وبين الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية. فإهمال الوالدين للطفل، أو نبذه، وعدم الرغبة فيه، وحرمانه من إشباع حاجاته، والقسوة عليه، قد تقود إما إلى المرض النفسي أو إلى الجنوح.
وينبغي وجود قدوة تمارس السلوك الإيجابي وتتجنب السلوك السلبي. فعلا وقولا (لعدم حدوث تناقض أخلاقي/ قيمي). فالحديث عن القيم ليس كفعلها، والأطفال “عيونهم علي قدوتهم معقودة”. فمن يري من والديه/ أخيه الأكبر/ معلميه كثرة الغضب: لا يتعلم الإتزان، ومن يسمع السباب: لا يتخلق بحلاوة اللسان، ولن يمتثل للقول: “كف عن سب الآخرين”. لا تستوي قدوة تتسم بالعلم والحلم والشجاعة والصدق والإخلاص والتقوى والأمانة والمسئولية الخ مع قدوة تتسم باللامبالاة، والغضب، والكذب، والخيانة، والخجل والخوف، مناخ الخ، وقد تكون مرة واحدة من معايشة تلك القيم السلبية كافية لهدم القيم الفاضلة عند الطفل(8). فينبغي إظهار قيمنا الإسلامية الصحيحة وتطبيِّقها كما نريدها في سلوك أبنائنا.
مع إعطاء الفرصة للطفل ليمارس السلوك وتعزيزه وتدعيمه إيجابيا. تشير الدراسات ذات الصلة أن الأطفال ذوو التوجهات السلوكية الآمرة كانوا يتوحدون مع آباء/ معلمين أكثر مكافأة، وأقل عقابا، لذا فهم يميلون لعمل “ما هو صواب”. أما الأطفال ذوو التوجهات السلوكية الناهية فكانوا يتوحدون مع آباء/ معلمين أكثر عقابا وأقل مكافأة، لذا فهم يميلون إلي “عدم عمل ما هو خطأ”. ولتنمية السلوك الأخلاقي/ القيمي في مرحلة ما قبل المدرسة ينبغي تنمية روح الاستقلالية والمبادأة، والتلقائية والفضول والخصوصية في أطفالنا، وتشجيعهم إظهار قدراتهم وكفاءاتهم التي تتمركز حول المشكلات لا حول أنفسهم، وتعويدهم علي تجنب الشعور بالخجل، ومشاعر الخوف، وتوفير النماذج القيمية والعملية والجدية الملائمة لأعمار الأطفال(9).
(القيم الإسلامية)
مساحة إعلانية
وملاحظة مقدار “الشعور بالذنب” (القلق والشعور بفداحة فقد الدفء/ الحب/ الأمن/ الاستقرار المعطي له من قبل الوالدين/ المعلمين) عند مخالفته المعايير الضابطة لسلوكه. لذلك فالطفل الذي لا يشعر بحب والديه/ معلميه ليس لديه ما يخشي فقدانه من روابط عاطفية/ نفسية، لذا يصعب تمثله للمعايير القيمية، ولقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم “يُـقبل الحسن والحسين” معبرا عن حبه لهما. وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: “قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ فَقَالُوا نَعَمْ فَقَالُوا لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ”(10). ويجب مراعاة التدرج في وسائل التربية بالقدوة والموعظة والملاحظة والعقوبة والعادة لضبط السلوك المرغوب فيه، أو المبتعد عنه (11) وينشأ ناشئ الفتيان فينا علي ما كان عوده أبوه.
كما يراعي في تعديل السلوك السلبي ينبغي تعديل الظروف الموضوعية التي أدت إليه وأثرت في إحداثه، كتلك القصة المشهورة للذي قتل 99 نفسا وجاءت نصيحة “العالِم” له بتغيير “البيئة الفاسدة”. وهناك مشاركة المعلمات المثمرة في عملية التربية. وفق أسس من علم ودراية ووعي وقدرة وقدوة وتدرج. وهي من قبل ومن بعد مؤطرة بحنان كحنان الأم، وحزم كحزم الأب.
كيف يُقاس مدي رسوخ القيم عند الأبناء؟ (12)
– الملاحظة/ المشاهدة: وسيلة لمتابعة الأبناء في المنزل/ رياض الأطفال. وأحيانا تتم الملاحظة عبر نوافذ زجاجية أحادية الرؤية، ويتم تبين مدي استيعاب وتطبيق السلوك المرغوب (كحب النظام والتعاون الخ) أو تعديل/ الابتعاد عن المنهي عنه (كالفوضى والعدوان والسرقة الخ).
– المقابلة الشخصية: عبر أسئلة وصور لها مدلولاتها ويطلب الإجابة عن سؤال أسفلها: (كأحمد) المحتفظ بكرته، ولا يريد أن يلعب بها مع (حسن) قائلا: “هذه ملكي، وهي جديدة أيضا”، فهل (أحمد) طفل “يُحافظ” علي لُعبه؟ أم هو “مخطئ” في تصرفه لعدم مشاركته اللعب مع (حسن)؟
– تحليل المضمون: لما يُقدم للطفل من مواد عبر الألعاب والمجلات والقصص والحكايات والأفلام الخ. وهل مضامينها تعكس قيما “إيجابية” (كحب العمل، والعمل الجماعي، والنظام، والنظافة، وحب الوطن الخ)، أم ترسخ قيمًا “سلبية”(كالكسل والخيانة، والاحتيال، والمكر، والأنانية الخ). كذلك تشمل كتابة قصص أو تخطيط رسوم غير مكتملة النهاية، وتحتوي علي “تباين قيمي”، ثم يُكمل الطفل النهاية. فيتبين مدي” فهمه” للسلوك. كما أن الأطفال الذين يستطيعون الكتابة (6-10سنوات) يمكن استكتابهم قائمة بالأعمال الحسنة أو القبيحة من وجهة نظرهم. ومن ثم تحليل مضمونها ومناقشتهم في ذلك وتعديل ما يراد تعديله. ولمن هم فوق الثانية عشر من العمر يمكنهم تجسيد ما هو مرغوب، وما هو غير مرغوب من الشخصيات/ ذات التوجهات السلوكية والقيمية (من أنا؟). ومن ثم رؤية السلوك/ القيمة مجسدة وتحديد الموقف منها. قبولا أو رفضا عبر ما يسمي بالدراما الإبداعية، أو الدراما الاجتماعية.
– الاستبيانات: لاستقصاء التواصل السلوكي بين الطفل ومن يحيط به، وهل من جنوح، وما هو سببه؟ فالإبن الذي يعيش القسوة والجفاء: لا يعرف الرحمة. كما أن عدم العدل مع الأولاد (في العطف والحب والهدية والهبة الخ)، والتمييز بينهم (كحب وتفضيل الذكر علي الأنثى) مدعاة لتكريس الجور والظلم، وتدمير قيمة العدل، لذا نجد الهداية القيمية والتربوية من المعصوم صلي الله وسلم في هذا الشأن، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَال: َ سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا قَالَ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟ قَال: َ نَعَمْ، قَالَ: فَأُرَاهُ، قَالَ: لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ”، وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ”(13). وفي رواية مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟ قَال: َ نَعَمْ، قَالَ: فَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَلَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ”(14).
– “تفكيك” محتوي السلوك لقياس مفراداتها: فقيمة “الصدق” التي هي: مطابقة الكلام والفعال لمقتضى الواقع (للأبناء خيال واسع، وأحيانا جانح فيختلقون أحداثًا قد لا يكون لها وجود.مما يُعد كذبا) يمكن “تفكيكها” إلي عناصر ومظاهر: كالشجاعة في القول والعمل، والموقف من تقدير الصادقين ومصاحبتهم، ومعاقبة الكاذبين واجتنابهم، والسعي نحو معرفة الحقيقة من مصادرها الخ. و”تفكيك” الكذب وهل هو بغرض الاستحواذ، أم للانتقام، أم بسبب الخوف من العقاب، أو لمقاومة السلطة، أو تقليدا لمن أكبر سنا، وهل هو كذبا عارضا أم مزمنا؟ وقيمة الأمانة يمكن قياسها من خلال: المحافظة علي أشياء الآخرين، وإعادتها بعد استعارتها، كلك حفظ الممتلكات العامة، وحفظ الأسرار، ومصاحبة الأمناء، ومعاقبة غير الأمناء الخ.
– يبقي أن السلوكيات الأخلاقية والقيمية محددة لأفعال المرء خلال مسيرة حياته. ولقد باتت أمرا يخضع للقياس الموضوعي الذي يتناول ملابساتها، وليست عملا “منغلقَا”.
ثمار سيادة القيم الإسلامية – القيم الإسلامية
مسلم حق يتحلي بالتقوي والإخلاص الصدق والوفاء والعفة والصبر والرحمة والتكافل والتضامن الخ. ويفيض بره، ويكثر معروفه، ويعم إحسانه، وينتشر خيره، ويجري فضله، ويُحدث أثره، وتسبقه رحمته، وتتواري مثالبه. ويوفر لنفسه ومجتمعه رصيدًا من القيم والأخلاق الفاضلة، والمعاملات السمحة، والتماسك والإستقرار المجتمعي. وهل المجتمع الصالح المُصلح، والإنسانية “الفاضلة” إلا حصيلة هؤلاء؟ .
صفوة القول: إن فصل الأخلاق وعزل القيم ومحاصرتها علي هامش الحياة من شانه أن يؤدي إلي تفسخ أخلاقي ومجتمعي وإنساني. أو إلي الاستسلام لما هو سائد ولو كان خطئًا. لكن الإسلام عقيدة وعمل، عبادة وتقوي، أخلاق ومعاملات، خشوع لله وخضوع، وتضحية وفداء. ولقد أرشد الشرع الإسلامي الحنيف لكل القيم التي من شأنها السمو بالمسلم ومجتمعه، وصلاح البشرية جمعاء إذا هي آمنت بها، واهتدت بنبراسها.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
(القيم الإسلامية)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
هوامش ومصادر
1- مسند الأمام احمد، برقم: 8595.2- للمزيد راجع د.عبد اللطيف محمد خليفة: ارتقاء القيم (دراسة نفسية)، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 160ابريل 1992م، الكويت، ص: 16 وما بعدها. وايضا أ. د.الصاوي الصاوي أحمد: “القيم الدينية، وثقافة العولمة”، سلسلة قضايا إسلامية (العدد: 121)، ربيع أول 1426هـ، أبريل، 2005م، المحلس الأعلي للشئون الإسلامية، القاهرة.
3- السيد أحمد المخزنجي: تنمية القيم التربوية والنفسية عند للأبناء، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م، ص: 161-162.4- سنن أبي داود: برقم 418، وفي مسند الأمام أحمد برقم: 6467، من حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وحسنه الألباني.
5- صحيح البخاري برقم: 1270، وفي مسند الأمام أحمد برقم: 6884، من حديث أَبُي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه.
6- راجع: د.ناصر أحمد سنه: كيف نُـلبى حاجة أبنائنا إلى ” الأمن النفسي” مجلة الوعي الإسلامي: العدد: 459، ذو القعدة 1424هـ ـ ديسمبر 2003/ يناير 2004 م، ص77ـ79، الكويت. وكذلك د.ناصر احمد سنه: “أطفالنا. كيف تقضى علي مخاوفهم؟ “، مجلة الوعي الإسلامي: 495، ذو الحجة 1427هـ ـ ديسمبرـ يناير 2006ـ 2007م، ص: 74ـ75، الكويت.
7- رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
8- أنظر محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، ج2، دار الشروق، 1408هـ ـ1988م وانظر أيضا د.•محمد عماد الدين إسماعيل: دليل الوالدين إلى تنشئة الطفل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2001م.
9- للمزيد من المناخ السلوكي الخاص بتنمية الابتكار لدي الأطفال راجع: د.ناصر أحمد سنه: أطفالنا كيف نجعلهم مبتكرين؟ مجلة العربي: 571، ص174، الكويت.
10- صحيح مسلم برقم: 4281، وسنن ابن ماجة برقم: 3655.11- عبد الله علوان: تربية الأولاد في الإسلام، ج1، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، ط3 3، 1401هـ -1981م.
12- للمزيد أنظر: د.عبد اللطيف محمد خليفة: ارتقاء القيم، م. س. الفصل الثالث، ص 67-82.13- صحيح البخاري، كتاب الشهادات برقم: 2456، من حديث الشَّعْبِيّ عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّه عَنْهما.
14- صحيح مسلم، كتاب الهبات برقم: 3057.
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.