ليس سهلا أن تتناول حاسوبك و تبدأ تكتب و قد أثار حفيظتك أمرا ما, فالكتابة التاريخية احتراف يتطلب شروطا منها القدرة و الحيادية و الموضوعية, كما أن من شروط الكاتب “المؤرخ” الأمانة العلمية للمادة المتوفرة و النزاهة في تناولها و نقلها, و بكل تأكيد التحلي بشخصية الكاتب المحترف متسلحا بأدوات المحلل و منهجية الباحث؛ أن تجمع مصادرك من هنا و هناك و تكتب عن شخصية أو منطقة أو واقعة تحتاج إلى دراسة مستفيضة لشروط و كيفيات تناولها فليست كل المصادر ملائمة و على قدر من المصداقية و ليس كل مكتوب أمين, و نستذكر هنا قول قاضي القضاة سي محمد بن فتاشة المسعدي (م1891) لنجله الفقيه الشهيد سي علي (م1907) لما راسله من منطقة الشلالة سنة 1888 قائلا: ” … التمست في كلامك حديثا اكتفيت منه عن السؤال …” نعم, لقد كان كلام النجل كافيا وافيا لا يحتاج إلى مزيد من البحث و التحري, فالإحاطة كانت شافية وافية, كذلك هو الحال لما يُنتظر من الكاتب. (الكتابة التاريخية ميثاق شرف)
فالكاتب المجتهد و الموضوعي, في البدء يجب أن يطرح سؤالا حول الغاية من كتابته و تناوله لموضوع بعينه بصيغة بسيطة و هي: لماذا أكتب؟ لتتضح صورة الهدف و بالتالي تبدأ رحلة البحث عن الحيثيات, ولا نجد غلوا في قول برناردشو ” يمكنك أن تعمل 8 ساعات يومياً من أجل الراتب و10 ساعات من أجل المدير الجيد و24 ساعة من أجل فكرة تؤمن بها… ” لان الثبات بإيمان على الهدف يدفعك إلى التحدي و النصر في التقلب على كل العقبات.
و لما وجدنا ابتعادا كبيرا توطينا لذلك السؤال و وجدنا الإقبال على الكتابات و الاهتمام بالتاريخ و التراث صار مجالا رحبا و مادة دسمة لكل راغب في إثبات ذاته أو صناعة اسم أو استعادت أمجاد قبيلته كما يحدث في منطقتنا لدى بعض الشباب من مسعد جنوب الجزائر, و التعميم هنا ليس غايتنا لأن هناك مبادرات خلاقة تستحق التشجيع و الثناء, و أكثر هؤلاء الذين غاب عنهم قول ابن خلدون: ” إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق, ” خسروا كثيرا و قزّمتهم هيبة الموقف وفقدوا الأهلية و احترام صناع التاريخ.
و رغم هذا الكم من الإنتاج بنوعيه الالكتروني عبر المنتديات و وسائل التواصل الإجتماعي, الورقي من كتب و مقالات يلمس المتابع في أكثره سرعة الانجاز و التسرع في الطرح و هشاشة المادة العلمية, فلا يكاد يجد القارئ تجديدا ينأى بصاحبه عن أخطاء سلفه و توجهاتهم, و بغياب ذلك السؤال الجوهري السابق الذكر, يكون العمل المقدم ترسيخا لأمر واقع سابق الطرح و كأنه عنصرا إجباري المرور عليه إما خوفا أو طمعا, و يحضرني هنا قول ألفرد ويتني جريسولد ” إن الذين لا يعتبرون من أخطاء الماضي مكتوب عليهم تكرارها مرة أخرى,” ما أن يعد كتابة من سبقوه دون تمحيص و تدقيق لتفادي أخطاءهم أو إضافة ما قد أهملوه و تناسوه فمجهوده سيملأ رف المكتبة و كأنه لا حدث.
الكتابة التاريخية ميثاق شرف
مساحة إعلانية
فحرص الجيل الحالي من الباحثين و كتّاب التاريخ إتباع ما درج عليه من سبقهم منهجا و موضوعا و حتى محتوى تغلبت عليه عملية النسخ و اللصق بإبداع كبير, زيادة على ابتداع أشكال من التصدير و المرجعية إعتمدت بشكل فاضح على الروايات الشفوية؛ و لعجز في استنطاق الأحداث و تحليل الوقائع التاريخية و أيضا لفقدان البديل و الأصيل الموثق تجد البعض يتلاعب و يحبك شبكة من القيل-قال لبعث الوهم و خلق الأساطير.
في عمل تحتويه أكثر من ثلاث مائة صفحة يستعرض الكاتب مهارته اللغوية و يقدمها بأسلوب إنشائي هو أقرب إلى السرد القصصي منها إلى وقفات مع وقائع مثبت حدوثها و ظاهرة نتائجها, يدرج أحداثا ماضية تناولتها كل الكتابات مع إضافته للمسة تغيير في مصادر المعلومة مصداقيتها على المحك, و غالبا ما تكون شفاهة لا تخدم لا التاريخ و لا من قد يتخذون من هذا العمل مرجعا في كتابات مستقبلية, ليس أكيدا أنهم أخذوا في الاعتبار و التزموا بشروط اختيار من يدلون بشهاداتهم من شروط السن و السيرة و الأهلية العلمية, من الممكن عند غياب الوثيقة اللجوء إلى بعض المعايير و الخيارات كإختيار الثقاة من المحدثين و بتحييد أصحاب السوابق و الميول العرقية المتشددة لاسترشاد المسار الصحيح بضمير مهني و راحة بال اليوم و في المستقبل, و بهذا التوجه و بإرادة التحرر من بعض القيود و المطبات التي تدفع إلى الذاتية و خدمة أجندات الغير, يُؤسس لعمل نزيه دون ميل نحو الشاذ أو إعتداء سافر على تاريخ و ميراث رجال تأباه النفوس الشريفة.
هنا قد يعتقد الساذج من الكتاب و لصناعة اسم أنه يحتاج إلى إعادة إسماع ما تشتهي ميول بعض الجهات و الذين يراهم كمراكز قوة و تأثير لخدمة مشروعه و دفعه نحو الشهرة, و قد يدفع ثمنه لا شعوريا نحو رقابة ذاتية و حصار أفكار مرضاة لهم و بالتالي يقع فريسة محيط آسن و إخطبوط تصادم المصالح فيخسر من خلاله نفسه متحملا بذلك وزر المسؤولية الأدبية و التاريخية و مبادئ النزاهة التي ينشدها القارئ.
في منطقتنا نجد تركيزا رهيبا على ثلة من العلماء و الشخصيات في حين إهمال حتى ذكر البعض الآخر رغم ما تركوا من إرث و ما تبوءوا من مكانة لغايات مجهولة و التي لا تبدو بريئة نتيجة تكرارها, و هناك أيضا أحداث و علاقات إنسانية و علمية ربطت هؤلاء المسوق لهم بآخرين لم يبادر أصحاب الكتابات إلى الإشارة إليها أو التنويه بها و لو حياءا, و الغريب أنهم من جيل كان يرفض تلك الممارسات و المناورات المشينة, لذا هؤلاء الطموحين إلى الظهور, في حقيقة الأمر, يجدون استظهار بعض الملفات عائقا لإثبات وجودهم و التألق, لان الكتابة العذرية عن تاريخ بعض الشخصيات و العائلات المغمورة, حسب بعضهم, فيه فضح لبعض السلوكيات الماضية التي يراد غض الطرف عنها و لا ترغب جهات مستفيدة من الوضع القائم استدراكها و تصحيحها و لا حتى الخوض فيها, فمنهم من يراه تهديدا لا يجب أن يثير حفيظة طبقة مجتمعية ما, و منهم من يتوجسون خيفة من ظهور ارث يكون سببا في قلب موازين القوى و يبرز ما حدث من انحرافات و جحود.
ليس سهلا إطلاقا أن تكون كاتبا في التاريخ و من الصعب أن تكون مؤرخا إذا لم تتحلى بالشجاعة و نكران الذات, و الابتعاد عن التجاذبات و مواجهة لوبيات المصالح من مركز قوة, ماليا و علميا و رجولة, متغلبا على كل عقبة و منتصرا على كل فشل و انكسار؛ مضحيا بالوقت و الجهد, و منحازا لمبادئ الإنسانية و صوت الحق لان الكتابة في التاريخ فعلا عقد شرف مع المعلومة.
الاستاذ مبروك بن فتاشة
الكتابة التاريخية ميثاق شرف
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
الأستاذ مبروك بن فتاشة من الجزائر. متخرج من المعهد التكنولوجي للتربية سنة 1986 ثم نال شهادة الليسانس لغة انجليزية من جامعة الأغواط. عمل أستاذا و بعد التقاعد اتجه إلى الكتابة التاريخية و له عدة مقالات منشورة بمواقع الكترونية و جرائد، له ثلاثة مشاريع كتب. يهوى الصيد و السفر و مشاهدة كرة القدم.