كشفت إحصائية علمية حديثة نشرت في مجلة الطبيعة (Nature) العالمية عن أن مشكلة مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية تتسبب في وفاة ما لا يقل عن 700 ألف شخص سنويًا في العالم، وأن هذا الخطر إذا لم يتم تداركه فإنه من المتوقع أن يصل عدد الضحايا إلى 10 مليون شخص سنويًا بحلول عام 2050.[1] ”Towards the sustainable discovery and development of new antibiotics” Markus Miethke et.al. 19 August 2021. Nature Reviews Chemistry volume 5, pages 726–749 (2021). فهيا بنا نسلط الضوء على هذه المشكلة بشكل سريع.
ما هي المضادات الحيوية؟
في عام 1928 وقعت حادثة غيرت مجرى التاريخ، فبينما كان العالم الاسكتلندي “ألكسندر فلمنج” (1881- 1955م) يجري تجاربه على إحدى مزارع البكتيريا في معمله، وقد نسى أحد الأطباق مكشوفة لأيام، فلما عاد اكتشف أن الطبق قد أصابه العفن وتكاثر الفِطر على سطحه، ولاحظ أن الميكروبات المزروعة قد ماتت، فاستنتج أن الفطر الذي نما على سطح الطبق أنتج مادة تقتل الميكروبات وسماها بـ “البنسللين”. وكانت تلك هي بداية العصر الذهبي للمضادات الحيوية .. وكانت الفرحة العالمية كبيرة وخاصة حين تتأمل كيف أن الدواء ينشأ من قلب الداء، ويخرج المضاد الحيوي كنبتة طيبة تتولد في قلب العفن .. لكن يبدو أن الفرحة لن تستمر بعد أن أوشك عصر المضادات الحيوية على الرحيل.
وتُعرَّف المضادات الحيوية بأنها مواد كيميائية لها تأثير مثبط أو قاتل للميكروبات، وهي مواد تستخرج طبيعيًا من الكائنات الحية الدقيقة – كالفطريات – أو تصنع معمليًا. ولكل مضاد حيوي مجموعة من الميكروبات التي تتأثر به، ومع الوقت تكتسب بعض الميكروبات خاصية مقاومة تلك المضادات التي كانت بالفعل تستجيب لها من قبل.
وقد ساهمت المضادات الحيوية في السيطرة على كثير من الأمراض الفتاكة، كالتيتانوس والجمرة الخبيثة والطاعون والتسمم الغذائي والسل وكثير من النزلات المعوية. ليس هذا فحسب بل حافظت أيضًا على صحة الحيوانات والطيور كما حدت من انتشار أوبئة كثيرة، منها ما ينتقل للإنسان ومنها ما يهدد حياة الحيوانات ويضر بالاقتصاد القومي والأمن الغذائي. ولولا المضادات الحيوية لما نجحت العمليات الجراحية، فالمضادات الحيوية ظاهرة حيوية في العصر الحديث.
المضادات الحيوية سلاح ذو حدين
وقد يظن البعض أن المضاد الحيوي كله شفاء، فيتناوله كأنه غذاء، وما يَخفَى عليه أن نفس الدواء الذي يتسبب في الشفاء قد يكون سمًا ناقعًا إذا أسيء استخدامه. ولا يكاد يخلو نوع من المضادات الحيوية من الآثار الجانبية الضارة، لكن الطبيب الحاذق يُقدِّر الدواء الأنسب والجرعة المُثلى فيتم تلافى معظم الأضرار المصاحبة للدواء.
مساحة إعلانية
حلم يتبدد – المضادات الحيوية
وقد فشلت البشرية في الحفاظ على تلك النعمة – نعمة المضادات الحيوية – التي أوشكت على الزوال؛ فبعد مرور أقل من 100 عام على اكتشاف المضادات أصبحت بعض الميكروبات مقاومة لكثير منها، وكثيرا ما نسمع أن أحد المرضى المصابين بالتهاب معين قام بعمل مزرعة بكتيرية في المعمل، واكتشف المعمل أن الميكروب المتسبب لا يستجيب لأي من المضادات الحيوية المختبرة. ومن أشهر تلك الميكروبات الكليبسييلا (Klebsiella pneumoniae) والاستافيلوكوكس (Staphylococcus aureus) والإيشريشيا كولاي (E-coli).
وتحدث المقاومة نتيجة طفرات جينية تستحدثها أنوية الميكروبات، ضمن صراعها من أجل البقاء، وهناك العديد من العوامل المساعدة على حدوث تلك الطفرات، نلخصها في النقاط الآتية:
- استخدام المضادات الحيوية بدون استشارة الطبيب.
- الإفراط في استخدام المضادات الحيوية بداعي وبغير داعي (مثل استخدامها في الأمراض الفيروسية بدون توصية من طبيب).
- استخدام المضادات الحيوية بجرعات أقل من الجرعة الموصى بها.
- تكاسل المرضى عن استكمال كورس العلاج الذي أوصي به الطبيب لمجرد حدوث التحسن من أول يوم.
وقد لوحظ أن معدل حدوث المقاومة الميكروبية عالٍ جدًا في دول البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك نتيجة انخفاض الوعي الصحي لدى العامة، وقلة الاهتمام بنظافة البيئة وبسلامة الغذاء.
فوضى غير خلاقة
ومما جعل الخطر يتفاقم أن بعض المرضى يتوجهون بالشكوى المرضية لغير المتخصصين، فمثلًا تجد المريض يسأل أحد المُمرَّضين عن العلاج بحجة أن الممرض يعمل في المستشفى!، أو يذهب ليعرض شكواه على صيدلي ليتفادى العرض على الطبيب المتخصص!، وقد يتناول دواءًا من تلقاء نفسه، وربما كان الدواء محفوظًا على أحد الأرفف المعرضة للشمس، أو في عبوة غير محكمة الغلق، أو يكون الدواء منتهي الصلاحية فيؤثر بشكل عكسي ويصبح ضارًا.
وكذلك الحال في مجال صحة الحيوان، فتجد مالك الحيوان يعرض شكواه على أحد المربين بحجة أنه “خبرة”، وربما تجد بعض الجهات تتصارع من أجل الاستحواذ على غير اختصاصاتها، مثل مجال “سلامة الغذاء” الذي تفرق دمه بين القبائل، وبدلًا من أن يقوم الطبيب البيطري بالإشراف على سلامة الغذاء “ذو الاصل الحيواني”، ويقوم المهندس الزراعي بالإشراف على الغذاء “ذو الأصل النباتي” تفاجأ بإعطاء الأولوية لخريجي المعاهد الفنية الصحية والمهندسين الزراعيين، ويتم اقصاء الطبيب البيطري من دوره المنوط به لأجل حفظ صحة الإنسان من خلال وقايته من الأمراض المشتركة التي تنتقل عبر اللحوم والأسماك ومنتجاتها.
مساحة إعلانية
فك الالتباس – المضادات الحيوية
وما ينبغي على الجميع معرفته أنه لكي تنجو المنظومة الصحية يجب تطبيق مبدأ الفصل بين التخصصات كالآتي:
- الطبيب البشري هو وحده الكفيل بالكشف عن المريض وتشخيص حالته، وتقرير الدواء المناسب، ومكافحة الأوبئة البشرية.
- الصيدلي هو وحده الكفيل بصناعة الدواء وتحضير الخلطات الدوائية، وصرف الدواء البشري، وقد يُستدعَى لإبداء رأيه في الجرعات أو في التداخلات الدوائية.
- الطبيب البيطري هو وحده الكفيل بتداول وصرف وإعطاء الدواء البيطري، ومكافحة الأوبئة الحيوانية، والرقابة على الغذاء ذو الأصل الحيواني.
- المهندس الزراعي هو وحده الكفيل بمكافحة أمراض النبات، وتطبيق تكنولوجيا الإنتاج الزراعي والهندسة الوراثية لتحسين الإنتاج، والرقابة على الغذاء ذو الأصل النباتي.
- المساعد الطبي يقتصر دوره على مساعدة الطبيب أو الصيدلي أو الطبيب البيطري- متى طُلِب منه ذلك- وألا يتدخل في التشخيص أو تقرير العلاج أو تداول الأدوية بأي شكل ممكن.
مشكلة ليست في الحسبان
كثير ما تأتي ظاهرة المقاومة الميكروبية من الطيور والحيوانات، حيث يقوم المربون بالاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية في مزارعهم، دون استشارة الطبيب البيطري المتخصص، وبدون الالتزام بالجرعة التي يحددها، وبدون الالتزام بفترة سحب الدواء من الجسم؛ حيث أن لكل مضاد حيوي فترة يتخلص فيها جسم الحيوان أو الطائر من الدواء، فإذا تم الذبح قبل مرور تلك الفترة فإن المضادات الحيوية ستصل لجوف الإنسان وهو شيء في منتهى الخطورة .. للأسباب الآتية:
- وصول المضاد الحيوي للإنسان – من خلال تناول اللحوم أو الألبان أو البيض- وتحميل الجسم مواد كيميائية لا داعي لها.
- وصول المضاد الحيوي للإنسان بجرعة أقل من الجرعة العلاجية، فإذا حدث وصادفت أحد الميكروبات المعوية التي تتأثر به فإنه يتناول جرعة مخففة جدًا ويسهل عليه استحداث مقاومة ميكروبية لها.
- تعرض المضادات الحيوية الموجودة في اللحوم والألبان لحرارة الطبخ قد يغير من التركيب الكيميائي للمضاد، وربما يحولها لمركبات أكثر خطورة.
- احتمالية التسبب في أعراض جانبية للمستهلك، كحساسية الجلد والحكة وخاصة لدى كبار السن و الأطفال ومرضى الحساسية.
ومن الأسباب التي ساعدت على انتشار المقاومة في الحيوانات والطيور:
- الإفراط في استخدام المضادات لأغراض وقائية.
- استخدام المضادات الحيوية بغرض زيادة الوزن، وقد حُرِّم هذا الاستخدام دوليًا.
- انتشار الكثير من الشركات عديمة الضمير (شركات بير السلم) والتي تنتج أدوية مغشوشة بتركيزات ضعيفة، ويسهل خداع المربي وإقناعه بشرائها، فيتم تداولها سرًا بين المُنتِج والمربِّي بدون اشراف بيطري رقابي.
مساحة إعلانية
أرقام وحقائق مرعبة – المضادات الحيوية
من الحقائق التي وثقت بالأرقام أن معدل السنوي للوفيات نتيجة مشكلة المقاومة الميكروبية لا يقل عن 700 ألف شخص، وأنه من المتوقع أن تبلغ الوفيات نحو 10 مليون شخص في عام 2050 ما لم تتخذ إجراءات عالمية جادة للحد من تلك الظاهرة. ويعتقد أنها ستؤدي إلى خسائر اقتصادية لا تقل عن الخسائر التي لحقت بوباء الكورونا الأخير (COVID 19) وقد قدرت الخسائر التي تستمر حتى عام 2050 بـ100 تريليون دولار. [2]“Tackling drug-resistant infections globally: final report and recommendations”. O’Neill, J. The Review on Antimicrobial Resistance … Continue reading كما قدرت الوفيات الناتجة عن المقاومة الميكروبية لميكروب واحد فقط وهو المعروف اختصارًا باسم (MRSA) بـ 19 ألف شخص.[3]“Antibiotic discovery and development” Richard J. White D. Phil., B. Sc (auth). Springer (2012) pp. v وعلى الصعيد الاقتصادي بلغ معدل استهلاك المضادات الحيوية سنويًا في أمريكا وحدها 16.2 ألف طن (طبقا لإحصائيات عام 2001)، وأن 70% من تلك المضادات تستهلك في الإنتاج الحيواني، وخاصة مزارع الخنازير والدواجن والأبقار. وطبقًا لإحصائية عن نصيب الإنسان والحيوان من المضادات الحيوية في أمريكا، نجد أن البشر يستهلكون فقط نحو 35% منها بينما تستهلك الأبقار نحو 27% والخنازير نحو 26%.[4]https://www.nrdc.org/experts/david-wallinga-md/most-human-antibiotics-still-going-us-meat-production وقد ثبت أن الميكروبات المعزولة من مزارع الخنازير كانت الأكثر مقاومة للمضادات مقارنة بكل الحيوانات الأخرى [5]Antimicrobial Usage and Antimicrobial Resistance in Animal Production in Southeast Asia: A Review”. Nguyen T. Nhung ,et. Al. Antibiotics (Basel). 2016 Dec; 5(4): 37.، حيث ثبت وجود 66 جينًا مرتبطًا بالمقاومة الدوائية لعشر عائلات من المضادات الحيوية التي يستخدمها الإنسان وذلك في العينات العشوائية المأخوذة من مزارع الخنازير.[6]“Antimicrobial Resistance in Swine Fecal Specimens Across Different Farm Management Systems”. Suporn Pholwat et.al. Front Microbiol. 2020; 11: 1238.
طرق الوقاية من أزمة المقاومة الميكروبية
الالتزام بتوصيات الهيئات الصحية مثل منظمة الصحة العالمية (WHO)، ومنظمة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، ومركز الحد والوقاية من الأمراض (CDC)، وغيرها،
ومن أبرز التوصيات ما يلي:
- منع استخدام المضادات في الإنسان بدون إشراف طبي.
- منع استخدام المضادات بجرعات مخالفة للجرعات المعتمدة.
- منع استخدام المضادات لأغراض التسمين في الحيوانات أو الطيور.
- منع استخدام المضادات في الحيوانات والطيور بدون إشراف بيطري.
- الاعتماد على إجراء التحاليل المعملية للمزارع الميكروبية لاختيار المضاد المناسب.
- الحيود عن استخدام المضادات الحيوية واسعة المدى (Broad spectrum antimicrobials) والاتجاه نحو المضادات ذات المدى الضيق (Narrow spectrum antimicrobials)، والتي تستهدف الميكروب المسبب لمشكلة كل مريض بالتحديد.
- الحذر من ذبح الطيور والحيوانات قبل مرور فترات السحب الدوائي التي يقررها الطبيب البيطري.
- الاهتمام بالتطهير والنظافة الشخصية وإجراءات الصحة العامة.
د. عمرو يحيى
طبيب بيطري ومُنَظر علمي
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
د. عمرو يحيى من مصر. تخرج من كلية الطب البيطري جامعة القاهرة، اتجه إلى ممارسة الطب البيطري بالريف المصري منذ ١٣ عامًا، يهوى الكتابة وعمل النظريات الفيزيائية وإقامة الندوات العلمية، له كتابان منشوران في علوم الطب البيطري على موقع خاص به، وله مقال منشور بمجلة نيويورك ساينس. يحب الابتكار والقراءة والإلقاء، وحضور المهرجانات الثقافية.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | ”Towards the sustainable discovery and development of new antibiotics” Markus Miethke et.al. 19 August 2021. Nature Reviews Chemistry volume 5, pages 726–749 (2021). |
---|---|
↑2 | “Tackling drug-resistant infections globally: final report and recommendations”. O’Neill, J. The Review on Antimicrobial Resistance https://amr-review.org/sites/default/files/160518_Final%20paper_with%20cover.pdf (2016). |
↑3 | “Antibiotic discovery and development” Richard J. White D. Phil., B. Sc (auth). Springer (2012) pp. v |
↑4 | https://www.nrdc.org/experts/david-wallinga-md/most-human-antibiotics-still-going-us-meat-production |
↑5 | Antimicrobial Usage and Antimicrobial Resistance in Animal Production in Southeast Asia: A Review”. Nguyen T. Nhung ,et. Al. Antibiotics (Basel). 2016 Dec; 5(4): 37. |
↑6 | “Antimicrobial Resistance in Swine Fecal Specimens Across Different Farm Management Systems”. Suporn Pholwat et.al. Front Microbiol. 2020; 11: 1238. |