رغم فارق زمني قدره نحو عشرة قرون.. نراهما يلتقيان. يلتقيان في خيال قارئ إبداعاتهما المرسومة بالكلمات لكن بصور وأخيلة وأدوات وتماهي مع الطبيعة فريد في تاريخ الأدب العربي والغربي في آن معاً. فوصف الطبيعة، بمظهريها الحي والمصطنع، خاصة “أدب البرك والبحيرات” من الموضوعات الجديدة المتأثرة بمظاهر الحضارة، والمرتبطة بثمرات التمدن، والعاكسة لحياة الترف.. شرقيها وغربيها. برك وبحيرات البحتري، ولامارتين.
(البـِركـَة) كالحَوض، والجمع (البـِرَك)، وسُميت بذلك “لإقامة” الماء فيها، فكل شيء “ثبت وأقام” فقد (بَرَك،. ولعل “أدب البرك والبحيرات” لم يقتصر على حضارة/ ثقافة/عصر دون آخر. لكن هذه السطور ستحاول أن تقف علي “بركة البحتري” من أدبنا العربي، وعلي “بحيرة لامارتين” إحدى فرائد الأدب الفرنسي.
“البحتري” (204-284 هـ) (821-898 م) شاعر عبقري من أفذاذ الشعراء العرب في العصر العباسي. يقال لشعره “سلاسل الذهب”، وهو أحد الثلاثة الذين كانوا أشعر أبناء عصرهم، المتنبي وأبو تمام والبحتري، قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر؟
فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري. هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي الطائي، ولد بقرية منبج (كثيرة المياه، خضراء، فاتنة المرائي)، علي مسافة نحو أربعين ميلاً من حلب. اتصل ببعض الخلفاء العباسيين (المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز بن المتوكل) لكن طالت صلته بالخليفة المتوكل، وأثمرت كثيرًا من روائعه التي يزخر بها ديوان الشعر العربي.
ووصف “البحتري” الطبيعة في لوحات عديدة بديعة جمع فيها ألوانًا مختلفة من مباهجها. وقد تمكن من ترقية هذا الوصف إلى درجة رفيعة من التفوق والشخصية والاصالة. وقد ابتدع طريقة خاصة تقوم بإختيار التفاصيل الطريفة المحسوسة لتأليف لوحات متناسقة تروع بائتلافها وتؤثر بما يبثه فيها من حياه وحركة، وبما يجعل فيها من موسيقى رائعة. هذا وقد أولع “البحتري” بمظاهر العمران ووصف القصور وما إلى ذلك. وقد أبدى في وصفه براعة في تخير التفاصيل الناتئة، ودقة في رسم تلك التفاصيل رسماً حسياً وإنفعالاً نفسياً شديداً.
أما فن البحتري فيقوم على زخرف بديعي يأخذ به في اقتصاد وذوق، وعلى موسيقى ساحرة تغمر جميع شعره، وتأتي عن حسن اختيار الألفاظ والتراكيب التي لا يشوبها تعقيد ولا غرابة ولا خشونة بل تجري مؤتلفة في عناصرها وفي تسلسلها، موافقة للمعنى، تشتد في موقع الشدة وتلين في موقع اللين. وموسيقى شعر البحتري من أرقى صنوفها. ونراه يصف “بِـِركة المتوكّل”، وهي تمثل جزءا من قصيدة كان قد مدح فيها الخليفة. وهي تبلغ أربعين بيتًا، منها عشرة أبيات هي المدخل إلي ما أراد من مدح، وغزل، ووصف. [1]أنظر البحتري: الديوان، تحقيق الصيرافي، دار المعارف، ج 4، ص 2416.
يصف “البحتري” البِركة بقوله:
يــا من رأى البركة الحسناءَ رؤيتها ** والآنساتِ إذا لاحت مغانيها.
بحسبها أنها في فضل رتبتها ** تُعدُّ واحدة والبحر ثانيهــــــــــــــــــا.
ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ** فى الحسن طورًا وأطوارًا تباهيها.
كأن جنّ سليمان الذين ولوا ** إبداعها فأدقّوا فى معانيـــــــــــــــها.
فلو تمرّ بها بلقيس عن عرضٍ ** قالت هي الصرحُ تمثيلا وتشبيها.
تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة ** كالخيل خارجة من حبل مجريها.
ثم يعود لوصف المياه ليبين ما فضلت به علي البحر وسبب تلكم الغيرة:
كأنما الفضة البيضاء سائلة ** من السبائك تجرى فى مجاريـــــها.
إذا علتها الصبا أبدت لها حُبُكا ** مثل الجواشن مصقولًا حواشيها.
نري بيتًا غريبًا جميلًا حيث يصور مرور نسيم الصبا علي مياه البركة فتتكسر الموجات الرقيقة كأنها الدروع المصقولة لمعاناً.
إذا النجوم تراءت فى جوانبها ** ليلا حسبت سماءً رُكّبت فيـــــها.
تلمع النجوم على صفحتها في المساء فكأنها ليست انعكاس لها بل هي سماء أخرى. صورة بديعة فريدة قلت مثيلاتها في ديوان العرب.
لا يبلغ السمك المحصور غايتها ** لبعد ما بين قاصيها ودانيها.
لهنّ صحنٌ رحيبٌ في أسافلها ** إذا انحططن وبهوٌ في أعاليها.
صور إلي صور الدلفين يؤنسها ** منه انزواء بعينيه يوازيهــــــا.
كأنـــها حين لجّت في تدفقها ** يــد الخليفة لما سال واديــــــــــها.
كأنها في تدفقها وإغداقها يد الخليفة في الجود والإغداق. فوسط هذا الجو الشعري الجميل لا ينس مدح المتوكل:
أمارات كالئ الإسلام يكلؤها ** من أن تعاب وباني المجد يبنيها.
وزادهــا رتبة من بعد رتبتها ** أن اسمه يوم يُدعى من أساميها.
كان الخليفة المتوكل اسمه “جعفر”، و “الجعفر”: هو النهر فكانت البركة هنا نهرًا صغيرًا.
ونراه يقول:
فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ** وريق الغيث أحياناً يباكيـــــها.
إنها صورة دقيقة تجسد روعة الوصف فى شعر البحترى وللحق وكل أشعاره رائعة لا تكادُ تمرّ على زهرة فيها إلا وأطلت المقام بين رحيقها وراقت الموسيقى وسهولة اللفظ والفكرة والصناعة والأسلوب. ولم ينس الشاعر ما حول البركة من خضرة ونضرة وغناء تلكم البساتين عن طلب الري:
محفوفـةٌ برياضٍ لا تزال ترى ** ريشَ الطواويس تحكيه ويَحكيها.
هكذا لوحات “البحترىّ” تنطق بالألوان والحركات وربما كان أشعر من تغنى بموسيقى الشعر التي تنضح بالمرح والانطلاق والتفاؤل،”فكأن الحرف فيها باسم راقص”. برك وبحيرات البحتري، ولامارتين.
مساحة إعلانية
قيثارة اللغة الفرنسية – برك وبحيرات البحتري، ولامارتين
أما شاعر الطبيعية، والجمال، قيثارة اللغة الفرنسية، شاعر فرنسا وخطيبها وأديبها الشهير “الفونس دي لامارتين” (1790-1869م)، ولد في مدينة ” ماكون” إحدى حواضر مقاطعة “اللوار” الفرنسية وعاش لمشارف الثمانين من عمره .عمراً، يكاد يكون في سنيه، كعمر زميله “البحتري”. قام في مقتبل عمره برحلة إلى إيطاليا، محج الفنانين وقلب الثّقافة النّابض في أوروبا آنذاك.
عمل بالسلك السياسي وصولًا لمنصب وزير الخارجية الفرنسية. طاف بالشرق (في العام 1832م) في رحلة ألهمته كثيرًا من الخواطر والأحاسيس الجياشة، فدون عنها مذكرات. بين عشية وضحاها.. حاز ديوانه الأول “تأمّلاتٌ شعرية”(1820م) على نجاح منقطع النّظير مما جعله شاعرًا مشهورًا يشار إليه بالبنان. وهو يُعد أول مجموعة أعمال رومانسية في تاريخ الأدب الفرنسي.
ويتألّف ديوانه هذا من 24 قصيدة كُتِبت بين عامي 1815 – 1820، وهي أشبه ما تكون بمذكّراتٍ شخصية لما عايشه من تجارب خلال تلك المدّة. (برك وبحيرات البحتري، ولامارتين)
وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ اصدر “لامارتين” مجموعة شعرية ثانية تحت عنوان: “تأملات شعرية جديدة”. ثم نشر بعدئذ عدة كتب منها: رحلة إلى الشرق (1835)، جوسلين (1836)، سقوط ملاك (1838)، خشوع شعري (1839)، الخ. غير أن موت ابنته “جوليا”، سنة 1832، وانخراطه المتنامي في العمل السياسي كان لهما عميق الأثر في فكره.
تزوج من فتاة إنجليزية بعد عدة قصص حب فاشلة من بينها تلك القصة التي ألهمته قصيدة «البحيرةَ» الشهيرة. ولعلها من أشهر القصائد الرومانطيقية في الشعر الفرنسي. وقد ترجمت إلى العربية. كما ترجم له صاحب الرسالة الأستاذ “أحمد حسن الزيات” كتابين: «رفائيل» و «جنفييف». كما عرفه قراء العربية من خلال بعض قصائده المترجمة والمنشورة. ويعد “لامارتين”.. “أمير الشعراء الفرنسيين” ثالث ثلاثة شعراء رومانطيقيين (بعد فيكتور هيغو، والفرد دوموسيه) أعجب بهم كثيراً، وتأثر بهم أمير الشعراء العرب “أحمد شوقي”.
ولعلّ أعمق ما أثر في نفسية الشاعر تجربته الوجدانية “القصيرة” مع “جوليا شارل” وهي المرأة التي نسج حولها قصيدة البحيرة الذّائعة الصّيت. كان لامارتين يتنزه على شاطئ بحيرة (بورجيه) فلمح امرأة تحاول الانتحار، وتشرف على الغرق في ماء البحيرة، فسارع بهمة الشباب الأصحاء لإنقاذها، وعندما تسنى له ذلك، عرف (جوليا). كانت مصابة بداء صدري، وقد هدها المرض، ووصل بها إلى مرحلة اليأس والقنوط، فقررت الانتحار، وفي لحظات الغرق، وجدت يداً تنتشلها من براثن الموت. تعرّف لامارتين إليها، وما إن أبصرت هي وجه منقذها حتى تعلقت به، ثم بادلته الحب، فأقسم كلا منهما للآخر معاهداً على الوفاء والإِخلاص، وأن يكن حبهما طاهراً نقياً عذرياً. ليظل حباً سامياً يرتفع عن رغبة الجسد، ويرتقي إلى مصاف الروح الخالصة. لقد ماتت (جوليا) قبل أن يراها في العام التالي ، فأوفى بطلبها، فرمز لها بـ(الفيرا) في الرواية التي كتبها (روفائيل)، بل إنه سمى ابنته باسمها. كما خلد ذكرها فرثاها بهذه القصيدة التي كانت ومازالت من روائع الشعر العالمي.
وقد ترجمت القصيدة للعربية عدة مرات منها ترجمة عن اللغة الأم للدكتور “نقولا فيّاض” (القصيدة نقلاً عن ديوانه). وهي ترجمة مفعمة بالرقة والعذوبة:
أهكـذا أبــداً تمـضـي أمانيـنـا نطوي الحياةَ وليلُ المـوت يطوينـا
تجري بنا سُفُـنُ الأعمـارِ ماخـرةً بحرَ الوجـودِ ولا نُلقـي مراسينـا؟
بحيرةَ الحـبِّ حيّـاكِ الحيـا فَلَكَـمْ كانـت مياهُـكِ بالنجـوى تُحيّينـا
قد كنتُ أرجو ختامَ العـامِ يجمعنـا واليـومَ للدهـر لا يُرجـى تلاقينـا
فجئتُ أجلس وحدي حيثمـا أخـذتْ عنـي الحبيبـةُ آيَ الحـبّ تَلْقينـا
صفوة القول
إن “أدب البرك والبحيرات” ضرب من الفنون والبديع ينمو ويزداد ليصير نسيجًا حضاريًا متماسكًا، تزينه زخرفة وهندسة ناشئة عن إبداع النظم. وهو من الموضوعات التي أثرَت النص الرومانسي بفضل الصور المختزنة في اللاوعي، والتي يستدعيها الشاعر بما يمليه عليه سيل قريحته .إن “بـِركة” البحتري، و”وبحيرة” لامارتين -ولكلٍ منهما شخصيته وعبقريته وظروفه- يرفدهما رافد “وصفي/ رومانسي” مشترك، وهكذا الإبداع والتألق الشعري والإنساني علي مر العصور. ولعل الأول له قصب السبق -فالفارق الزمني بينهما ألف عام- في ابتكار هذا “الرافد الوصفي الرومانسي” لينهل من بعده من ينهل، ويتذوق من يتذوق. ويبقي أنهما، في النهاية، يلتقيان رغم أنف دعاة التصارع والتصادم والاستعلاء.
د.ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | أنظر البحتري: الديوان، تحقيق الصيرافي، دار المعارف، ج 4، ص 2416. |
---|