تأملات

أنت كاتب.. أنت تعاني

معظم الّذين كتبوا، وأغلب الّذين يكتبون عدا قلّة تمتهن البيدقة بسفاهة وتملّق لتقتات بها. هم أكثر النّاس تعبًا، معاناة تسكنهم حيث تواجدوا. (تأملات)

تأملات
Wouter de Jong from Pexels

في حقيقتهم هم يعانون أشدّ المعاناة، أصواتهم صامتة لا تُسمع، لكن ضجيجها عبر الكلمات صاخب لا يُحتمل، قد يصل حدّ الغليان، حدًا يقلب الموازين السّائدة في لحظة فارقة. الكتابة عندهم نبيذ الحياة الأبدية، يُسكَب في أقداح التأملات المتوالدة. سُكرهم برحيقها متواصل، لا ينتهي بالصّحوة من عشق سرمدي مُوجع أغلب الأحيان. عدا بعض الاستثناءات القليلة. يرافقهم الحبر المرّ كناقل أمين لقوافل المتاهات التي استباحت أذهانهم فسكنتها. يرسمهما كما حضرت في حينها. متاهات سكنت في الذّهن بلا هدوء حتى تخمّرت وفاح ريحها، فحان موسم نثرها على جدار الوصايا. بعضها عارٍ وبعضها يتوارى بسوءته خلف الاحتمالات، ممتطيًا صهوة الفراسة، جليًا لمن يتبصّرون.

إقرأ أيضاً:  هل الإنسان مسير أم مخير، قراءة فلسفية في مبادئ ميكانيكا الكم

أثقال البصيرة وعتمة الإبصار (تأملات)

إن الكاتب المُثقل بأحمال المعاناة في أغلب هوسه، موبوء بداء الكشف عن الكوامن. تثيره إغراءات الغوامض المنتشرة في أعماق بحار التأمل، فتسحبه إلى غوصٍ في عوالمها بلا تردّد، مستعينًا بحدس الاستبصار الّذي يُشجّعه حينًا، وبدقّة وصبر الجرّاح أحيانًا أخرى، دون التغافل عن المتعة الشّخصيّة التي يستحضرها، فيغرق في متاهاتها بما يفعل، حتّى تُوحِّدَه بهذا العالم المتناقض اللّعين. لا يغادر حلقة منه إلا ليقع في أخرى، تمامًا كما يفعل الطّبيب في حرب لا نهائية ضدّ الوباء. لكنّه لا يفقد الأمل. لا شيء يحول دونه ودون ما يرتضيه من سلامة لهذا العالم ما دام في العمر بقيّة زمن، وفي الذّهن يقين يستمرّ، وفي الجسد طاقة لم تنفذ على آخرها.

في أغلب تأملات النّفس المتفاعلة مع ما يثير ريبتها، والمُشَبَّعة بالحيرة والتّساؤل المستمرّ عادة، وفي لحظة الصّفاء النّادر، نكتشف فجوة غريبة تقبع بين ما نفهمه منطقًا وما نأتيه بهذا الفهم فعلًا. الفجوة تلك تجعل قاطرة حياتنا تسير على غير ما يفترض أن تكون سائرةً عليه.

فنحن كلّما بذلنا جهدًا إضافيًا واعيًا لفهم ما يجعل هذه الفجوة تحدثُ، نصطدم بمُدافع خفيٍ يُبرّرها ويلزم الوعي بقبولها، فيجعلها تتّسع اتّساعًا غريبًا. هذا المدافع يُنَصّبُ نفسه كشريك له الحقّ في إدارة لعبة الحياة، بينما المنطق لا يُجيز القيادة السّليمة لغير العقل. إنّنا بهذا نُدين العقل كمسؤول غير منضبط انضباطًا يفرض عدم انحراف الفعل وحصيلته المفترضة.

لكنّنا ننكر وندين أكثر شريكه في كلّ قرار: (العواطف)، فهو الّذي غالبًا ما يُخَفِّض من المطلوب المنتظر، بحثًا عن استمرار سلس للمرغوب في الزّمن سيرورة [1]سَيرورة: (اسم). دَخَلَتِ القَضِيَّةُ في سَيْرورَةٍ : في امْتِدادٍ وَتَطَوُّرٍ، في مُسَلْسَلٍ، في حَرَكَةٍ … Continue reading. فهو الّذي يُغري العقل بجدوى غضّ النّظر عن هامش خطأ، ويجرّه للتّسامح بقبولٍ بنسبيّة الصّواب مبدئيّا. على أمل التّدارك لاحقًا لكلّ نقيصة.

لكنّ الحقيقة غير ذلك، ففكرة النسبيّة حين يقبل بها العقل تعطي لشريكه هامشًا أوسع لفرض الفجوة كأمر واقع رغمًا عن المنطق. هذا ما يصنع خللًا بالمعادلة المنطقيّة (العقل يدير الحياة والعواطف خاضعة لسلطته) فتصبح (العقل يدير الحياة بالتعاون مع العواطف). وهنا تُولد الفجوة وتتّسع وتستمرّ.

أغلب الحالات الّتي تسوء فيها العلاقات بين النّاس، تكون فجوة أسبابها سوء فهم. وأغلب سوء الفهم ناتج عن فجوة سوء النّطق لفظًا أو سياقًا. فالمتقبّل عادة لا ينفصل عن أحاسيسه حين يترجم عقله مدلول المسموع، بل إنّ الانطباع العاطفي يُسقِط شِبْهَ حُكم مُسبّق على المُتكلّم، وما يودّ تبليغه للسّامع، من خلال حدّة صوته أوّلًا، ومرسوم ملامحه ثانيًا، ودقّة المنطوق ثالثًا. فمن يُحادثك ساخطًا متبرّمًا متجهّمًا -(أظهر الفجوة الخاصة به)- لا تتقبّله بنفس التفهّم والارتياح الذي تظهره تجاه من يأتيك هادئًا مبتسمًا باحثًا عن حالة تقاسم للفهم بأريحيّة، تجعلك تبحث له عن أعذار، حتى وإن كان على غير صواب -(تستحضر فجوتك المقابلة)-.

بهذا الحال للمنطق العاطفي، يُقِرُّ عقلك بأنّ ما يصنع الألفة والرّوابط حقًا ويديمها هو سماحة اللّسان، وطعم الودّ الّذي يبديه كلّ متحاور تجاه مقابله، حتّى وإن كان مرهق الدّاخل لسبب آخر، وجب فصله وعيًا لتجنّب خسارة لا مبرّرة، وليس معقولية وصواب ما يُطرح للمحاورة.

إقرأ أيضاً:  معارك اللّجوء النّاعم

الإدراك في العتمة غربة متعبة (تأملات)

المفكّر الّذي يحاور وعيه منفردًا، لا يجد عوائقًا كثيرة تحول دونه وبلوغ نقطة بداية فجوة الانحراف عن الصواب، ويكشف بيسر عن بذور نشأتها، فيُقرر واعيًا إتلافها وتصحيح المسار. أما الذي يدرس وعي الآخر من خلال الاستنباط والاستقراء، ليكشف عن الخلل ويصف الحلّ لتصحيح فجوته، يكون كمن ينشد التبصّر في العتمة.

والإدراك في العتمة غربة متعبة. أغلب الّذين سقطوا في قاع الجنون كانوا ضحاياها. عالم العتمة إرهاب بلا حدود، مستنقع بلا إشارات تعيد الأمل لمن يتوه. في العتمة تعرف أنك كنت في الطريق الصحيح، لكن الفوضى تعيق الانتباه. كلما تقدمت خطوة تضيع عنك نقطة الانطلاق، فتصير أكثر وعيًا بخطورة انحراف الرؤية بفعل تدافع المسارات. الانتباه بين المستهترين السّاهين يتطلّب منك طاقة لك وطاقة لهم. لا شيء عندك ترتكز عليه غير بصيرتك وقدرتك على تحمّل إصابات لا تعرف من أين تحلّ عليك ولا دوافع وجودها أصلًا. قطيع المستهترين ليس له منطق في النّور فما بالك في عتمة. كلّ من يفكر تزعجه الهزيمة، فلا يستمرّ مفكّرًا وتلك أشنع هزائم المفكّرين.

أشنع الهزائم. هزيمة ألّا تستمرّ مفكّرًا.

لا تقلق إذا توالت الهزائم، فالجميع في النّهاية ينهزم أمام الفناء. المنتصر الوحيد إلى حد الآن هو الموت. لا أحد يقف أمام جبروته. قراره نافذ على الجميع، عادل إلى الحدّ الّذي لا عدل بعده ولا عدل قبله، لا شيء يشفع لك أمامه إذا حضر الميعاد ولا يهتمّ للحال الّذي أنت عليه، لا يشفق ولا يتشفّى.

لا تقلق ما دمت تعرف هذه الحقيقة. وإن تجاهلتها فهي لن تتغيّر بتجاهلك. نحن مهزومون أغلب المرّات بإرادتنا واختيارنا، يُغرينا دور المنهزم مرة فنستمرّ في الدّور بقية المرّات. مهزومون نحن أمام الهواجس، فتسرق منّا الرّاحة، ومهزومون أمام رغباتنا فتضيع من بين أيدينا الحكمة.

مهزمون أمام عواطفنا وحنيننا، فندفع من رصيد الكرامة الشيء الكثير. مهزومون أمام الطّموح فنسكب من العمر بلا هوادة. مهزومون أمام الخوف فلا نجد للسّكينة مكانًا إلا لمامًا. مهزومون أمام المرض فندفع لأجل الصّحة كلّ الّذي عليه نحتكم. هزيمة واحدة لا نرتضيها في رحلة الحياة، لأنّها قذرة وعلينا أن نقلق بشأنها كل القلق. إيّاك أن تنهزم في معركة الضّمير، فتُلقي به قبل كلّ نزال، لأنك حينها تفقد شرف الانتماء للإنسان.

تأملات بقلم:
عامر علي إبراهيم

 

إقرأ أيضاً:  نظرة على الحياة


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 سَيرورة: (اسم). دَخَلَتِ القَضِيَّةُ في سَيْرورَةٍ : في امْتِدادٍ وَتَطَوُّرٍ، في مُسَلْسَلٍ، في حَرَكَةٍ مُتَتَالِيةٍ – قاموس المعاني.
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

كثرت التبريرات وزادت المنكرات

الجمعة يونيو 18 , 2021
تمت قراءته: 1٬786 أصبح عالمنا غريب على أصحاب الأخلاق فلقد أصبح كساحة كبيرة لا تسع ولا تستوعب إلا أصحاب المنازعات والتراشقات والخصومات وكأن هذه الساحة ضاقت على أصحاب القيم والأخلاق. فالكل يدعي الطهارة والإخلاص ويبرع في إلقاء اللوم والتهم لغيره. (الأخلاق في الإسلام) فالحكومات تلقي لومًا كبيرًا على الرعية والرعية […]
الأخلاق في الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة