زمن ليس كالأزمنة، أصبحت التفاهة فيه محط قيل وقال، معظم الأعمار تتهافت على التفاهة، زمن مشبع بالكسل وخيبة الأمل. التفاهة في هذا الزمن أضحت عند أشخاص تصنع السعادة، ووسائل الإعلام تسعى جاهدة لنقل التفاهة و منطقها الوحيد هو الربح المادي ولا يهمها نقل الثقافة والفكر إلا القليل منها.
تعريف التفاهة
التفاهة من مصدر تفه، وتعني الإهتمام بما لا أهمية ولا قيمة له. [1]معجم المعاني الجامع (اضغط هنا).
ومن أبرز من تناول هذا الموضوع الفيلسوف الكندي “آلان دونو” في كتابه نظام التفاهة La médiocratie، والكتاب يؤكد على فكرة مفادها أننا أصبحنا نعيش في عصر مختلف عن فترات التاريخ البشري، بحيث السلطة بعيدة عن يد من يستطيع التميز في القيادة، ومبسوطة في يد التافهين، ويؤكد آلان بأن التافهين حسموا المعركة وسيطروا على عالمنا بتفاهتهم، ويصف آلان دونو التفاهة والتافهين بقوله
المجتمعات تعيش على إيقاعين، في الكفة الأولى نجد الجودة والعمل بجدية والإهتمام بالفكر وكل ماهو ثقافي وإنساني، وفي الكفة الثانية نجد التفاهة والرداءة التي أصبحت مسيطرة على العقول.
أنواعها
التفاهة تجذرت وسيطرت على الفكر الإنساني، وأنواعها عديدة يمكن إجمالها في التالي:
- التفاهة الإقتصادية: منطق الأرباح والتركيز على الماديات، جعل منها وسيلة لتحقيق هذا المكسب، وهذا نجده في العديد من المقاولات خاصة المهتمة بالإعلام والقنوات، فأصحاب هذه المقاولات لا تهمهم الجودة وعرض محتوى يليق بالعقل الإنساني، ولكن العكس يعرضون ما يجلب لهم عدد المشاهدات والمتتبعين، وأصبح منهم يركز على عرض الفضائح، وهم أصبحوا على إقتناع بأن التفاهة هي من تعطي المال والأرباح أكثر، وحتى بعض الشركات الأخرى أضحت تركز عليها خصوصًا في الإشهارات من أجل عرض منتوجاتها.
- التفاهة السياسية: هذا النوع هو الذي أصبح منتشرًا في جل دول العالم الثالث، وأصبحت مسيطرة على عمل المؤسسات الحكومية و الحزبية، وأصبح معظم الساسة تافهين في أقوالهم و أفعالهم، يقولون القول ولا يطبقونه، ويمارسون نوع من الخداع السياسي، حتى في خطاباتهم أصبحت الرداءة الفكرية مسيطرة على أقوالهم، وهذا ما نلاحظه في الواقع المعاش، وحتى عندما تصل فترة الإنتخابات هم الآخرون يستعملون التفاهة والرداءة من أجل نشر دعاياتهم الإنتخابية، والفوز بأي طريقة.
- التفاهة الفنية: إنتشر هذا النوع بذريعة ممارسة الفن، والكل أصبح يدعي أنه فنان، ويقوم بعرض تفاهته التي يسميها بالفن، ولا يعلم في الأصل ماذا نعني بالفن؟، هذا النوع إنتشر بكثرة خصوصًا في مواقع التواصل الإجتماعي، هناك من يدعي أنه فكاهيًا أو مسرحيًا أو حتى مطربًا و كلامه وحواراته ومضمون أعماله مبنية على الرداءة، وهناك من يدعي أنه ناقد، وهو لاعلم له بهذا المجال، وأصبحت فئة يسمون أنفسهم بأنهم مؤثرين، ياللغرابة ! يؤثرون بفيديو مصور يعرضون فيه حياتهم الشخصية، المؤثر هو الذي يصدر محتوى فكري مكتوب أو مسموع، وغيرهم من يدعي أنه فنان ولكنه في الحقيقة هو تافه لأنه يعرض التفاهة.
مساحة إعلانية
من صنع التفاهة؟!
عوامل عديدة صنعتها وهي كالتالي:
- الجهل: فالجهل لا نقيسه بالدراسة فقط، وإنما هناك أشخاص غير متعلمين وعندما تتحدث معهم عن المواضيع التافهة والتي تئيس النفوس، يقول لك ماهذا المستوى الذي أصبحنا نعيش فيه؟، وعندما تنقص المعرفة والمعلومات نقول هذا جاهل، والأمر كذلك ينطبق على من يتهافت على التفاهة فهذا جاهل لأنه يجهل بمجريات الأمور، ويساعد على نشرها ويعطيها قيمة.
- غياب الثقة بالقدرات و المهارات: فالشخص عندما لا يثق بقدراته ومهاراته، وأنه قادر على أن يعطي أشياء جميلة لنفسه و للمجتمع، يملأ فراغه بها حتى يصبح من صناعها.
- غياب إحترام الذات: من لا يحترم ذاته لا يحترم الآخرين، ولا يميز بين الصالح والطالح، وفي غياب هذا الأمر، يصبح الشخص قادر على أن يصنعها بغرض أن يخلق السعادة لنفسه.
- التربية: إذا غابت التربية تزيد حدة التفاهة، فالطفل عندما يكون صغيرا بطبيعة الحال لايميز بين هذا وذاك، ودور الوالدين هنا مساعدة أطفالهم على التمييز بين ماهو جميل وسيء، وفي غياب هذا المعطى يكبر مع الطفل حتى يصبح شابًا مع عدم التمييز بين الصالح والطالح ولا يميز إذن بين الجودة والرداءة.
- مواقع التواصل الإجتماعي: بالرغم من أدوارها الإيجابية إلا أنها تعتبر ذلك السلاح الذي يفتك بالأخلاق والقيم، فلها دور كبير في نشرها.
المجتمعات خاصة الدول المتخلفة وصلت إلى حد التخمة من التفاهة، ربما إذا لم تكون وسائل الإعلام التي قامت بإزاحة ذلك الغطاء وتبيان الإنحلال الأخلاقي للجميع، ربما سيحتاج التافه صانع التفاهة إلى وسائل أخرى، ولا يجد سوى الكتابة، وسيحتاج آنذاك إلى توظيف أساليب بلاغية وإنشائية لإقناعنا بتفاهته، والمتلقي على الأقل سيستعمل تفكيره لكي يفهمها.
حلول معالجة للتفاهة
هناك من الحلول ما تكفي من أجل التخلص منها وهي كالتالي:
- التوعية والتحسيس: المجتمع المدني هنا له دور كبير في تحسيس الناس بخطورتها، المتمثلة في ضياع الوقت بلا نتيجة، وأن هناك أشياء أهم من الإهتمام وإعطاء قيمة للتفاهة والتافهين.
- التربية: للتربية دور محوري في محاربتها، فالوالدين يجب عليهم تربية أطفالهم على القيم، ومراقبتهم وتوصيتهم بأن لا يعطون قيمة لمن لا قيمة له، وتربيتهم على فكرة: إذا أردنا أن نملأ الفراغ هناك أشياء أخرى مهمة نملأ بها هذا الفراغ.
- القراءة: التفاهة أكبر عدو للقراءة، لأن القراءة هي السلاح الذي من خلاله نقضي عليها، فهي تحارب القراءة والقراء والثقافة، و لكن إذا فهمنا بأن القراءة كنز كبير لا مثيل له، سنفهم آنذاك بأن التفاهة فيروس يفتك بالوقت والعقل، وعوض الإهتمام بالتفاهة والتافهين وإعطائهم وقت، نعطي الوقت للكتاب و للقراءة، التي تعتبر الكنز الذي سنحصد منه الإيجابيات ونستفيد دائمًا، وتبقى القراءة غذاء روحي وفكري تعيش معنا طوال الحياة.
التفاهة هي نتيجة عوامل نفسية وإجتماعية ساعدت في بروزها، وبدأت مع الإنسان ولكنها إنتشرت بكثرة في عصرنا الحالي، وأصبحت عند أشخاص متنفس يملؤون به الفراغ، وآخرون يعتبرونها وسيلة لتحقيق مبتغاهم، لذلك وجب محاربتها وإعطاء الإهتمام لمن يستحق، وأول من يستحق الذات الإنسانية التي وجب ملؤها بالصفاء والنقاء العقلي والفكري، كما أن هناك من يستحق الإهتمام من إنجازات وإصدارات أدبية وعلمية، وتبقى القراءة أكبر سلاح بإمكانه أن يقضي على التفاهة.
طارق الحاتمي
كاتب و فاعل مدني
المغرب
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
طارق الحاتمي كاتب وفاعل مدني من المغرب، طالب باحث بجامعة القاضي عياض بمراكش، كاتب مقالات في مجال العلوم الإنسانية والإجتماعية، يهوى القراءة والشعر، ومهتم بقضايا الشباب والمجتمع.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | معجم المعاني الجامع (اضغط هنا). |
---|