ظاهرة تدني الذوق العام.. الأسباب والحلول

هناك أعمال ترتقي بمستوى المشاهد أو المستهلك وأعمال أخرى تنحدر به، وقيمة العمل أن يكون له “قيمة” و”هدف نبيل”، لا أن يحظى بشعبية أو يحقق أرباحًا ومشاهدات. والذوق العام لا يقتصر على الفن والغناء، وإنما يشمل كل نواحي الحياة بما فيها الغذاء والدواء. فهيا بنا ندرس تلك الظاهرة ونتناول الأسباب والحلول. (ظاهرة تدني الذوق العام.. الأسباب والحلول)

ظاهرة تدني الذوق العام.. الأسباب والحلول
Nawa3em

ذوق يحرك السوق

يعد الذوق العام قاطرة النجاح والفشل، فكلما ازداد وعي الإنسان كلما علا ذوقه، وكلما وضع معايير لقبول السلعة التي يريد شراءها لا يقبل التنازل عنها، والعكس صحيح. وهذا الوعي تحدده التربية ومستوى التعليم وقدر الثقافة الذي وصل إليه الفرد والمجتمع. وللذوق أبعاد لا تقتصر على الجانب المعنوي، بل هو شديد التأثير على السوق والاقتصاد، وهو محرك لعجلة التقدم للأمام والخلف.

والدليل على ذلك تجد الواحد منا كلما يتطور ويعلو مستواه الفكري والتعليمي والثقافي، ثم يراجع ذكريات أعماله السابقة وكتاباته وحتى مقتنياته الشخصية يتعجب كل العجب، كيف كان يرضى بهذا المستوى؟! وهذا لا يعني أن أعماله السابقة واختياراته كانت بالضرورة سيئة أو فاشلة، بل لأنه صار أكثر ارتقاءًا وأعلى ذوقًا وأقوى طموحًا. ومسيرة الإنسانية بشكل عام تسعى نحو تطوير الإنسان، والارتقاء بذوقه، والارتفاع بمستوى طموحاته ، لذا نجد موديلات السيارات القديمة مثلا أضعف في الإمكانيات وأقل جاذبية من الحديثة وهكذا.

تدني الذوق العام في الشعوب النامية

على عكس الشعوب المتقدمة التي أصبحت تهتم بعلامات الجودة الرقابية مثل شهادة الأيزو وخلافه، إلا إن حظ الشعوب النامية أنها أكثر شعبوية، بمعنى أنها تميل إلى الأكثر شهرة وشعبية بين أوساط المجتمع، حتى لو لم يكن معتمدًا من أي جهة ولا منضبطًا بأية معايير، فتجد الدعاية سيدة الموقف، دعاية جيدة مع عمل فاشل تجعل منه عملًا مقبولًا يتهافت العوام عليه، والعكس صحيح.

وصناعة الدعاية بالتحديد تعتمد على الخداع أكثر من الوضوح، وهو فن غير محايد في أغلب الأحيان، وإلا فبماذا نسمي الدعاية التي تركز على الإيجابيات وتخفي السلبيات؟ أو تلك التي تهتم بالمظهر على حساب الجوهر؟ أو تلك التي تضيف ألوانًا من الخداع البصري بفضل التقدم التقني في مجال التصوير والفوتوشوب؟ وأصل البيع أن يكون بوضوح، ويذكر التاجر المزايا والعيوب وإلا كان غاشًا للمشتري، ونحن نعيش هذا واقعًا ويعاني أغلبنا منه، تجد السلعة معروضة على الإنترنت فتقبل على شرائها بلهفة، وتفاجأ عند الشراء بأنها مختلفة في الجودة والشكل واللمعان عما رأيته في الإعلان، مثل هذا الفن الذي يزين القبيح يعد استغفالا للمشتري، ويجب على المشتري حينئذ أن يتمسك بمعاييره ولا يقبل التنازل؛ لأنه ليس مرغمًا على الشراء.

(ظاهرة تدني الذوق العام)

إقرأ أيضاً:  وقت مستقطع

مساحة إعلانية


مثال من اليابان

حين تطالع تجربة اليابان في النهضة والتقدم تجد أنها أفاقت من الحرب وهي لا تملك سوى الموارد البشرية، مما اضطرها إلى تنمية هذا المورد الهام جدًا، وذلك بالارتقاء بالتعليم والصحة والغذاء، وكانت النتيجة تخريج أجيال قوية تعرف كيف تعمل بإتقان وكيف تضيف لوطنها، وانطلقت المصانع تنتج السلع المعمرة. إلا أن هذا الربيع لم يدم طويلًا؛ نظرًا لظهور المنافس الصيني والهندي وغيره، والذي شابه المنتج الياباني في الشكل ونافسه في السعر.

وكان العيب الوحيد للمنتج الياباني ارتفاع تكلفة إنتاج السلعة المعمرة، وأخذًا في الاعتبار أنها كانت تستورد معظم الخامات، لذا كانت النتيجة أن انسحب بساط السوق من تحت أرجل المنتج الياباني، وخاصة أن تردد المستهلك على شراء نفس السلعة يكاد يكون صفرًا؛ حيث أن السلعة معمرة، مما اضطر اليابان للاتجاه نحو الإلكترونيات، لأنها تتميز بقلة الخامات المطلوبة وحاجتها لعقول ذكية وأيادي ماهرة، وهو ما يتوفر بكثرة لدى اليابان.

على ضوء هذا المثال إذا قدرنا المكسب والخسارة على مستوى العالم نجد أن العالم خسر الجودة والقيمة بتحيزه لمنتج أقل جودة، على حساب المنتج الياباني. وهذا التحيز يعد تشجيعًا للأسوأ ودعمه اقتصاديًا ودفعه للمنافسة بنفس الأسلوب لتتبع المنتج الياباني واحتلال مكانته في السوق. فخسرت اليابان وخسرنا جميعا وخسرت القيمة.

أسباب ومبررات – (ظاهرة تدني الذوق العام)

ونذكر أسباب التدني في الذوق العام بشكل سريع كما يلي:

  1. تدني مستوى الوعي والتعليم والثقافة لدى الشعوب النامية ، والذي جعل الفرد لا يميز الغث من الثمين، ولا يقدِّر الجودة، ويسهل خداعه بالحيل التسويقية والتحايل على أمواله.
  2. التمسك بالعادات والتقاليد والموروثات الشعبية الخاطئة مثل “اللي نعرفه أحسن من اللي مانعرفوش”، و “طالما الصنف واحد يبقى كله واحد”، و “عشيني النهاردة وموتني بكرة”، وغير ذلك.
  3. هيمنة الفكر المادي على العالم جعل من المال سيدة أعمال، وجعل من الغِنَي مجدًا تليدًا، وجعل المال غاية تبرر أي وسيلة للحصول عليه، علما بأن الغاية لا تبرر الوسيلة.
  4. الإقبال على المنتج الرديء مع علم المشتري أو المشاهد بأنه رديء ، وذلك بدافع الفضول والكسل وقصر النظر وسوء تقدير الأبعاد.
  5. الولع والهلع بالشهرة والمشاهير والأسماء الرنانة، ومثل تلك الشخصنة تجعل المخدوع الذي يقدس المشاهير يقبل منهم أي عمل، مع أن الأساس أن كلًا يُؤخَذ منه ويُرَّد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

الحلول – (ظاهرة تدني الذوق العام)

  1. تأصيل القيم في المجتمع ، وتلك المهمة تقع على عاتق البيت والمدرسة ودور العبادة، والنوادي وقصور الثقافة، ودور العرض المختلفة والمسرح والتليفزيون.
  2. الكف عن ترويج المنتج الرديء و”المضروب” أو تسويقه أو نشره، وربما نستلهم مدى حكمة النبي – صلى الله عليه وسلم – حين لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وما في ذلك من إرساء لمبدأ منع الضرر أو المشاركة فيه أو حتى الاقتراب منه، وهذا يشمل أيضًا المشاهدات على اليوتيوب وغيره من دور العرض الرقمية ، فمجرد مشاهدة الأغنية الهابطة أو المهرجان البذيء يعد تسويقًا له لأن عدد المشاهدات يحقق شهرة وأرباحًا لصاحبه.
  3. تشجيع الجيد والأفضل وحامل شهادات الجودة من الجهات المعتمدة، وترويجه وتسويقه، ففيه الخير والنفع والبركة والتقدم، حتى وإن تعثرت بداياته.
  4. الإتقان والتطوير في العمل الذي يعمله الإنسان، فعمل واحد جيد خير من ألف عمل لا تقدم الجودة، فالكيف قبل الكم، وتذكر قول الله تعالى : “وَقَدِمْنَا إِلَى مَاعَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباءً مَنْثُورًا” الفرقان (23).
  5. الاهتمام بتطوير الذات تعليميًا وتوعويًا وتثقيفيًا، وذلك من خلال التعليم الجيد والتدريب المستمر والقراءة وترجمة الكتب النافعة ونشر الخير وتقديم القدوة.

وفي الختام – (ظاهرة تدني الذوق العام)

تذكر أن العرب والمسلمين حين صكوا أول عملة ذهبية خاصة بهم – وذلك في عهد عبد الملك بن مروان – تهافت التجار على شرائها من كل أنحاء العالم، وذلك لما لمسوه وعاينوه من أمانة في الصنع ونقاء في الذهب، مقارنة بالعملة البيزنطية آنذاك، فعلينا أن نطور من أنماط تفكيرنا، ولتكن الجودة سيدة الموقف ورائدة السوق من الآن.

د. عمرو يحيى
طبيب بيطري ومُنَظر علمي

(ظاهرة تدني الذوق العام)

إقرأ أيضاً:  كن ذا قيمة!


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

حقيقة التعمق بين الجائز والمحرم

الأثنين يناير 3 , 2022
تمت قراءته: 2٬583 قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ” [المائدة 101](حقيقة التعمق بين الجائز والمحرم) ما هو التعمق؟ – (حقيقة التعمق بين الجائز والمحرم) التعمق هو البحث عن أمور فصل فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو تركها رحمة للناس من أمته […]
حقيقة التعمق بين الجائز والمحرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة