قصر الأمير “محمد علي” بالمنيل: تحفة معمارية باهرة

أمير عشق الجمال بكل أطيافه، وبخاصة جمال العمارة الإسلامية، وروعة الفنون الشرقية. وكان مهندسًا، وفنانًا، أشرف على بناء سرايات قصره “الأسطوري” بنفسه. كما كان مُحبًا للحدائق والأشجار والزهور فجعل – من تحفته المعمارية – مركزًا بحثيًا لعلوم وتقنيات الزراعة. وأوصى – حبًا لمصر – أن يكون القصر من بعده – بكل كنوزه – متحفًا يستمتع به المصريون والسائحون. (قصر الأمير محمد علي بالمنيل)

قصر الأمير محمد علي بالمنيل
بوابة الأهرام

وجاءت عمارته إضافة لعمائر مصر العريقة الكثيرة. ونظم الأمير “محمد علي” (1875- 1954) ابن الخديوي “توفيق” (حاكم مصر في ثمانينيات القرن التاسع عشر)، وشقيق الخديوي “عباس حلمي الثاني” (آخر من حمل لقب “الخديوي”) جوهرة ثمينة ضمن جواهرها النفيسة. ويذكر أن أرض القصر كانت ملكًا للأمير “مصطفى باشا فاضل”، والأمير “أحمد باشا رفعت” الذين باعا ممتلكاتهم إلي الخديوي إسماعيل الذي أسقط ممتلكاته بجزيرة الروضة للسيد “ألوي ماري جوزيف”.

وفي عام 1888 تنازل الدوق “أدمون” عن ممتلكاته لأحد رعايا دولة فرنسا ويسمي “جان كلود أرشيد”، وفي عام 1901 اشترى الأمير “محمد على” ممتلكات السيد “أرشيد” ومساحتها حوالي 75.620 مترًا مربعًا. فأختار الأمير الموقع “العبقري” ليقيم (ما بين 1901-1938) هذه التحفه المعمارية الرائعة التى تعبر عن فترة هامة من تاريخ مصر الحديث. وتبلغ المساحة الإجمالية للقصر نحو 61711 مترًا مربعًا، منها خمسة آلاف مترًا مربعًا للمباني، وحوالي 34 ألف مترًا مربعًا للحدائق، ونحو 22711 مترًا مربعًا للطرق الداخلية وغيرها.

ويقع قصر الأمير “محمد علي” (مقر إقامته) على فرع النيل الصغير، وضفاف جزيرة منيل الروضة، بحي المنيل بالقاهرة، ويواجه مستشفي القصر العيني. وحي “المنيل”، حي عريق ببيوته القديمة، وأجوائه الودودة، وموقعه الجغرافي الفريد، وذكريات قاطنيه من الأثرياء والنبلاء. فعندما تقصده متوجهًا للقصر. سيستقبلك التاريخ المتغلغل في زواياه العتيقة، راسمًا شوارع حُبلي بسحر الماضي الممتزج برونق الحاضر، حتى يطمئن إلى وصولك إليه لتستمتع بجماله الغلاب، ومنظره الخلاب. وعندما تقترب فتسير في ظل سوره الخارجي الذي يحيطه من جهاته الأربع. ينقلك المسير لرحلة تاريخية. حيث السور المُشيد علي نسق حصون القصور الوسطي، من الحجر الجيري، وتعلوه شرفات الحراسة. ومدخل القصر، وواجهته متأثرة بنسق الفن الفارسي فى القرن الثامن الهجرى. وعلى جانبى المدخل برجان بتأثيرات معمارية من العصر الفاطمي.

قصر الأمير محمد علي بالمنيل - من الداخل
بوابة الأهرام

وحين تدلف إليه. تستقبلك حديقته الشاسعة، بصدر رحب. بستان من أقدم البساتين فى مصر. وتبلغ أعمار بعض نباتاته النادرة إلى 200 عام أو أكثر. وتقرأ لافتات تحمل أسماء أشجاره النادرة التى جمعها الأمير من شتي أنحاء العالم، بالإضافة إلى هدايا الملوك والرؤساء، وتأقلمت مع مناخ وتربة مصر. منها أشجار التين البنغالي، والكروتن السيرلانكي، والسجوا (ذيل الحمل من اليابان)، وذيل السمكة (من إنجلترا)، والفل المغربي، وحمامة السلام (من جنوب إفريقيا) والكاميروبس (من أوروبا)، والنخيل الملكى ذى الجذوع البيضاء، وشجر الجوز، والبن، والمانجو، والجوافة الخ. بالإضافة إلى مزرعة الصبار النادرة التي جمع مفرداتها من مختلف أنحاء العالم. فجاءت الحديقة كلمسة معمارية لها نظائرها في قصور الحدائق الذي شاع في تركيا علي شواطئ البوسفور، والدردنيل، وبحر مرمرة.

السرايات – قصر الأمير محمد علي بالمنيل

يضم القصر من عدة أقسام تسمى “سرايات” (ذات طرز معمارية مختلفة). وكان “سراى الإقامة” (المبني الرئيس بالقصر) أول مكان شرع فى بنائه الأمير “محمد على” وذلك ما بين 1901- 1903. ويتكون من طابقين، ملحق بهما برج يستطيع الأمير – من خلاله – مشاهدة القلعة، وأهرامات الجيزة. وتحتوي حجرة الطعام منضدة تفتح من الجانبين حسب عدد الضيوف. وتأخذ الكراسى شكل سروج الخيل. وعلى المائدة حوض من الكريستوفل للزهور مزين بتماثيل لأطفال، وهناك أيضًا مكتبة الأمير، أما “صالون الصدف” فكل مقتنياته مطعمة بالصدف ويحتوى على أرائك مدون على ظهورها أبياتًا شعرية بالخط الكوفى ترحب بالضيوف.

وتزين جدرانه لوحات زيتية منها لوحة المملوك الذى نجا من مذبحة القلعة. ويضم الطابق الثانى من سراى الإقامة غرفة نوم الأمير، و”الحرملك”، أو “المشرفية” لأنها تجمع بين شُرف الإستقبال، وبين خشب المشربية، الذي يعزل الرؤية بعض الشيء. فيحفظ حياء وخصوصية النساء الجالسات خلفه. وفى مقدمتهن الأميرة الجميلة “أليس” زوجة الأمير ووصيفته السابقة (وهى من أصل فرنسي). كما توجد الحمامات، وحجرة المجوهرات.

قصر الأمير محمد علي من الداخل
بوابة الأهرام
إقرأ أيضاً:  فن الكاريكاتور

مساحة إعلانية


وشيد الأمير “محمد على” “سراي العرش” ليذكر أفراد الأسرة بأحقيته فى حكم مصر بعد أبيه، وأخيه. وقد بنيت على الطراز العثمانى المعروف باسم “الكشك”. وتتكون من طابقين، يضم الأول: قاعة العرش (مستطيلة الشكل) التى يزين سقفها قرص الشمس، وأشعتها باللون الذهبي، وفى صدر القاعة يوجد كرسى العرش الذى يعلوه التاج الملكى. ويعتقد الزائر من النظرة الأولى أن الحائط على جانبي الغرفة مزين بأكمله باللوحات الزيتية ذات الأطر الذهبية الفخمة.

لكن الحائط الأيمن للقاعة مزين بهذه اللوحات بالتبادل مع نوافذ كبيرة الحجم مزدانة بالستائر ذات اللون الأحمر الداكن. ومعلقة على إطارات خشبية فخمة تجعل النافذة أقرب ما تكون الى لوحة فنية رائعة. أما اللوحات الزيتية فتمثل أمراء، وبشوات، وخديويي، وملوك مصر في مراحل مختلفة. ويتصدر القاعة صورة كبيرة لمحمد على باشا (وليس الأمير محمد علي). وأمام الصورة، وعلى جانبي القاعة. أطقم من الكنب الفخم الذي يحمل شعار الدولة المصرية في ذلك الوقت.

وكان “سراى الإستقبال” المجاور لباب القصر مخصصأ لضيوف الأمير. ويقع بعد المدخل الرئيس مباشرة. ويتكون من طابقين يضم الأول: حجرة التشريفات التى كتب على بابها “الحياء من الإيمان” وهى مخصصة لاستقبال كبار الزوار، وحجرة لاستقبال المصلين صلاة الجمعة بالقصر. أما الطابق الثانى فيضم قاعتين: القاعة المغربية، والقاعة الشامية. ويقع “برج الساعة” بين سراى الإستقبال، والمسجد. وهو مشيد على الطراز الأندلسى وعليه كتابات بالخط الكوفي. يحتوى البرج على ساعة هى من نفس طراز الساعة التى وضعها الخديوي “عباس حلمى الثانى” فى محطة سكة حديد مصر. لكن مع اختلاف العقارب حيث أن ساعة الأمير “محمد على” عقاربها على شكل أفعى.

ولا يفوتك دخول “القاعة الذهبية” أو “صالون الوصايا”. وهي تعد تحفة معمارية في حد ذاتها، فجمال أسقفها وجدرانها لا مثيل له، فجميع زخارفها مُذهبة. وتجمع بين الطابع الإيطالي والعربي. وقد أبدعها مجموعة من أمهر الفنانين من مصر وأوروبا، ويحمل الباب المؤدي إلي داخل القاعة اسم الأمير “محمد علي “مكتوبا بشكل “طغراء”، ويتخذ شكل السقف الذهبي للقاعة سجادة من طراز “هولباين” يتوسطها جامة بيضاوية مشغولة بأوراق نباتية. ويتدلي من وسطها نجفة كريستال نادرة من نوع “بكارات” (فرنسية الصنع).

ويضم القصر مجموعات نادرة من المصاحف، والمخطوطات، والسجاد، واللوحات الفنية، والتحف الذهبية والفضية والنحاسية والزجاجية وغيرها. فمثلما اشتهر الأمير “محمد على “بأنه أحد أشهر هواة تربية الخيول العربية ذات الأنساب العريقة. اشتهر أيضًا بجمع التحف، والآثار، والمقتنيات الثمينة. وكان له في هذا المجال عيون متخصصة مهمتهم البحث عن النادر منها وجلبها للأمير ليعرضها بقصره. كما كان هو محبًا للسفر فقام برحلات حول العالم طاويًا القارات أكثر من مرة، فأقتنى روائع لا تقدر بثمن ضمها قصره. وتعد سجلًا فريدًا للفنون التي كانت تفخر بها بقاع كثيرة من العالم. أما متحف الصيد (افتتح عام 1963)، ويضم مجموعات من الطيور، والفراشات، والحيوانات، والزواحف المحنطة وبعض أدوات الصيد. وقد جمعها الملك “فاروق”، والأمير “يوسف كمال”

أعمال الترميم، والصيانة للقصر

بدأت أعمال الترميم والصيانة للقصر عام 2005. وذلك إثر سقوط سقف “قاعة العرش”. وتضمنت تلك الأعمال ترميمًا معماريًا للقاعة، والسقف، والنجف، والسجاد. كذلك واجهات السرايات، وإنشاء المبنى الإدارى الذى يضم معامل الترميم وقاعة لعرض المنسوجات، والسجاد، والمقتنيات الزجاجية والنحاسية، وتطوير شبكات الإنذار والإطفاء. ويتم صيانة اللوحات الزيتية بقاعة العرش بصورة دورية. كذلك تم ترميم سراى الإستقبال، وسراى الإقامة كاملة بما تضمه من غرف نوم الأمير، وغرفة المدفئة، والشكمة.

“مسجد القصر” يستقبل المصلين بعد إغلاق 9 سنوات

بالرغم من صغر مساحته، ويتوسط القصر، إلا أنه يعتبر تحفه معمارية وزخرفية فريدة. وقد بني عام 1352هـ بأمر من الأمير “محمد على”، وشيده على الطراز العثماني الأندلسي، وعُني بزخرفته – الداخلية والخارجية – ببراعة. فمن الخارج زين سطح المسجد بعرائس من الحجر الرملي على شكل رؤوس حيات (الكوبرا)، أسفلها شريط من الكتابة لسورة الفتح. أما الجدران فقد زخرفت على هيئة سجاجيد من طرز مختلفة. وتري النوافذ على شكل عقود محاطة بأشرطة من الزخارف الهندسية. وللمسجد كتلة مدخل مستطيلة الشكل وتعلو سطحه، وتبرز عن المبنى. وهي زاخرة بأنواع كثيرة من الزخارف.

وعلي على جانبى باب المسجد (من الخشب العزيزى، المزخرف بأطباق نجمية من النحاس) لوحتان مكتوبتان بخط النسخ الأولى (اللوحة التأسيسية). أما الثانية فكتب عليها أسماء كل من شارك في أعمال البناء، والنجارة، والسجاد، والرخام وغيرها. وذاك فى إشارة على اهتمام الأمير بالصناعات، والحرف. ويحتوي المسجد على العديد من الأشرطة الزخرفية والهندسية. وبعد إغلاق 9 سنوات من الترميم، فتح المسجد أبوابه للمصلين. حيث رفعت فيه شعائر صلاة الجمعة (20 مايو 2016). وسيفتح أبوابه الخارجية للمصلين كل يوم جمعة.

صفوة القول: (قصر الأمير محمد علي بالمنيل)

قصر مشحون بالكثير من الإبداعات، والحكايات، والمفاجآت. تشع منه أضواء الرفاهية، والرونق، والفخامة، كمزار من أهم المزارات المعمارية السياحية في مصر. إنه عنوان عريض لعبق المكان، وسحر الزمان، وحضارة الإنسان.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

(قصر الأمير محمد علي بالمنيل)

إقرأ أيضاً:  كرنفالات الشعوب.. مَباهج ثقافية


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

جنازات مشاهير. "لم يحضرها أحد"

الخميس أغسطس 19 , 2021
تمت قراءته: 3٬039 مقارنة بتلك الجنائز المهيبة التي لا ننساها لمشاهير الفن والرياضة والسياسة، توجد أخري يكاد لم يحضرها أحد.فمن المعتاد أن يتهافت الأصدقاء والمحبون، ورفقاء الدرب والمهنة على حضور جنائز زملائهم وأقرانهم. إلا أن هناك جنازات استثنائية لم تحظَ بالاهتمام الشخصي والمجتمعي والاعلامي المطلوب. وهذه الجنازات المأساوية لأصحابها وذويهم […]
جنازات مشاهير لم يحضرها أحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة