نظرة متأمل للحياة وهي تنسكب
الحياةُ هبةُ الخالقِ. لعبةُ الفُرْصَة اليَتيمةِ. مِيزتُها أنّ أحْداثهَا لا تُعادُ مرّتينِ، لَا لحْظةً فيها تنتظرُ أخْرَى: تَتَلاحقُ جَميعهَا مُتواتِرةً بينَ الانْبعَاثِ والانْعِدامِ. يسْتمرُّ زمانُها وِلادةً متتاليةً وفناءً متلاحقًا.. إنَّها طَبقٌ يطبخُ ويؤكَلُ متزامنًا في ذاتِ الحينِ، غايةُ منْ يعيشُها إدرَاكَ السَّعادةِ بينَ لحَظاتِها وعيَا بأنَّ ذلك يجعلها أَرْقى. (الوعي)
المتأمّلُ لحقيقتِها ينتبهُ إلى أنَّ أغلبها يُستنزَفُ معاناةً ويضمحلُّ بِلا طعْمٍ سوى تعبُ التَّخبُّطِ بلا وعْي ٍأو بوعيٍ مَوْهومٍ.
نزيف تحت أنظار الوعي
النَّزيفُ الحقيقيُّ للحياةِ والمعاناةِ الخفيّة فيهَا ليسَ سوى السّكونُ حين يقرّرُ وعيُك الصّمتَ تُجاه وهم البحثِ عن السّعَادة في غَيْر مكاَنها وفي غيرِ وقْتها. أنتَ تستنزفُ الحاضرَ الّذي تَقولُ عنهُ الزّمن الوحيد الّذي يعني الحياة، حين تنشغل فيه بما هو مُنتهٍ واقعًا أو بمَا هُوَ غيرُ موجودٍ أصْلًا في حَاضركَ.
(المَاضي) كمَا تعلمُ منتهٍ، إنَّه زمنٌ ميّتٌ، أحداثُهُ منتهيةً في الواقِع ولا يمكنُ بأيّ حَالٍ تَغييرها أو التصرُّفِ داخِلها في زَمنك الحَاضر.
أْنْتَ حِين تَنشغلُ بالماضي ينغمسُ في وعيكَ ويُصْبحُ بمثابة الميّتِ الّذِي يسرقُ الحيَّ. هذَا ما يَجعلُ العقْلَ فِي تناَقُضٍ جليٍّ مَع المُسلّمات الَّتي يَنبنِي عَليها مَنطِق سَلامةَ التصرّف.
مِن جِهةٍ أخْرى (المستقبل) الّذِي يشْغلكَ التَّحضير لهُ بانزعاجٍ وبإهدارٍ لطاقةٍ تميِّزُ الحاضرَ هو زمنٌ لم يُبْعَث بعدُ ولَا يُوجدُ ضَمانٌ حقيقيّ للحُصولِ عليهِ والتصرُّفِ فيه. إنَّهُ في الحقيقةِ لا يتجاوزُ مِهْما تَجتهدُ حُكم الاحْتمالِ، وكلّ احتمالٍ لا يحملُ ضمانًا بحتميَّةِ الحُدوثِ وَاقِعَا.
حِين نسْكُبُ وعْينَا بإسرافٍ في البْحثِ في متطلّباتِ المسْتقبل الغيْر مَولُودٍ في لحظة الفعلِ فإنّه يُشغلنا عن الحَاضر ويُصبحُ أيْضًا السّارقَ المنعدمَ وُجودًا للمتوَفِّر(الحاضر). وهذا تناقضٌ عقليُّ آخرَ أيضًا. اللّحظةُ الحاضرةُ هيَّ لحْظةُ الحياةِ الحقيقيّة، الوحيدة والمهمّة مهما كانت طبيعتُهَا ومميّزاتُها. هيَّ لحظةٌ تستحقُّ الانتباهَ المطلق والوَعْي الكَامِل من قِبَلِ العقل حتَّى لا تقعُ سَرقتُها تَحتَ أنظارِ الوَعي وتستنزف فعاليةُ قيمة الحياة فيها ممَّا يخلقُ معاناةً وألَمًا وتعبًا بشكل خفيِّ.
الوعي الغير مراقب سارق غبي
الحقيقةُ أنّ منْ يسْرقُ مِنك الحياةَ ويستنزفُهَا هو وَعيُكَ الغيرُ مراقَبٍ. فهْوَ حِينًا يَسرقُ حَاضِركَ ويُلقي به في أتُونِ الماضِي منْ خلالِ انغماسِ الذِّهنِ متبوعًا بالمشَاعرِ كشريك داعمٍ في تقليبِ أحداث منتهية بحثًا عن وهْمِ السّعادة هُناكَ. هَذا الأمرُ مُضحكٌ لأنّ من يكونُ قادرًا على إعْطائك بذرَة السّعادةِ هو الحاضِرُ الحيُّ وليْسَ الماضِي الميّت.
أنتَ هكذا سارقُ غبيّ يَسرِقُ الثّمينَ ثمُّ يقدّمُهُ قربانًا لضَريحِ ميّتٍ مقابلَ وهمٍ لا يتحقّقُ. إنّك حتّى وإن انتبهتَ لحقيقة الماضِي وتجنّبتَ السّقوطَ في متاهاتهِ فأنْت أيضًا لا تزال سارقًا غبيّا إذا لم ينتبه وعيُك إلى ثغرة تبذيرُ الولاءِ الغير مبرّر للمستقبلِ. عليك ألاّ تسرقَ حاضِرك الثّمين وتقدِّمُهُ ثَمنًا لما تَنتظرُه من المستقبلِ وأنتَ عَلى يقينٍ أنّهُ لا ضَمانة لكَ في امتلاكِه آجلًا أو أنَّك سَترتقِي لإدارَة أحداثِة فِعلًا.
الوعي المنتبه يزرع بذور السعادة
أنتَ حينَ تتجنّبُ الإسرافَ في سرقةِ الحاضِرَ تَكونُ في بدايةِ الطَّريق الّذي يُؤدي إلى التحكمِ الوَعِي بالزّمن والمكان الحقيقيين حيث للسّعادة. عَليك أن تَجدها فِي الحَاضر أو تَخلقها هناكَ لأنَّك مَنطقيّا تَحتاجُها في هذا الحاضِرِ. إنّ الحاضِرَ يتيحُ لكَ إمكانيّةَ المُتعة واقعًا. اْفعلْ أيّ شيءٍ تسكبُ فيه حاضركَ باستمتاع ولا تفعلهُ بمعاناةٍ. حتّى وإنْ كَان رَسْم سيناريو للمستقبلِ أو نظرٍ بأحداثِ المَاضي. المهمُّ حقّا أن تركّزَ إدراكُكَ على أنّ جوهرَ وروحَ كلّ ما تفعلهُ هو اللّحظة الحاضرة لا غير. وعليهِ فإنَّ السّعادةَ تقبعُ هناكَ ومن الغباء أن تستنزف طاقتك في الوهم الّذي يسحبك لمكان وزمن آخرين.
لَا يعني هذا أنَّ التواصلَ مع الأزمنةِ الأخرى مرفوضٌ تمامًا بل يجبُ أن يكونَ مبنيّا عَلى قانونِ الإرثِ في خدمةِ الوارثِ والتَّخطيطُ يخدمُ منْ يخططُ لا العكسَ. ولا مانعَ من أن يتحوَّل بعضُ الحاضرِ إرثًا ولكنْ بلَا إجْحافٍ واستنزافٍ وإنَّما برغبةٍ واعيةٍ تُمارسُ بهدفٍ تحت أنظارِ الوعي المتحفّز للتدخّلِ.
إنَّ الوعيَ بأنَّ السَّعادةَ فِي الحياةِ مُقْترنةٌ بالحَاضِر أساسًا لا يَعْني حتميَّةَ حُدوثِها بهَذا الشَّرْط اليتيمِ، بل إنَّ عناصِر أخرَى لازمةٌ أيضًا لعلَّ أهمّها تثمينُ ما نحتكمُ عليهِ من محفِّزَاتٍ مهمَا كانت بَسيطةً فذلكَ هو الكفيلُ الحقيقيُّ بتوفير بُذورِها لتَنبتَ هُناك. بالتأكيد من يحسنُ التَّفاعُل مع المتاحِ سَيكونُ في وضْعٍ مُريحٍ ويتخلَّصُ من استنزافِ آنيّةَ الحياةِ ويتجنَّبُ أغلب أشكال المعاناةِ الخفيَّة. الأريحيّةُ أحدُ أهمُّ أقسام السّعادةِ وأكثرها تأثيرا وأقرَبها مَنالًا لِمنْ أرادَ.
عامر علي إبراهيم
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
عامر علي ابراهيم من الجمهورية التونسية. تخرج من المدرسة العليا للعلوم والتقنيات بتونس متحصلًا على الأستاذية في الهندسة الكهربائية، واختار مجال التعليم كمهنة، لكنه لم يُهمل غرامه بالحقل الأدبي. له إنتاجات لا تزال في انتظار النشر.