“أمير الشعراء الروس”، وقبسات من القرآن

“قبسات” أمير الشعراء الروس تقف شاهداً علي ملابسات عصرها، وظروف إبداعها، وتجسيدا لمدي النمو الفني والروحي للمجتمع الروسي. وهي نموذج يستثمر التنوع، ويستنير بالمشترك الثقافي الإنساني، مما يصب في صالح “حوار الحضارات، لا صدامها”. إن عبقرية “ألكسندر بوشكين” Pushkin .A (1799- 1837م) “أكبر فخر لروسيا، وشمس شعرها، وأمير شعرائها”: “مستمرة في النمو، والإثمار، واكتناز القوة”. فهو وإن لم يعش طويلا، إلا أنه “ظاهرة ثقافية” عمرت طويلاً، بتطويعه وتشذّيبه اللغة الروسية، وبإبداعاته الشعرية والأدبية البارزة، وأثري أدبها.. رواية ومسرحاً ونثراً، وحرره من التبعية، فكان رائدا لمن بعده مثل ديستوفسكي وتولستوي. حيث أن كل تيارات الأدب والشعر الروسي في القرن الثامن عشر تؤدي إلي بوشكين، وكل أنهار القرن التاسع عشر تنبع منه. (ألكسندر بوشكين)

ألكسندر بوشكين
اندبندنت عربية

ولد “بوشكين” في موسكو في 26 مايو 1799م، في أسرة من النبلاء الأعيان، تعشق الفنون، واعتادت ترك أمر الاعتناء بأطفالها إلى الخدم والمربين، الذين كانوا في غالبهم فرنسيون لا يتقنون اللغة الروسية. لذا نجده قد تكلم وقرأ وكتب اول أشعاره بالفرنسية. كما جرت دماء أفريقية في جسده، فجذوره ترجع إلى أصل حبشي؛ فأمه “ناديشد أوسيبافنا” حفيدة “إبراهيم هانيبال” الجد الأكبر لبوشكين، الذي تم إهداؤه إلى القيصر “بطرس الأول”، وأصبح من ضباطه المقربين.

ولتأثره بتاريخ جده فقد حكي ـ نثراـ قصته في رواية “عبد بطرس العظيم”(1827م)، والتي تعد من أعظم الروايات التاريخية في الأدب الروسي. ومن كتاباته النثرية أيضاً رواية بنت القبطان (1836) التي وصف فيهما حياة المجتمع الروسي. وتلقى بوشكين تعليمه في معهد تعليمي خاص بأبناء النبلاء (مدرسة الليسيه بتساركوي سييلو)، وأثناء دراسته كتب عدداُ من القصائد الشعرية، وحدثت وقائع سياسية هامة مثل: غزو نابليون لروسيا، وحرق موسكو، وزحف الجيوش الروسية على أوربا، وسقوط باريس، والقبض على نابليون ونفيه. وبعد أن تخرجه من المعهد أُسندت إليه وظيفة في وزارة الخارجية، وكثيرا ما كان يرتاد مجتمعات “بطرسبرج” وأنديتها الأدبية والعلمية.

فمن أبرز موضوعاته الشعرية والمسرحية والروائية الرائدة: دور القوة والثورة في التاريخ الروسي، وأهمية إصلاحات بطرس، والصدع بين المجتمع المتغرب، وجماهير الشعب المتمسكة بالتقاليد القومية، والصدام بين تطلعات الرجل العادي، وقهر النظام، وقضية الإنسان المهمش الذي لا لزوم له، وتعقيد الطبيعة البشرية، والعاطفة وسحرها الجمالي، وسمو القلوب البسيطة فوق مظاهر الأستبداد والفساد. وعرف عن “بوشكين” حبه للتجديد في الشعر، ولعل الذي ساعد في ظهور موهبته مبكرًا، كون أبوه شاعرًا بارزاً، بالإضافة إلى اتقاد ذكائه وذاكرته، وثراء أحاسيسه ووجدانه، وحدة طبعه، وحبه وتعاطفه وتفاعله مع عامة الناس.

(ألكسندر بوشكين)

إقرأ أيضاً:  صلاح السعدني.. فيلسوف الفن

مساحة إعلانية


ومن أبرز قصائد بوشكين “ذكريات إلى تساركوي سييلو” (1814)، الحرية (1817)، وقبسات من القرآن (1824) ، الرسول ( 1826)، الإعصار (1827)، الفرقان (1828)، صباح شتائي (1829)، السيل العارم (1829)،. فلقد تحدث عن الطبيعة، والحب، والصداقة، ووطنية الشعب الروسي في كثير من أشعاره. كما كان يرى أن هناك رابطة بين الشعر والمجتمع، وبين الفن والتعليم، فالفن يجب أن يكشف عن حقيقة الحياة، وأن يمتلك علاقة عميقة بإبداع الشعب، بل وأن يكون له طابع وطني.

وتنقل “بوشكين” بين الرومانتيكية والواقعية، ففي بدء حياته الأدبية تأثر بالأدب الفرنسي، وأنضم إلي الرومانتيكيين في نضالهم ضد دعاة التمسك بالقديم. لكنه توجه لاحقاً صوب الأدب الإنجليزي، حيث أراد إحداث تغييراً جوهرياً في المسرحيات الروسية؛ فتأثر بشكسبير، ووجد في مسرحياته الانطلاق، والإخلاص، والحقائق، والأهداف السامية، فنحا نحوه، ورأى أن المسرح الروسي يتلائم ومسرحيات شكسبير الشعبية. ومن أبرز مسرحيات “بوشكين” مأساة تاريخية (1825)، وضيف بطرس (1830)، والفارس البخيل (1836)، وموزار وساليري (1830)، والوليمة في زمن الطاعون (1830). ففي مسرحيته التراجيدية التاريخية “بوريس جودنوف” يمزج بين الواقعية والدقة التاريخية، جاعلاً موضوعها “الشعب والسلطة”، فالشعب هو “المرجع الأول والأخير للسلطة”، كما أن:”السلطة لن تكون مهيبة إن لم تعتمد على الرأي العام”.

أما “يفجيني أونيجين” فتعتبر أول رواية شعرية واقعية في تاريخ الأدب الروسي، فلقبت: بـ”موسوعة الحياة الروسية”؛ وهي تعكس تحول “بوشكين” من الرومانتيكية إلي الواقعية، حيث يتراجع بطل روايته الذي يجسد جنبات العالم الذاتي الرومانتيكي له، ليحل محله النموذج الواقعي لجيل الشباب المعاصر، كما يكشف فيها عن طبقات من المجتمع الروسي.. متطلباتها وتناقضاتها وصراعاتها.

كتاباته الواقعية تميزت بتصوير رائع لشرائح المجتمع من فلاحين، وأشراف، وصناع، وأعيان، وحرفيين، ونبلاء الخ. كان في إهتمامه وتعبيره عن قضايا مجتمعه يحمل رسالة تهدف إلى القضاء على مظاهر الأسترقاق، وإذلال الفلاحين، ومطالباً بالحرية والتحرر والعدالة، وتقييد الحكم القيصري. وتعد رواية “دوبروفسكي”، التي تحكي عن شاب هارب من إحدى طبقات النبلاء، علامة أدبية بارزة ؛ فمن خلالها رسم صورة للحياة الروسية في بداية القرن التاسع عشر، وما كان سائدا من استبداد النبلاء، واسترقاق الفلاحين. كما انعكست رسالته ومطالبه بالحرية والعدالة في أعمال مثل:”إلى تشاداييف”، و”حكايات”، و”القرية”، و”المصباح الأخضر”.

كما كتب روايته الشعرية الشهيرة “الغجر” (خلال عامين) (1824) ، وقصة “الأمية القائدة”، ورواية الشعرية “الفارس النحاسي” التي استوحاها من تمثال بطرس الأكبر، بساحة مجلس الشيوخ في “بطرسبورج”، وكان بوشكين من أشد المعجبين به. ومن الجدير بالذكر أنه قد نُفي غير مرة. ففي الجنوب (منطقة القوقاز)، كتب بعض القصائد: “أسير القوقاز” العام (1821م) حيث يصف فيها تقاليد الشركس الذين يسكنون جبال القوقاز، و”نافورة باختشي سراي”.

إقرأ أيضاً:  أدهشت طواغيت الإستعمار فقرّروا إعدامها

مساحة إعلانية


(ألكسندر بوشكين)

“بوشكين”، والقرآن – ألكسندر بوشكين

تمثل الترجمة أهم جسور التواصل الثقافي والحضاري، وشكلت ترجمة معاني القرآن مكان الصدارة من بين صنوف الترجمات الروسية. وكانت الترجمات الأولى لمعاني القرآن تتم عن من خلال لغات أوروبية وسيطة، ثم أمكن ترجمة معانيه من الأصل العربي بعد تكوين مستعربين روس، فأصبح القرآن عاملاُ حيوياً هاماً لفَهْم مراحل العلاقات بين روسيا والاتحاد السوفيتي لاحقا، والعالم الإسلامي. وتركت ترجمة “فيريفكين”(1732- 1795م)، لمعاني القرآن سنة 1790م أثراً كبـيراً في تاريخ الأدب الروسي. وكان المدير الأول للمدرسة الثانوية في قازان، والأديب البارز، قد أنجز ترجمته التي سماها:”قرآن محمد العربي الذي ادّعى في القرن السادس أنه أُنزل إليه، وأعلن نفسه آخر أنبياء الله وأعظمهم”، آخذاً عن الترجمة الفرنسية لـ “دي يوري”.

وعلى الرغم من اعترافه بأن ترجمة “فيريفكين” هي أول الكتب الدينية التي أذهلت عقله، إلا أنه لم يَنْصَعْ لتأثير عنوانها، ولا للمقالة الملحقة بها:”سيرة المتنبئ الكذاب محمد” لأمين مكتبة سوربونا، ورئيس دَير كاثوليكي يسمي “لادفوكات”. بل لقد ذكر “بوشكين”:”أن المتكلم في القرآن باللغة العربية هو الله، وأن محمداً إنما هو شخص مُخاطب”. وفي ضوء ما شهده عصره من تقارب ملحوظ بين الأدب الروسي والآداب العربية والشرقية، لذا فقد حَفَزَتْه تلك الترجمة، فعمد ـ شعراًـ إلى طرح مواضيع من القرآن الكريم يتسنى للناس فهمها والاستفادة منها.

نظم بوشكين “قبسات من القرآن” عام (1824م)، (قبل عام من حدوث انتفاضة الديسمبرين الشهيرة)، وهي قصائد تسع، مدرجة بتسلسل الأرقام، حسب ما أوردتها د.”مكارم الغمري” في “مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي”،ضمن سلسة عالم المعرفة، العدد:155، نوفمبر 1991. كان “بوشكين” في “قبساته”: يرنو نحو الأفضل، باحثاً عن السكينة والحرية، منقباُ عن المثال الأخلاقي الخاص، والقومي العام، والإجتماعي المنشود، ومتأملا في طبيعة الحياة والموت، والقوة والنصر. لذا فهي برأي شيخ النقاد الروس “ن. بيلينسكي” (المؤلفات الكاملة، ج 7، ص 353):”ماس يتألق في إكليل أشعار بوشكين، وهي من اهم أعماله الفكرية والفنية والجمالية، الكاشفة عن المكانة التي أحدثها القرآن في تطوره الروحي، وتاثره به بالتراث الروحي للشرق العربي الإسلامي”. لقد بدا فيها إعجابه بأسلوب القرآن وفصاحته وبيانه، حيث:”أن الكثير من القيم الأخلاقية موجزة فى القرآن في قوة وشاعرية” (أ. بوشكين، المؤلفات الكاملة، ج 2، موسكو 1977م ص 193).

لقد شكل القرآن “أول كتاب ديني أدهش خيال الشاعر بوشكين، ويقوده إلي الدين”. وحسب “ستراخوف”:” فالقرآن علي ما يبدو قادر علي التأثير علي الناس بقوة وفي الوقت الحاضر تصنع روح هذا الكتاب غزوات كبيرة في الصين والهند، وهو ينتصر هناك علي المذاهب الإنسانية القديمة” (ن. ستراخوف” ملاحظات حول بوشكين وشعراء آخرين، كييف، 1897م، ص 47). ففي قصيدته الأولي من “قبساته” يستهل “بوشكين” بالقسم القرآني المميز للعديد من السور، ثم يتبعه بمقطع يستلهم آيات من “سورة الضحي”:”وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى”(الضحي:1-3). يقول بوشكين واصفا معاناة الرسول، وحزنه لفتور الوحي عنه: اقسم بالشفع وبالوتر، واقسم بالسيف وبمعركة الحق،

اقسم بالنجم الصباح، واقسم بصلاة العشاء.
لا، لم أودعك.

ويصف هجرة الرسول إلى المدينة بقوله:

يامن في ظل السكينة، دسست رأسه حباً،
وأخفيته من المطاردة الحادة
ألست أنا الذي رويتك في يوم قيظ بمياه الصحاري؟
ألم أهب لسانك سلطة جبارة علي العقول؟
أصمد إذن وأزدري الخداع.

وهو في ذلك يسترشد بالآية 40 من “سورة التوبة”:”إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”. ومن الجدير بالذكر أن بوشكين في قصيده له عن “الرسول”(1826م)، يلقي الضوء على أحوال الرسول قبل تلقي الوحي، وتميز روحه بالغنى، والتأمل في الكون، والميل إلي العزلة في الصحراء، بحثاً عن الحقيقة وعن إجابات فكرية شافية، ومن ثم تتم له عملية التحصين الروحي والجسدي، نراه يختتمها مستوحيا معاني:”يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر”(المدثر:1-3) بقوله: “وناداني صوت الله: “انهض، يا رسول، وأبصر.

لبّ إرادتي، وجب البحار والأراضي، وألهب بدعوتك قلوب الناس”.

في عام 1831م تزوج “بوشكين” من فتاة روسية بارعة الجمال هي “نتاليا جونتشاروفا”. وفي قصيدته الثانية يبدو فيها متسقا مع نفوره الشخصي من بهرجة النساء الأستقراطيات، وخروجهن عن الإحتشام، وافتقاد بعضهن لمعاني الوفاء والإخلاص الأسري. ومن المعلوم أن بوشكين ـ دفاعا عن شرفه في مواجهة شائعات مغرضة نالته ـ قد مات مقتولا عام 1837م إثر مبارزة ونزال مع غريمه البارون”دانثز”، والذي أشيع حول علاقته بزوجة بوشكين “نتاليا”، وكانت من هذه العلاقة براء. حول هذه الأمور يرسم “بوشكين” صورة شعرية يقول فيها:

إيه، يازوجات الرسول الطاهرات،
أنكن تختلفن عن كل الزوجات: فحتي طيف الرذيلة مفزع لكنّ.
في الظل العذب للسكينة عشن في عفاف: فقد علق بكن حجاب الشابة العذراء.
حافظن علي قلوب وفية، من أجل هناء الشرعيين والخجلى،
ونظرة الكفار الماكرة، لا تجعلنها تبصر وجوهكن.
أما أنتم يا ضيوف (محمد)، وأنتم تتقاطرون علي أمسياته،
احذروا فبهرجة الدنيا تكدر رسولنا.
فهو لا يحب الثرثارين وكلمات غير المتواضعين والفارغين:
شرفوا مأدبته في خشوع، وانحنوا في أدب:
لزوجاته الشابات المحكومات.

وهو في تلك القصيدة يتجلى تأثره بالنموذج الإسلامي، وشيوع العفة، وأيات الحجاب، ونبذ التبرج:”يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا”(سورة الأحزاب:32-33). وكذلك يستلهم:” يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا” (الأحزاب:53).

إقرأ أيضاً:  "حسين فوزي".. السندباد العصري، والعالِم البحري

مساحة إعلانية


(ألكسندر بوشكين)

كثيرا ما كان “بوشكين” يقدر قيمة التواضع، ويحتفي بحسن التعامل مع البسطاء، واحترام الكرامة الإنسانية بقطع النظر عن المكانة الإجتماعية، يتضح ذلك جلياً في قصيدته الثالثة التي يستلهمها من”سورة عبس” (الآيات:1-10):”عَبَسَ وَتَوَلَّى،أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، َوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى،أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى،فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى..”، حيث معاتبة الله تعالي لنبيه لإنشغاله بوجهاء قريش (يرجو اسلامهم)، عن “عبد الله بن أم متكوم”، ذلك الأعمي الذي جاء سائلاً، وملحاً في طلبه، فعبس الرسول في وجهه، وأعرض عنه: وتجهم الرسول، وهو يتململ بعد أن أحس دنو الأعمي:

ويسرع، لكن الرسول لا يقدر أن يظهر له الحيرة.
لأنه مع الكتاب السماوي معطي وثيقة لك يارسول، لا للخارجين،
بشر بالقرآن في سكينة، دون أن تجبر الكفار!

ثم يعقب ذلك استلهامه للآيات (17-31) من نفس السورة، والتي تدعو إلي التامل في الكون:”قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ، فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا”، يقول بوشكين:

علام يتغطرس الإنسان؟ علي أنه جاء إلي الدنيا عارياً
علي أنه يستنشق دهرا قصيرا،
وأنه سيموت ضعيفاً، مثلما ولد ضعيفاً.
ألا يعلم أن الله سيميته، ويبعثه بمشيئته؟
وإن السماء ترعي أيامه، في السعادة وفي القدر الأليم؟
ألا يعلم أن الله وهبه الثمار، والخبز، والتمر، والزيتون
ثم بارك جهوده، فوهبه البستان، والتل، والحقل؟

ونراه ـ وتحت ظروفه النفسية والمنعطف الروحي الذي كان يمر به وقت كتابته “القبسات”، ينتقل من شك إلي إيمان، ويستلهم مشهد القيامة:”فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، ترهقهَا قَتَرَةٌ، أوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ”(عبس:33-42)، فيقول:

لكن الملاك سيعود مرتين،
وسيدوي علي الآرض رعدا سماوياً:
وسيفر الأخ من أخيه، ويبتعد الأبن عن أمه،
ويمثل الجميع أمام الله، صرعي من الرعب،
ويسقط الكفار يغطيهم اللهب والعفار.

أما في قصيدته الرابعة، فيصف فيها “بوشكين” ذلك “الجدال” بين النمرود ـ المستكبر بمُلكه ـ و”إبراهيم” عليه السلام، فيقول:

معك في القديم، يا قادر، يا عظيم توهم أن يتباري،
ممتلئاً بالكبرياء المجنونة، ولكن أنت يا إلهي، أفحمته،
أنت ( تقول): أنا أهب العالم الحياة، واعاقب الأرض بالموت
فيدي مبسوطة علي كل شيء.
وأنا كذلك،(اقول)، اهب الحياة، وأعاقب ايضا بالموت:
فأنا يارب ند لك. لكن خيلاء الإثم خفتت
من كلمتك الغاضبة: سأرفع الشمس من المشرق،
فارفعها أنت من المغرب.

ولقد ورد هذا “الجدال” في النص القرآني:”اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”(البقرة:257-258). ويبدع “بوشكين” صورة شعرية ـ في القصيدة الخامسة ـ مفادها: “التامل والنظر المادي في الكون المخلوق دال علي موضوع الخالق”، فيقول:

الأرض ساكنة ، والسماء بلا عمد، الخالق الذي نعتمد عليه،
لن يسقط السيل علي اليابس، ولن يقهرنا وإياك.
لقد أضأت الشمس في الكون، وأضأت أيضا السماء والأرض،
مثل نبتة كتنان تمتلئ بالزيت، تضئ في مصباح بلّوري،
صل للخالق فهو القادر، فهو يحكم الريح في يوم قائظ
ويرسل السحب إلي السماء، ويهب الأرض ظل الأشجار.
إنه الرحيم: قد كشف لمحمد القرآن الساطع،
فلننساب نحن أيضا نحو النور، ولتسقط الغشاوة عن الأعين.

ولعله في تامله هذا ـ يستنير بالآية (10) من سورة لقمان:”خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ”، وكذلك الآية (35) من سورة النور:”اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”(النور:35).

إقرأ أيضاً:  شكسبير ملهمًا

مساحة إعلانية


(ألكسندر بوشكين)

تُعد القيدة السادسة من أهم قصائده العاكسة لمكنوناته وقناعاته، ونشدانه العدل والحرية والمساواة بين طبقات الشعب الروسي. ففيها استلهام لنموذج البطولة الإسلامية، والعلاقة بين القائد والرعية. ففي نوفمبر عام 1825م توفي “ألكسندر الأول”، وتولى الحكم بعده “قسطنطين”، الذي تخلى عنه لأخيه “نيقولا”. لم يكد الأخير يجلس علي العرش حتى هبت ثورة “الديسمبرين” في 14 ديسمبر عام 1825، والتي تعد أول حركة روسية “ديمقراطية” منظمة. لكن نتج عن هذه الثورة قتل بعض زعمائها ونفي آخرين إلى مجاهل سيبريا. واعتبر بوشكين معارضا للسلطة بعد تنازل “قسطنطين” عن الحكم، فانحاز للديسمبرين. لم يستطع “نيقولا” أن يجد في مؤلفات بوشكين ما يشير إليه أو إلى سياسته فنقله من منفاه في “ميخائيلوفسكي” إلى موسكو، مستخدمًا معه أسلوب اللين والمراوغة. ليجعله شاعر البلاط، ويتغنى بالسلطات الرسمية خالعًا عليها كل آيات الثناء والتمجيد، وقد استطاع بوشكين بذكاء وحيلة التقرب من القيصر بالرغم من انتقاده له ولسياسته، ونتيجة لهذه العلاقة وجهت لبوشكين تهمة الخيانة. يقول بوشكين:

ليس باطلا أن حلمت بكم في معركة ورؤسكم محلقة،
وسيوفكم مضرجة، في خنادق، وفي بروج، وعند الأسوار
إنصتوا إلي الدعوة المبتهجة، يا أبناء الصحاري الملتهبة!
سوقوا إلي السر الإماء الشابات، اقتسموا غنيمة الحرب!
لقد انتصرتم: فالمجد لكم، ويا للسخرية من ضعاف النفوس.
فنداء الحرب لم يلبوه، ولم يصدقوا الأحلام الرائعة.
وهم الآن في ندم، تفتنهم غنيمة الحرب
يقولون: خذونا معكم، لكنكم ستقولون: لن نأخذكم
الشهداء الساقطون في المعركة: هم الآن في الجنة،
يغرقون في نعيم، لا ينغصه شيء.

يبدو معني النصر، والحديث عن مغانم الحرب مقتبسا من آيات منها:”لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا”(الفتح:27)، وكذلك: “لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا”(الفتح:18-19). أما البشري بالجنة للشهداء فيبدو مقتبسا من:”يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ”(الصف:10-13).

يتناول “بوشكين” جانبا آخر من سيرة الرسول، في تبتله، وطاعته، وقيامه الليل، وسهره، ومجاهدته لنفسه.. كسبل لإعداده لمشاق الدعوة:”يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا، إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا، وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا”(المزمل:1-10)، فنري بوشكين يقول:

إنهض أيها الوجل: ففي كهفك، مصباح مقدس
يضئ حتى الصباح. وبصلاة خالصة، تُنحي يارسول
الأفكار الشجية، والأحلام الشيطانية
وأقم الصلاة في خشوع حتى الصباح،
والكتاب السماوي، اقرأه حتى الصباح!

في القصيدة الثامنة إعجاب بسمة الكرم العربي، وهي تتقاطع في مخيلة الشاعر بمفهوم “الصدقة” في الإسلام، ليعتبر الأخيرة مظهرا من مظاهر الكرم. وكان العهد الذي عاش فيه بوشكين موسوماً بالظلم الاجتماعي، لذا فقد جذبت “فكرة الصدقة والحرص علي الفقراء وكفالتهم، مع مراعاة الجانب المعنوي لهم” اهتمام بوشكين. فاستلهم معاني الآيات:”الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”(البقرة:262-264) علي النحو التالي:

وأنتم تتاجرون بضميركم أمام الفقر المدقع، لا تنثر هباتك بيد مقتصدة:
فالسماء تبغي الكرم الوفير. ففي يوم الحساب العسير، ومثل حقل خصيب
آه يا ناثر الخير، تجازي اعمالك بأعظم الجزاء.
لا تأسفت علي عطاء الدنيا المكتسب، وأنت تناول السائل عطاءك الشحيح.

حول نبذ الشك والبرهنة علي البعث، تدور القصيدة التاسعة، ومضمونها مقتبس من الآية (259) من سورة البقرة:”أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، والتي يوليها بوشكين حبا خاصا، فقد استلهم من معانيها في قصيدتيه الرابعة والثامنة، يقول “بوشكين”:

واحتوي العجوز حزن خاطف، وانتحب وهو ينكس رأسه المهتزه،
وآنذاك حدثت معجزة في الصحراء: فقد بعث الغابر في حسن جديد،
ومن جديد تأرجحت النخلة برأسها الظليل، ومن جديد سرت في البئر برودة و”شبورة”.
وانتصبت عظام الحمار المتداعية، واكتسي الجسد واصدر النهيق،
وأحس العابر بالقوة والبهجة، وتألق في دمائه الشباب المتفجر
وملأ صدره الأنشراح المقدس: وأنطلق مواصلا طريقه مع الله.

إن معنى “البعث” عند “بوشكين” يستوعب الجانب الديني والروحي والقومي للأمة، ويختتم هذه القصيدة بالتفاؤل بالمستقبل “وانطلاق عابر السبيل ممتلئا بالإيمان والقوة والبهجة” لتكون مسك ختام “قبساته القرآنية”. والتي يعلن بها أن القرآن يبقي بتعاليمه السامية، وقيمه العالمية الخالدة، ونسقه المُعجز، وفضاءاته الرحبة العابرة حدود المكان والزمان، والنفس الإنسانية، مبهراً له علي المستوي الشخصي، كما أنه يبهر كل ذوي العقول والألباب. (ألكسندر بوشكين)

وصفوة القول

مهما تكن الأسباب الدافعة لبوشكين لاهتمامه بالقرآن، وإبداعه “القبسات”، وهل كانت أسباباً شخصية كون جده “إبراهيم” كان مسلماً؟، أم كانت “تعبيرا عن معاناة ذاتية”، وتأملا ” فلسفيا”، وعياً بدروس التاريخ؟، أم استدعتها ظروف اجتماعية وسياسية؟. علي أية حال فـ”قبسات بوشكين”، وغيرها من إبداعات مماثلة تغالب مقولات التصارع الحضاري، وتؤكد نداءات التعاون والتعايش، وهي إشادات تحترم الخصوصيات، وتسمو فوق سوء الفهم والصور النمطية والقولبة، وأساليب الاختزال والاستلاب. كما الساعي لإدراك اللغة العربية وأسرارها، وتذوق أساليبها، والإبحار في فضاءات مجازاتها، وإتقان قواعدها، والوعي بمفرداتها ومدلولاتها، وتعقل خصوصية تراكيبها، والرغبة في الارتواء من معين جمالها وجلالها، عليه أن يغترف من أنهار القرآن.. وهنيئاً للشاربين.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

(ألكسندر بوشكين)

إقرأ أيضاً:  ماذا يقرأ زعماء العالم؟


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

الواقع المر

الأربعاء مايو 11 , 2022
تمت قراءته: 2٬801 تدمع العين وينزف القلب ويضيق الصدر ويحزن المرء عن حياة بعض الشباب من هذه الأمة المحمدية التي نزل فيها القرآن الكريم وجاء بكل الأدوية والحلول لها ولكن المؤسف ما نراه من جل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين في عز شبابهم من العطاء والنشاط يتنازلون عن […]
تقليد الغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة