حتمية السفر الإنساني

من القواعد الجليلة التي طالما أرساها علماؤنا هى قاعدة “لا مشاحة في الاصطلاح”.

لا مشاحة في الاصطلاح
iStock

ومضمون هذه القاعدة كما يقول العلماء أنه طالما أن الخلاف بينهم هو مجرد خلاف لفظى واصطلاحى أى لم يتعد المفهوم والمبنى إلى المضمون والمعنى فلا نعد ذلك خلافا حقيقيا إنما هو مجرد خلاف لفظي ظاهري فى الأسلوب وطريقة التعبير،
والذي دعاني إلى ذكر تلك القاعدة هنا هو ما نراه ورأيناه من ذلك الكم الهائل من الاختلاف حول معنى الفلسفة ومضمونها وحكمها، فما بين صنف مانع محرم وآخر مبيح ومجوز ويري أنها ضرورية ولابد منها وثالث يرى أنها مجرد سفسطة ذهنية وترف فكري ولغو لفظي فلا فائدة منها ولا طائل من ورائها.

والذي أراه وأعتقده أن الخلاف بين كل هذه الأصناف مجرد خلافًا لفظيًا وأنهم متقاربون أكثر مما يظنون، وذلك لأن الفلسفة فى جوهرها وحقيقتها وإن تعددت أشكالها وتنوعت ألوانها ما هى إلا خريطة كلية للوجود وتصور عقلي له، وكما أن المسافر إلى أي مكان لابد له من خريطة ذهنية أو ورقية تعطي له تصورًا كليًا عن الوجهة التي يريد الذهاب إليها وعن الطريق الذي يجب أن يسلكه وعن المعوقات والأخطار التي قد يلاقيها فى سفره، ولو فرضنا أن هذه الخريطة ضاعت من هذا المسافر لضل طريقه وهلك حتمًا قبل أن يصل إلى بغيته ويدرك غايته.

كذلك الفلسفة فى معناها وحقيقتها هى بمثابة تلك الخريطة وذاك التصور للأنسان، هذه الخريطة تبين للإنسان مكانه في هذا الوجود وحاله الذى هو فيه وكذلك المصير الذي ينتهي إليه، وإذا كنا سنأخذها بهذا المعنى، يكون الخلاف بين المؤيدين لها والمعارضين هو مجرد خلاف لفظي لأنه لا يتصور أنه أن يخلو مؤيد لها أو معارض من تصور ما لهذا الوجود صح ذلك التصور أم لم يصح.

(لا مشاحة في الاصطلاح)

إقرأ أيضاً:  القوة واللين

مساحة إعلانية


نعم قد لا يسمى هذا التصور فلسفة وقد يسميه عقيدة أو مذهب أو منهج أو رؤية كونية أيًا ما يكن من خلاف فى المسميات والمصطلحات لكن يبقى المضمون ثابت والمعنى واحد، ويكون الخلاف الحقيقى ليس فى كون الفلسفة مباحة أو محرمة أو هل هى ضرورية أو ليست ضرورية، وإنما فى أى تصور من بين كل تلك التصورات هو الصحيح الحقيقى المطالب للواقع ونفس الأمر، وأى تلك الخرائط الوجودية هى التى إذا أخذ بها الإنسان وسار بمقتضاها لم يضل فى طريقه ورحلته الوجودية، ولقائل أن يقول وما وجه الشبه بين المثالين بين الأمرين أو بين المثالين بين المسافر وبين الإنسان؟! وأنا أقول له بماذا تعرف المسافر؟

سيجيبني:
بأن المسافر هو الشخص الذي لا يستقر فى موضع معين بل يغير موضعه ويبدل مكانه بشكل مستمر قاصدًا وجهة معينة ولا يتوقف قبل بلوغها.

وأقول له كذلك الإنسان بشكل عام هو أيضًا مسافر فى هذا الوجود الكلى ومرتحل عن هذا العالم وإذا كان المسافر العادى ينتقل من مكان إلى آخر أو من بقعة جغرافية إلى أخرى كذلك كل إنسان يتحقق فيه هذا المعنى من الرحلة والانتقال ولكن بنحو أعظم وبوجه أكبر وأتم، فهو ينتقل من عالم كلي له قوانين معينة إلى عالم كلي آخر بقوانين مختلفة اختلافا كليا عن قوانين العالم الذي يسبقه وهذا نراه واضحًا ونشاهده عيانًا فلو نظرنا إلى ما قبل ولادة أى إنسان فى هذا العالم وما قبل مجيئه إلى هذه الدنيا نجد أنه قبل ولادته لم يكن يحظى بأي نحو من أنحاء الوجود فى هذا العالم الدنيوي، ثم بعد ذلك يولد ويجئ إلى هذه الدنيا ويصبح طفلًا وشابًا وكهلًا وقد يتعامل مع هذه الدنيا وكأنه من أهلها، ولا يزال يتغير ويتغير باستمرار فى كل آن ولحظة فلا تخلو لحظة من تغيير يحدث فيه، ثم يأتي بعد ذلك موعد خروجه الحتمي من هذا العالم بالموت المحقق فيخرج من هذه الدنيا بشكلٍ كلى وينتقل إلى عالم ما بعد الموت والذي يسمى بحسب العقيدة الإسلامية بعالم البرزخ وهو عالم له قوانينه المختلفة بالكلية عن عالم الدنيا.

ثم يبعث فينتقل من عالم البرزخ إلى عالم الآخرة ((الجنة أو النار)) والذي يختلف تماما ً عن العوالم الكلية الكبرى التي سبقته وهنا يحق لى أن أتسائل:
أليس هذا هو السفر الحقيقي بأتم معانيه؟ وهل هناك معنى الغربة أو للسفر أو للرحلة والانتقال إذا لم يتحقق هنا هذا المعنى؟ أظن أن الإجابة تكون بلا ريب نعم هذا هو السفر الحقيقي وتلك هي الرحلة وما دامت هذه هى الإجابة فإن حاجتنا إلى خريطة وجودية تكون كأعظم ما تكون الحاجة وفاقتنا إليها كأشد ما تكون الفاقة.

أحمد محمد الألفي
باحث تمهيدى ماجيستير العقيدة والفلسفة
جامعة الأزهر

(لا مشاحة في الاصطلاح)

إقرأ أيضاً:  الخلق بين علم الله وغيبه


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

نَسَلم ويَسَلمون، بدلاً من أن نَغـَنم ويأثمون

الخميس مارس 31 , 2022
تمت قراءته: 1٬805 ماذا يستفيد البعض من أن يقع الناس في الإثم والحرج؟ مع أن ديننا الإسلامي وشريعتنا السمحة وهدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم غنيٌ بالشواهد الدالة علي رفع الحرج: “. مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (المائدة: 6)، […]
نَسَلم ويَسَلمون، بدلاً من أن نَغـَنم ويأثمون

اقرأ أيضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة