فصحاء اللسان

عند اختياري لعنوان مقالتي ترددت كثيرًا أن يكون كذلك ولكن توقف الفكر برأسي وهداني ربي للعنوان. فالإنسان بطبيعته تغمره كثيرًا من الصفات وقد يكون مجبولًا عليها وقد يكتسب بعضها لظروفه البيئية والمعيشية والاجتماعية. وهذه الصفات منها الممدوحة ومنها المذمومة ومنها ما هو متفق على ذمه ومنها ما هو متفق على مدحه وغير ذلك من اجتهادات. (الفصاحة)

الفصاحة
TeacherToolkit

وأما صفة الفصاحة

فقولًا واحدًا قبل أن أكتب عنها لا يقف عليها أحد إلا وكانت له من الصفات الممدوحة وهي كذلك وأنها تستحق أكثر من ذلك وتتعجب وتكون شديد العجب حتى وأنت تعلم أنها تتغلب على كثير من الصفات في وقت من الأوقات وحتى يتضح الكلام فلك أن تنظر في أمر هدهد سليمان عليه السلام ومدى فصاحته وبلاغته حين تفقد سليمان الطير وافتقد الهدهد.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ۝ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ۝ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [سورة النمل 20 – 22]

ففصاحة الهدهد وبلاغته أقامت الحجة على نبي من المرسلين بل ولك أن تتخيل أنه كان يأمر بمعروف وينهى عن منكر وغار على دين رب العالمين. وكانت انطلاقته خلفها هدف مبين وهو هداية أمة كانت من الضالين وفي براعته وفصاحته كان من الخير الكثير لهذا الأمر العظيم.

ولا تكاد تسأل أحدًا كان من كان عن هذه الصفة إلا وامتدحها بل منا من يغبط غيره عليها ومن القوم من هو حاسدًا لغيره. فهي حقًا صفة إذا تشبع بها أحد كانت له كطوق نجاة من الكثير. بل قد تكون مجملة ومتممة ومكملة في بعض المهن التي يمتهنها الخلق كتدريس أو محاماه أو غيرها من المهن التي تحتاج إلى اللباقة واللياقة الكلامية.

بل وربما تقلب الباطل حقًا والحق يكون باطلًا كما جاء في كلام سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

في صحيح البخاري كتاب الشهادات الجزء رقم: 3، الصفحة رقم: 180 2680 عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ”. [1]الراوي : أم سلمة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري. الدرر السنية

فانظر يرحمني ربي وإياك لقول النبي الأمين وهو يشير بكلمة (ألحن) ففيها صفة الفصاحة والتلاعب بالكلام لتغيير الحقوق.
وليس هذا ما أردت الوقوف عليه وإن كان يحتاج لوقفات وما هو الحال للحاكم بين طرفين وأنه ربما لا يبلغ الحق لفصاحة أحدهما وبلاغته ولحنه في الكلام. ودور الحاكم هو إحياء الضمير وتذكير بجنة وبنار وكيف أن حق الآخر يكون نارًا على أخذه بغير حق إلا لفصاحته.

فالأمر جد خطير وهنا وقفة توضح وتبين أنه قد تكون..

الفصاحة مذمومة في بعض المواقف

نعم. فقراءتك عزيزي القارئ لما سبق بينت لك كيف وأن الفصاحة من الصفات الممدوحة المحمودة لصاحبها وفي نهاية الكلام بينت لك أنها ربما تُذم.

وما أردت الكلام عنه ولتتذكر صدر مقالتي في حيرتي لاختيار العنوان. وهذا هو التفسير.

فكثرة الفصاحة وكثرة المعرفة والإطلاع وإقامة الحجج بالرغم من مدح كل ذلك إلا أنه في بعض الأمور وبعض المواقف يكون قلتها أفضل لصاحبها وهنا أبين وأوضح لك كيف ذلك لعلك حبيبي القارئ تتمتع (بالتغافل) في بعض المواقف ولما لا ولو أنك وضعت من نفسك حكمًا بين أحد من الخلق لتمنيت لهما التغافل.

ولما لا وهذه الفصاحة عند الإختلاف في بعض الأمور قد تحوله إلى خلاف، ولما لا وهذه الفصاحة مذمومة في كثير من الاختلافات كاختلاف الرجل مع أبويه إن صح التعبير وما كان ولا ينبغي له في الأصل الإختلاف معهما.

وكاختلاف الأخ مع أخيه ولا أقصد هنا أخوة النسب بل مقصدي أخوة الدين فإن لم يتغافلا فالاختلاف يكون سببا للخلاف. وكاختلاف الزوجة مع زوجها أو الزوج مع زوجته فإن لم يتغافلا فلا يكون من وراء تلك الفصاحة إلا خراب البيوت وأخص بالكلام هذه المسألة لأنها بالنسبة لي هي بيت القصيد.

وقلت كثرة المعرفة والإطلاع والدراية والفصاحة وعدم التغافل كل ذلك سبب خراب.

وقديمًا إذا تكلمت مع رجل وزوجه وقلت لهما قال الله ﷻ وقال رسول الله ﷺ لوجدتهما وقَّافِين مع قول الله وقول رسوله منكسرين الرأس يشعر كل منهما بالأسف لما آلت إليه الأمور. محافظين على بيوتهم راجين رحمة ربهم.

أما الأن فتذكرهم بالآية يأتوا بعشر. تقول لهم الحديث يضعفون ويصححون وكأنهم علماء حديث فتكون تلكم الفصاحة سببًا في خراب البيوت ولو تغافلا لكان خيرا لهما أو على الأقل تغافل أحدهما.

والأسوء من ذلك أن لا يكونا على علم ومعرفة وهم يدعون العلم والمعرفة فمثل هؤلاء لا يجهلون وإنما يصبح جهلهم جهلًا مركبًا فيصعب عليك مهما كنت إصلاح ما بينهما.

ومن هنا من مقالي هذا

أدعو من أراد استمرارًا لحياته واستكمالًا لرسالته وليحيا بين قومه في ثوب جميل لا يكون صغيرًا يحتاج لتوجيه ولا نصح. كبيرًا بين قومه ليس فاضحًا لبيته بل يكون مستورًا سترنا الله وإياكم. عزيزًا بين الناس عليك أن لا تكون فصيحًا على الدوام بل وجب عليك أخي وأختي أن تعلما أن البيوت الكبيرة ما كبرت إلا إذا تغافلت وما نجحت إلا بعدما تنازلت وأن هذه (الحرب) المشتعلة دائما في البيوت لا تنطفئ نارها إلا ببعض من التغافل والتنازل وأن هذه القضية خاصة إذا وصلت للخراب فالكاسب فيها مهما حقق من المكاسب فهو خاسر خسرانًا مبينًا خاصة إذا كان هناك أولادًا. وما كل ذلك إلا بسبب تحقيق الانتصارات والبطولات حتى ولو كان على حساب خراب البيوت.

فقدنا في زمننا هذا من يتحلون حتى بصفة الندم فصاحب الحق والمُحق قديمًا كان كلاهما نادمًا على ما قدمت يداه. أما الآن فبسبب عدم تحمل المسؤولية والخروج أمام المجتمع بالمنتصر البطل الهمام يخسر الإنسان حياته وأكتب هنا للرجل والمرأة على حد سواء

فهذه دعوة لترك الفصاحة في بعض الأحيان والتحلي بالتغافل والنسيان. عسانا نصلح أحوالنا ونرجع إلى ما كان.

لست بأفضل حالًا من غيري، ولكنها كلمات عسى يؤمن بها غيري فتكون سببًا في إصلاح حياته، فيدعو لي دعوة تنصلح بها حياتي وآخرتي.

دمتم في حفظ الله ورعايته وحفظنا الله وإياكم من كل مكروه وسوء.

كتبه
محمد خيري بدر
معلم بالتربية والتعليم بمصر

 

إقرأ أيضاً:  توزيع الرحمات على أهواء البهوات


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 الراوي : أم سلمة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري. الدرر السنية
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

حيوانات استغلت في التجسس

الثلاثاء يوليو 13 , 2021
تمت قراءته: 2٬753 من منا لا يتذكر العميل رقم (007) أو “جيمس بوند” (James Bond) وأفلامه البوليسية المثيرة والشائقة؟ تلكم “الشخصية الخيالية” لجاسوس بريطاني أبدعها المؤلف “إيان فلمنغ” Ian Fleming عام 1953 عبر روايته “كازينو رويال”. وهي تجسد “البطل الخارق، والجريء، والمغامر، والرياضي، وخفيف الظل، والجذاب، والأنيق، والذكي، والمُتقد الذاكرة، […]
حيوانات استغلت في التجسس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة