القنبلة النّيوتفاهيّة

ليست البشريّة أمام خطر واثق من نفسه، يتربّص بها، عظيم الشّر أشدّ وأبجح ما يكون من التّفاهة، بسبب تكلفته الزّهيدة، ومخاطره العالية، وقدرته التّدميريّة الشّديدة. يذكر كارلوس زافون في مقولة جميلة له: (القنبلة النّيوتفاهيّة)

“لن يفنى العالم بسبب قنبلة نوويّة كما تقول الصّحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التّفاهة، الّتي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة”.
القنبلة النّيوتفاهيّة
Storenvy

لكي ينتهي النسل البشري ليس من الضّرورة أن يكون ذلك عن طريق قنابل وصواريخ نوويّة أو أيّ من تلك السّيناريوهات الدّمويّة، وليس الأمر متوقّف على قنبلة كهرومغناطيسية ستعيد الإنسان إلى ماقبل التّاريخ، ولا بأيّ حرب عالميّة جديدة.

إنّ أخطر قنبلة تهدّد البشريّة ككلّ هي قنبلة نيوتفاهية، تمغنط العقول نحوها وترسل اشعاعاتها في العقول والأنفس وتسيّرها بطريقة لا إنسانيّة، وتحوّل الواقع لمسرحية هزليّة بالغة الحمق والسّخف، فيصيّر الإنسان بفعلها آلة تسيّرها الأطماع والشّهوات.
القنبلة المدمّرة هي أن يكدّ العامل ويتعب تتشقّق أيديه ويتضرّج الدّم من جسده ويعود لبيته وليس في جيبه سوى رغيف خبز ولعاعة من الطّعام، بينما يعود شخص آخر كلّ مايقوم به هو هزّ كرشه أو جذعه محمّلا بأموال قارون، وتسارع القنوات والصّحف والمجلّات لتكريمه.

التّدمير الحقّ هو عندما ينظر إلى المدرّس والأكاديمي نظرة احتقار واستهزاء، بينما ينظر إلى أصحاب الكروش والأجراس نظرة تعلوها الوقار والإحترام.

القنبلة النّيوتفاهيّة المدمّرة هي: أن ينظر لمن يحملون معاول الهدم والخراب بنظرة تحرّريّة، افتخاريّة، بينما ينظر إلى أصحاب
الفكر والإصلاح كمهرطقين ومكثري الهذي، و”ثقيلوا دم”.

القنبلة النّيوتفاهيّة المدمّرة هي: أن تصيّر المراجع والمثل العليا الحقيقيّة شيئا يدعو للتّحسر على الحال أو الضّحك أو طريقة للضّحك على أصحابها وسذاجتهم؛ فذاك يعدّ ضربا من الخيال والهرطقات والطّوباويّة العقيمة!

إقرأ أيضاً:  حقيقة التعمق بين الجائز والمحرم

مساحة إعلانية


القنبلة المدمّرة: هي أن تصير الحقائق منفّرات، والأكاذيب مستجلبات، والقيم قطع تراثية للاستعراض والمباهاة.

القنبلة المدمّرة هي: الّتي تصيّر نظرة المجتمع إلى الرّجل على أنّه ماكينة مال، والمرأة على أنّها ماكينة تنظيف ودمية جنسيّة.

القنبلة المدمّرة هي: أن تتزعزع الثّقة بالماضي والنّفس، ويضعف الخيط الّذي يربط الجميع ببعضهم، وتتحوّل الأنظار والعقول في دهاليز وبؤر متبدّدة، تعمل على اضمحلال الكيان وذوبانه، ووصوله إلى حالة من الإفلاس القيمي والمعرفي واليأس من الإصلاح والتّغيير النّافع.

القنبلة المدمّرة هي: أن يصوّب الفكر لمعالجة قضيّة س وش. وأن تلقاهم في أولى “التّرندات” في لحظة دخولك إلى “عالم السّوشل ميديا”:

عاجل: اسباب انفصال الفنّانة (ي) عن زوجها (أ).
خطير: شاهد العراك الّذي دار بين الفنّانة ومذيع برنامج.
شاهد لأوّل مرّة: الممثّل (س) يقوم بالرّد على (ج) ويوضّح أسباب اعتدائه الأخير عليه.
انضم للمشاهدة، وشارك في تحدّي كسر البيض على “تك توك”!

القنبلة المدمّرة والطّامة الكبرى أن تنعدم الرّؤية، ويصير الحكم مبنيٌّ على مسبقات الأحكام وكفّ البصر عن الجديد وعوامله والحاضر.

القنبلة الكبرى والطّامة أن يصبح مفهوم الثّورة هو نفسه مفهوم التّمرد والغطرسة وأنشودة الطّغاة الّذين يتغنّون بها! وأن يصبح مفهوم الحرّيّة هو هو نفسه الكهنوت النّفسي الحيواني أو السّياسي البروباغندي، ولكن بشكل ناعم سرعان ما ينفذ إلى العقول.

عندما ينعدم كلّ ذلك ويصبح الأبيض أسودا والأسود أبيضا، واللّيل نهارا والنّهار ليلا، والخير شرّا والشّر خيرا، والرجاء والأمل يأس، واليأس أمل ورجاء، فاعلم أنّ هناك قنبلة قد قصفت العقول، ودمّرتها، وكانت الضّربة الأولى الّتي يعقبها سلسلة ضربات وانهيارات متتالية، وهدم ذاتي متعاقب.

عبد الرحمن محمد الحداد

 

إقرأ أيضاً:  سلطان المال


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

"شياطين" السينما العربية

الأحد أكتوبر 23 , 2022
تمت قراءته: 1٬262 المتابع لصناعة السينما العربية.. تستوقفه أفلام كثيرة حملت في عناوينها كلمات (الشياطين/ الشيطان/ الشيطانة الخ). وكمصدر “للغواية والإغواء، والعبث والإجرام، والبطش والدهاء”، وللوقاية من “حبائله”.. تم “تجسيده” في صورة بشرية، أو مُتخيلة. فضلاً عن أفلام عديدة ـ لا تتسع لها سطور المقال ـ عالجت (تأثيراته.. الباطنة، والظاهرة) […]
شياطين السينما العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة