بائع العرقسوس

مهنته عريقة منتشرة في أغلب دولنا العربية. تجده في الميادين، والشوارع، والحارات، متجولًا علي قدميه أو يكري على عربة صغيرة أو قارًا في دكانه. له طقوسه الخاصة. هيئةَ، وحركة، ونداءً، وبضاعة. (بائع العرقسوس)

بائع العرقسوس
Pinterest

يحب حرفته، فيمشي – واثق الخطوة – تسبقه نغمات ورنات طبقين نحاسيين لامعين (صاجات/ برناقة) يُصدر بها إيقاعًا مميزًا. ومرددًا عبارات: “شفا وخمير يا عرقسوس، ساقع جميل يا عرقسوس، إشرب واتهنى يا عطشان، إروي عطشك يا حران”. لباسه “فلكلوري” أنيق، وقد يبالغ في “بهرجته” حسب المكان والزمان. سرواله (الأسود) مميز بسعته أعلاه، وضيقه عند قدميه. وسترته/ مريلته مزينة ومزركشة. يضع طربوشأً فوق رأسه ليقيها أشعة الشمس، ويبدو معتنيًا بغطاء الرأس. ويحمل على صدره إبريقًا زجاجيًا / نحاسيًا يربطه بحزام قوي.

ويحافظ الإبريق الزجاجي على برودة المشروب، ولا يمنع الأمر من وضع قطع ثلجية على فوهته. أما النحاسي فقد يكون مزدوجًا يحتوي العرقسوس والخروب أو التمر الهندي. وحول خصره حزام فيه أكواب معلقة، وما يشبه الأدراج، يستعين بها في وضع قروشه القليلة، وأداته النحاسية عند عدم استعمالها. بينما يمسك بيده اليسرى إبريق ماء صغير يغسل منه الكؤوس التي استبدلت – حديثًا – بأكواب بلاستيكية.

دائم البسمة لزبائنه. مداعبًا إياهم. ينتظرونه – بفارغ الصبر – في حر الصيف وبعد يوم عمل شاق. كي يروي ظمئهم، و”يقهر” عطشهم، كـ “واحة صيف ظليلة”. كما يستطلع قدومه القاصي والداني في شهر رمضان. وقبيل الإفطار، وبعده حتى السحور. ويذهب إليه كثيرون – صغارًا وكبارًا – في دكانه. ليبتاعوا منه المشروب الأساس من مشروبات الشهر الفضيل. كما يتواجد في الخيم الرمضانية بالمطاعم والمقاهي العامرة بجلسات السمر الرمضانية. وتراه بسرعة يغسل أكوابه. وبمهارة وحركات رشيقة – رغم ثقل إبريقه – يعيد ملئها مُباعدًا بينها وبين إبريقه، فيملأها صانعًا “رغوة ذهبية” مُحببة. فيشعر الشارب بالسرور وهو يتناول كأسًا صبت بتلكم الطريقة البارعة.

إقرأ أيضاً:  فنون السعفيات

مساحة إعلانية


“بائع العرقسوس”. في التشكيل الفني

بائع العرقسوس 2
Pinterest

بين حين وآخر يقلب المرء دفاتره، ومحاولاته الأولية في رسم الشخصيات العامة والخاصة وذوي المهن والحرف ذات التواجد في المأثور الفني الشعبي، فيجد منهم “بائع العرقسوس”. فخصوصيته تجبر الكثيرين على إمساك القلم، والفرشاة، والحجر ليشكل ملامح بصرية، وحركية فنية، وكتلة تشكيلية لتلك الشخصية المفعمة بالحياة. ولقد اقتحمت “حالة بائع العرقسوس” وطقوسه ذاكرة الفنانين التشكيليين في مصر. فاستضافه كثير منهم في لوحاتهم، ومن هؤلاء الفنانين: “محمود سعيد”، و”سيف وانلي”، و”عصمت داوستاشي”.

وتعتبر لوحة “بائع العرقسوس” من أشهر لوحات الفنان التشكيلي المصري “محمود سعيد“(1897 – 1964). فنان رائد في تجسيد جسدوا مظاهر الحياة اليومية. وقد نجح “سعيد” إلى أبعد الحدود فى التعبير عن هذه الشخصية فى لوحته حتى إننا نكاد نشعر بأنه يتحرك كانه منحوتًا وليس مرسومًا على لوحة ثانية البعد. ونكاد نسمع صوته وهو ينادي “يا عرقسوس، شفا وخمير”، ونكاد نسمع أصوات الناس حوله فى السوق، بل نكاد نطلب منه أن يبيع لنا ونبتاع منه. تفاصيل دقيقة ألهمت فناني عصره ومن جاء بعدهم من فنانين لينتجوا من أعمال وتماثيل لبائع العرقسوس تستلهم شخصياتها من لوحته، وليس من الباعة أنفسهم. و”بائع العرقسوس” شخصية جذابة، أيضًا، لكثير من الفنانين المستشرقين الذين زاروا بلداننا العربية. لذا توجد لوحات تشكيلية تحمل اسم “بائع العرقسوس”.

إقرأ أيضاً:  التنجيد. طقوس بهجة وسرور

حرفة عريقة، ومشروب مطلوب

منذ القدم. عرف الناس “العرقسوس” كعشبة شجرية معمرة، تتميز بأزهار زرقاء ناعمة. وتنبت في كثير من بقاع العالم وبخاصة بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. ومنها يُصنع مشروب مُحبب ومميز الطعم، وله خصائص وفوائد الصحية. عرفه قدماء المصريين، وغيرهم، كمقو لمناعة وصحة الجسم. فكانوا يعدون العصير من جذوره (يطلق عليها “عرقسوس أو أصل السوس”). كما كانوا يطحنونها ويضيفونها إلى الأدوية المركبة لإخفاء مرارتها. ووجدت بذوره وجذوره في مقبرة الملك الشاب “توت عنخ آمون” المُكتشف عام 1922. لذا فالعرقسوس في مصر. موروث شعبي عريق.

ويُنقع العرقسوس فى الماء (ليلة كاملة) ثم يوضع المُستخلص في قطعة قماش نظيفة (شاش) لتصفيته من الشوائب. ثم تأتي عمليات التحلية، والتعبئة فى الإبريق الزجاجي أو النحاسي. وهذا المنقوع أكثر نفعًا، وحفظًا لفوائده المطلوبة. أما اليوم فأصبح تحضيره أكثر سهولة، ولا يستلزم نقعًا. ولذك لطحنه بالآلات ليصبح على هيئة مسحوق ناعم سهل التحضير. ويضاف إلى المشروبات الغازية، وبعض أنواع الحلوى.

يفيد المنقوع كفاتح للشهية ومهضم، وملين. ويهدئ من حالات القيء والتهيج المعدي والمعوي، وقرحة المعدة والاثني عشر، وأوجاع الصدر والسعال وطار للبلغم. ومُفيد لصحة الكبد والمثانة والكلى. وذلك لاحتوائه على مركبات هامة وعناصر معدنية مفيدة مثل الحديد، والماغنسيوم، والمنجنيز، والسيلينيوم، والزنك، والفسفور، والبوتاسيوم، والكالسيوم، وفيتامينات (ب، ج). كما يحتوى على سكر الجلوكوز وزيت طيار وصبغات صفراء ومركبات الستيرولات، والكومارنيات، والإسبرجين، وإيزوفلافونات (كورتيزون خال من الآثار الجانبية عند التداوي به لمدة طويلة).

وخلاصة القول: هناك مهن نحبها، وأخرى تحبنا. وحرف نعملها، وأخرى تعمل فينا فعلها، متوحدة معنا، نصادفها في كل مكان. ويبدو صاحبها شاهدًا على الأحداث، وعلم على الزمان. مهن تغوي بالكتابة عنها، وتذكر دومًا بها. ومنها “بائع العرقسوس”.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

 

إقرأ أيضاً:  مكوجي الرجل: راقص باليه


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

فهمٌ من نوعٍ آخر: الفن الإنساني

الأربعاء سبتمبر 15 , 2021
تمت قراءته: 2٬276 فهمٌ من نوعٍ آخر: الفن الإنساني لم يتم إدراجه ضمن أنواع الفنون. لم يُذكر في التلفاز والإذاعات. لم تدوّنه الصحف ولا الجرائد. يقولُ إنسانْ ما: “أنا أرسمُ، أنا أغني، أنا أكتبُ، أنا أخطّطُ، أنا أنقشُ. أنا فنانٌّ”. أقولُ: “وأنا إنسانٌ ما أيضًا، أنا أفهمُ. أنا فنّانٌ”. تركيبةٌ […]
الفن الإنساني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة