بين الموروث والحداثة في رواية ضريح أبي

يتميز العالم في رواية “ضريح أبي” [1]رواية ضريح أبى، الكاتب طارق إمام، دار العين للنشر، مصر، الطبعة الأولى، 2013 بالتجريب والغرابة حيث يضرب طارق إمام بكل ما هو تقليدي عرض الحائط، لننطلق داخل عالم ما بين اليقظة والحلم أو على الأرجح ما بين الحياة والموت. يخلق الكاتب شخصيات غير مألوفة سواء كانت مسوخًا أو ورقًا أو مشوهة تنعكس بدورها على الحبكة الرئيسية التى يدور حولها العمل ألا وهو الصراع بين الابن الذي يبحث عن الحقيقة، والأب الذي يرقد منذ مئات السنين داخل ضريح يقصده الناس بهدف التبرك أو تلبية الأمانى بالإضافة إلى الصراع بين الموروث والحداثة. يجد البطل نفسه ملزمًا بالكتابة في مخطوط عن حياة الأب كما ترويها له “نعمة”، التي وهبت نفسها في خدمة الوالى، حيث تشبه إلى حد كبير الأساطير. تكمن المفارقة في ما يكتبه البطل عن نفسه، فنجد أن صفحات المخطوط تنمحى وكأنه لا يمتلك فرصة للكتابة عن ذاته وأحلامه. علاوة على أن اللعنة التي تصاحبه منذ الصغر، والتي تتمثل في خطه، حيث تخبره العرافة منذ أن كان طفلًا بأن خطه الجميل سيكون لعنته الأبدية.

رواية ضريح أبي

ملامح هذا العالم – رواية ضريح أبي

من خلال عنوان الرواية “ضريح أبي”، يتوقع القارئ ملامح هذا العالم الذي ترسمه شخصياته حيث نجد حارس الضريح، وقاطع الطريق التائب، ومقرئة القرآن، والمجاذيب، والهائمين من كل مكان آملين في تحقيق رغباتهم. علاوة على التأثر الواضح بالموروث الشعبي داخل هذا العالم، والذي يتمثل في الوالى وضريحه، والعتبات، وصندوق النذور بالإضافة إلى الذهاب إلى الضريح من أجل التبرك بسبب صفة التقديس والتبجيل التي يتمتع بها الوالى.

كما يتم إلقاء الضوء على أهمية هذه المعتقدات داخل البشر حيث يمنح الناس الوالى بعض صفات الأنبياء، فهو صاحب معجزات. وعلى الرغم من أن الأوهام والأساطير واللامعقول تحيط بحكايات الوالى عبر السنين، والتي ترسخت في أذهان الناس على أنها مقدسة لا يتم المساس أو التشكيك بها، إلا أن الابن قد حاول أن يضيف كلمته الخاصة في إشارة إلى الصراع الأزلي بين الموروث الأسطوري والفكر والعلم. بالإضافة إلى امتلاك الأم إلى كتبها وتماثيلها الخاصة، وكأنها تتطلع إلى المعرفة حيث قامت الجدة بدفن هذا الإرث للحفاظ على هذه المعرفة حتى تتوارثها الأجيال القادمة متمثلة في الابن.

إقرأ أيضاً:  قراءة في كتاب: ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الاجتماعي

مساحة إعلانية


الخلود – رواية ضريح أبي

من ناحية أخرى، تهيمن فكرة الخلود على الشخصيات داخل هذا العالم حيث نجد أن الوالى يتنقل عبر الأمكنة المختلفة خلال فترات زمنية عديدة. كما تعيش الشخصيات لمئات السنين وقد تصل للألف ثم يموتون، ولكن الموت هنا ليس بمعناه المتعارف عليه. فالموتى في هذا العالم شخصيات مؤثرة، لهم أجساد حاضرة لا تُبلى وأعين مفتوحة، متمثلة في الوالى صاحب السطوة والهيمنة الروحية على الناس. كما يشير السارد هنا إلى أن المدينة مليئة بالعجائز المعمرين، ولكنهم يموتون دون مجد.كما أنهم لا يتمتعون بذاكرة طبيعية حيث لا يعرفون عن العالم سوى ذكراهم تجاهه، وبالتالي فليس هناك تاريخ لديهم. ويدلل على ذلك بأن التاريخ المتاح للمدينة في سجلات الرسمية للحكومة لا تمت للواقع بصلة.

من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف من الفناء، لذلك نجد فى الحضارات القديمة أن البحث عن الخلود كان يمثل أهمية كبيرة. وكنتيجة لهذا نجد النقش على المعابد والتماثيل المختلفة التى تعكس الحياة في تلك العصور. بينما تلعب الكلمة هنا دورًا هامًا في ترسيخ فكرة الخلود حيث يتم إلزام الابن بكتابة حياة الأب فى المخطوط حتى لا يُفنى. ولكن تأتي شخصية “سبيل” العاهرة لتلقى بظلالها على فكرة الشيخوخة، والتي تتصادم مع الخلود.يصفها السارد بأن شعرها يشيخ أولًا، فمع كل رجل يستأجر منها لحظة متعة، تتحول كل شعرة سوداء إلى الأبيض إلى أن غزى الشيب شعرها ما عدا واحدة. وقد أدركت أنه مع تحول آخر شعرة سوداء إلى الأبيض، فإنها سوف تموت.

الوسيط

يتم إلقاء الضوء على فكرة الوساطة بين العبد والوالي صاحب القداسة من خلال نظرة الناس إلى الابن. تتشبث الأيادي فور وصوله إلى الضريح حيث تصرخ النساء ويتمسحن في ملابسه ويمسكن بساقيه. فهو ابن الوالى، وبذلك يعتبر واسطة مثالية. كما أن زائريه من النساء والأرامل والتائهين وفتيات مثقلات بالخطايا، ورجالًا تتساقط أعضائهم بلا سبب، وأطفالًا مجذومين. يصفهم السارد بأنهم فور أن يلمحوه، يبدأون في تضييق الخناق حوله على أمل التوسط لهم للتخلص من الألم بشكل نهائي.

يلجأ هؤلاء إلى تقديم رسائلهم إلى الوالى على أمل الرد عليهم بينما يقوم الابن بهذه المهمة. الجميع دون استثناء يرسل الخطابات إلى الوالى صاحب القداسة، وكأنه يتمتع بصفة الإله في إيجاد الحلول وتيسير الصعاب.

إقرأ أيضاً:  الأدب العربي بين المحلية، والعالمية، و"العولمة"

مساحة إعلانية


الشخصيات الغريبة والمشوهة داخل النص

تتنوع الشخصيات في هذا العالم ما بين الغرائيبي والمشوهة حيث يصف السارد الكلاب بأنها مسوخ ذئبية نحيفة بلا آذان أو ذيول كما أن خطومها طويلة وجميعها من الذيول. كما يتعجب السارد من قدرة هذه الكائنات وحيدة الجنس على التناسل. ومن الملفت إنه لا يجرؤ أحد على الإعتراض عليها خوفًا من اللعنة حيث تُطلق صفة التقديس على هذه الكلاب، فهى تلاحق كل من هو نجس وغير متوضأ.

يشير السارد إلى شخصية “إسحق” بائع الوجوه الذي يصفه بأنه عجوز ممسوخ بحاجبين كثيفين مقلوبين تحت عينيه وله أنف بدون ثقوب. يقنع إسحق أهل القرية بتبديل الوجوه القبيحة بأفضل منها، ولكن ما يلبث أن تُمحى الملامح المزيفة ليصبح الناس بدون ملامح. تعكس هذه الصورة التي تتسم بالسريالية التحولات التي يشهدها المجتمع من تحولات زائفة تؤدى إلى القبح والخراب والضياع والشعور بالهزيمة وانعدام الهوية.

نجد الرأس المقطوعة التي تبحث عن جسدها الضائع لفترة طويلة، ويركلها الناس بدون رحمة. تخدع الرأس المقطوعة إسحق بائع الوجوه للحصول على جسده، وتغريه بالفرصة السانحة أمامه. ينخدع إسحق ويسلمها جسده في إشارة إلى أن هذا الإتحاد الذي يتصف بالغرابة له قدرة كبيرة على التغير وخلق المعجزات. فبهذا الإتحاد، تحول هذا الكيان إلى قائدة جيش الورق اللاتى كلهن من النساء حيث وقفن باستماتة أمام العدو بينما تخاذل الرجال.

من ناحية أخرى، تمثل سيدة الكحل القوة والشجاعة، يصفها السارد بأنها تمتلك عين واحدة في منتصف وجهها تسبح فيها ثلاث حدقات. لذلك يطلق عليها البعض المرأة ذات العين الواحدة، ويسميها الآخرون بالمرأة ذات العيون الثلاثة كما أن جسدها ضئيل ومتيبس مثل فرع شجرة عتيقة. وعلى الرغم من مساعدتها لنساء القرية حيث لم تبخل على إحداهن بالنصائح أو الأدوية والأطعمة غريبة اللون والطعم إلا أنها رفضت أن تعير أى إمرأة الكحل الذى تضعه في عينيها. يمتن لها أهل القرية بالدفاع عنهم وصد هجوم الغرباء واللصوص حيث كانت تملأ كفيها بحفنات من الكحل وتقذفها بهم، فيصابوا بالعمى. ولكن هذا لم يشفع لها عند العاقرات اللاتى يشعرن بالغيرة تجاهها، لذا قررن الذهاب إلى جبل الكحل ليغترفن منه بكميات كبيرة لتنقلب الأمور رأسًا على عقب واختفت سيدة الكحل من ذلك اليوم. يعكس هذا الجشع والطمع داخل النفس البشرية التي لا تتواني على الإقدام بأى فعل من أجل إشباع الحاجة لديها دون الإلتفات إلى العواقب المخيمة التي حتمًا سوف تصيبها.

سارة أبو ريا

(رواية ضريح أبي)

إقرأ أيضاً:  الفرانكوفونيون العرب: أدبهم عربي أم غربي؟


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 رواية ضريح أبى، الكاتب طارق إمام، دار العين للنشر، مصر، الطبعة الأولى، 2013
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

الميتا شعرية في ديوان حتى مطلع الشعر للشاعرة سارة الزين

الجمعة أغسطس 4 , 2023
تمت قراءته: 751 تشهد المرويات الشعرية عبر تاريخ الشعر العربي بأن الشاعر لم يستعمل شعره في صورة الناقل الذي يحمله تجربته فحسب، بل إن الشعر استقل بمكانته كأحد القضايا المطروحة عبر القصائد؛ فخرًا عبر تغني الشاعر بما يملكه من قدرة على جودة السبك وحسن المنطق وجدة الفكر، وتهكُّمًا عبر بيان […]
ديوان حتى مطلع الشعر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة