“دافنشي”: باحثًا علميًا

أذهل العالم بفنه العبقري، وبلوحاته الخالدة وبخاصة “العشاء الأخير” (أو العشاء السري رُسمت عام 1497)، و”الجيوكندا” (أو الموناليزا، بابتسامتها وشخصيتها الغامضة، أبدعها عام 1503)، و”عذراء الصخور” (نسخة متحف لندن، رسمت عام 1508)، وغيرها كثير. وما زال يدهشه ببحوثه العلمية، وتصميماته الإبتكارية، ومكتشافاته العبقرية. جامعًا بين فنه المُميز، وكونه باحثًا رائدًا في الهندسة، والعمارة، والتشريح، والبصريات، والميكانيكا، والفلك، والطيران، والطبيعة، والنبات، والحيوان. واعترافًا بمواهبه “الموسوعية”، و”تكامله الإبداعي” مازال يُستثمر اسمه علي معاهد، وروايات، وأفلام، وتقنيات. (“دافنشي”: باحثًا علميًا)

دافنشي
سورية الحدث

ولد “ليوناردو دي سير بيرو دا فينشي” (Leonardo da Vinci) ‏(1452- 1519) في بلدة “فينشي” قرب فلورنسا بإيطاليا. وانتقل (عام 1469) لتحصيل العلم والمعرفة في فلورنسا (المركز الرئيس للعلوم والفنون والصناعات). فدرس الأدب، والفلسفة، والرياضيات، والموسيقى، والتصوير، واللغة اللاتينية. ولاحظ والده سرعة تعلمه فأدخله محترف الفنان “فيروكيو”. فتعرف على “ساندرو بوتشيللي”، و”بيرو دجينو”، وعلي فنانين آخرين مرموقين. لكن “دافنشي” عاش حياة عائلية غير مستقرة، وعايش ظروفاَ عامة مضطربة. فتنقل ما بين فلورنسا، وروما، وميلانو، والبندقية، ولومبارديا. وعَمـِل لحساب العديد من الأسر الحاكمة في هذه المدن. مما ساهم في توزع أبحاثه وإرثه الفني بين العديد من المدن الإيطالية، ومختلف متاحف العالم. تاركًا كمًا ضخمًا من الرسوم والتخطيطات والجداريات والنصب المنحوتة واللوحات التاريخية والدينية غير المنتهية.

متعدد المواهب

“رجل استيقظ مبكرًا جدًا حين كان الجميع يغطون في نوم عميق” هكذا وصفه أحد المؤرخين. كان “دافنشي” عبقريًا موسوعيًا، وعـَلمًا بارزًا من أعلام عصر النهضة الأوربية. ويري أن “الفنان الجيد يجب أن يكون ملمًا بكل شيء”. لذا كان رسامًا، وموسيقيًا، ومهندسًا، وجيولوجيًا، ونحاتًا، ومعماريًا، وعالم نبات وحيوان الخ. رجل ذو “فضول جامح”وصاحب”خيال إبداعي محموم”، ويخطط كل شيء، وفي كل الأوقات والأماكن، حتى أصبح التخطيط لديه ضرورة كالأكل والشرب. وقد اكتسب ـ بجانب شغفه وملاحظاته وتجاربه ـ الأسس لبلورة منهجه في تآلف الفن والعلم وتهيئة العلم بالوسائل التقنية والتجريبية المتطورة. وكان “دافنشي” يترك ـ بقصدـ ثغرات أو يتعمد وضع أجزاء خاطئة “تصميميًا” في العديد من مخطوطاته، وابتكاراته، بل ولوحاته لحرصه على سريتها وعدم فهم “شفرتها”. فنان “غريب الأطوار” ينبش العديد من الجثث ليدرس البنية التشريحية عند الإنسان والحيوان. ويحتفظ بمذكرات يكتبها بطريقة غامضة يعاكس فيها اتجاه الكتابة، فتحتاج لعرضها علي مرآة لتتبين سطورها.

إقرأ أيضاً:  ضمير للبيع!!!

مساحة إعلانية


أعمالـــه

ترك “دافنشي” ما يقارب أربعة آلاف رسمًا، وبحثًا، ومُخططًا في الميكانيكا والإستاتيكا ومركز الثقل، والديناميكا وطبيعة الحركة وقوانينها، وتحليل القوي وجمعها، والجيولوجيا، وقوة الجاذبية والتسارع الناشيء عنها، وتأثير القمر على المد والجزر، وطيران الطيور، وماكينات الطيران، والطيران الإنحداري، واللوب الهوائي (الهليكوبتر)، ومظلة الهواء (الباراشوت) ومقاومة الهواء والأعمدة والأعتاب، والإحتكاك وتصادم الأشياء، وعلم الحيوان، ودرس الدورة الدموية، وردة فعل العين، وحاول معرفة طبيعة المستحثات، والحفريات. وكان يؤمن ببراعته في الخيمياء فيحول الرصاص إلى ذهب، وبستطيع صنع “إكسير الحياة”.

كما اهتم بميكانيكا الموائع، وأبدع أول نظرية تقليدية عن نقل المياه في النباتات عندما قال إن “القطاع العرضي للجذع لابد أن يساوي مجموع القطاعات العرضية للأفرع”. لذا فهو يعد من أوائل علماء الحركة والماء ومخططاته حول شبكة نقل المياه من الأنهار تعد عملية وذات قيمة تطبيقية. كما اخترع العديد من الآلات منها العملي وغير العملي، مثل بزة الغوص تحت الماء.

لكن متحف التاريخ والعلوم في فلورنسا بإيطاليا، قد أعلن أن الفنان “دافنشي” هو مصمم/ مخترع أول “مركبة” ذاتية الدفع في العالم، وذلك بناء على رسومات وجدت في مفكراته. وقد صمّم “هذه السيارة” لتسير بالزنبرك، لكنها تبدو أقرب إلى العربة المقفلة التي يجرها حصان. وساعد الرياضي المشهور الإيطالي “لوكا باتشولي” في عمله المشهور “ديفينا بروبورتيوني”Divina Proportione (1509)

ولما ألتحق بخدمة “لودوفيكو سفورزا” دوق ميلانو (عام 1482) صرح له عبر رسالة بأنه قادر على صنع تماثيل من المرمر والطين والبرونز، وبناء جسور متنقلة. وعلي معرفة بتقنية صنع قاذفات القنابل، “المنجنيق”، والمدافع، والسفن والعربات المدرعة، وأدوات حربية أخرى. ووضع نوع جديد من البارود، ويتألف من خليط من الكبريت والفحم والملح الصخري، درس الآلات والأدوات التي تستخدم في الحرب البحرية. وتحتوي مذكراته على العديد من الإختراعات الحربية: كالسهام، ومدافع ضد السفن؛ والقذائف، ورسم للغواصات. وخلال السنوات التي قضاها في الفاتيكان، تصور توظيف المرايا المقعرة لتسخين المياه. وخلال اقامته في ميلانو كرس نفسه للدراسات المائية والسفن الموجودة “لومباردي”. وقال أنه تعاون مع “البندقية” لإزدهار منطقة نهر برينتا Brenta، لمنع الفيضانات وجعله قابل للملاحة.

إقرأ أيضاً:  هل نستطيع تغيير الواقع لما نريد؟ تأملات فلسفية في الكهرومغناطيسية

مساحة إعلانية


وكمعماري قام بتخطيط شوارع “ميلانو” ومؤسساتها، وأبنيتها، وحدائقها، ومصارفها. وخلال إقامته الطويلة فيها قام بإنشاء تصاميم معمارية لمسارح وأبنية ونماذج لقبة كاتدرائية “ميلانو”. ولما التحق عام 1502 بخدمة “تشيزري بورجا” دوق منطقة “رومانيا” ابن البابا إسكندر السادس وكانت وظيفته رئيس المعماريين والمهندسين التابعين للدوق. فأشرف على عمل خاص بالحصن التابع للمنطقة البابوية في مركز إيطاليا. كما خدم كمهندس في حرب ضد “بيزا” وفي نهاية العام بدأ ليوناردو بتصميم زخرفة لقاعة (فيتشيو) الضخمة حيث كان موضوع الزخرفة هو معركة “أنغياري نصر فلورنسا ضد بيزا”. وأنجز الرسم التمهيدي بالحجم الطبيعي على القاعة عام 1505.

ومارس التشريح، وفي رسومه تظهر أدوات مستخدمة من قبل الجراحين ومناشير وكامشات. وقد بحث في التشريح خلال ثلاث فترات: في ميلانو، بين 1480- 1490، واهتم بالعضلات والعظام، لاهميتها في نشاطه الفني. وفي فلورنسا (1502-1507) بحث ميكانيكا جسم الإنسان. وفي ميلانو وروما (1508-1513)، أصبح مهتمًا بدراسة الأعضاء الداخلية، والدورة الدموية في “نظرة من الداخل” للجسم البشري. ومن بين رسومه التشريحية “المُدهشة” تلك التي تظهر الجنين قبل الولادة. كانت صورًا جديدة تمامًا وقتها. كما درس آليات العين لفهم كيفية الرؤية. فقام بتشريح عين ثور لمعرفة ما بداخلها، فاكتشف شبكية العين والعصب البصري. وتم رصد هذه الملاحظات، بجانب مخططه لإخترع وسيلة للتصوير.

كما اهتم “ليوناردو” بالحصان اهتمامًا كبيرًا ومميزًا. فكتب العديد من الشروحات والتعليقات حول تشريحه كجهاز عضوي حي، يحوى ما وراء جلده عوالم متعددة. وقد رسم عشرات التخطيطات والمناظير للشكل الخارجي له. كما رصد حركات جسمه بإيقاعات الخطوط المتكررة الدقيقة، لتمثل القراءة الاولى للعين البشرية، بمخيلتها وصلابتها وتوازنها وتناسبها، محكومة بمهارات مقتدرة سعى الفنان لتقديم فكرته عن كيفية توازن هذا الحيوان. كما اهتم بالنسيج الداخلي للعضلات ذات الخطوط المستقيمة والمنحنية والمركبة. وذلك بصناعة فنية تحلل تركيب كتلة الجسم لفهم تبلور الفراغات والامتلاءات المسطحة والمعقدة الاجزاء والمغلقة داخل الجسم، حيث يمثل الجلد بالنسبة له الحاجز ما بينها وبين الرؤية الانسانية.

وكان يحلم بإنجاز تمثال ضخم للحصان ينصب بالساحة الكبري وسط مدينة ميلانو، على ضوء طلب من دوقها “لودفيكو سفورتسا”. وقد عمل فيه لنحو 15 عاما، إلا أنه لم يتمكن من إنهائه لإنشغاله في تحصينات المدينة ضد أعدائها. وإختراعاته المستمرة للآلات الحربية الجديدة كالمدافع وقنابل البارود، وترحاله المستمر إلى فلورنسا لتنفيذ خدمات علمية وفنية لعائلة (آل مديشى) الحاكمة التي ترعي الفنون. وحاول تغطية التمثال بالبرونز، ولم يستطع إتمام ذلك بسبب حصار القوات الفرنسية للمدينة. وبعد غزوهم المدينة قاموا الغزاة (عام 1499) بتدمير التمثال الطيني الفخم لعدم تعاون “دافنشي” معهم. وفي السنوات الأولى من القرن السادس عشر كرس “دافنشي” اهتمامه لدراسة الطيران وتشريح الطيور ومقاومة الهواء وسقوط الأوزان وتصميم آلة طيران، ومظلة للهبوط (بارشوت). وشرح ذاك في مقال عن الطيران مقسم لأربعة فصول. وتعتبر مدونة الطيران نتاج فكر مُبتكر له.

إقرأ أيضاً:  فنانون منسيون

مساحة إعلانية


“شيفرة دافنشي”

توجد معاهد فنية كثيرة في العديد من دول العالم تحمل اسم “دافنشي” لكنه عاد حضور “ليوناردو دافينشي” بقوة عام (2003) عبر رواية “شيفرة دافينشي” لدان براون، الذي شغل الناس والإعلام بها. حققت الرواية مبيعات وصلت إلى 60.5 مليون نسخة (حتى مارس 2006) وصنفت على رأس قائمة الروايات الأكثر مبيعًا في قائمة صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية. تم ترجمة الرواية إلى 50 لغة حتى الآن. وتحولت إلى فيلم سينمائي عام (2006) بطولة “توم هانكس“، و”أودري تاتو”وإخراج”رون هاورد”. وهاهو “دافنشي”. جراح المستقبل. اليوم. يستطيع الروبوت “دافنشي” DaVinci®Si ذو الأذرع الثلاث ترجمة حركات يدي الجراح بشكل غير مسبوق. وينهمك في إصلاح خلل صمامات القلب ـ كما انهمك سابقًاـ “ليوناردو دافنشي” في البحث والدرس والتطبيق حتي وفاته عام 1519 عن عمر يناهز 67 عامًا. ومع ذلك لم يستطع تحقيق كل خططه وأفكاره التي شغلت عقله وقتا طويلًا. ويبقي ” دافنشي” أنموذجًا رائدًا ينبغي الإقتداء به.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

 

إقرأ أيضاً:  "حسين فوزي".. السندباد العصري، والعالِم البحري


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

"تولستوي"، و"حِكم النبي محمد"

الأثنين أغسطس 8 , 2022
تمت قراءته: 3٬488 كثيرون، فرادي وجماعات، لما تأملوا، وبحثوا، وتعرفوا، وتواصلوا، وجدوا أن الثقافة العربية الإسلامية ثقافة عالمية، تنزع للإنسانية. لذا أقبلوا عليها معترفين بفضلها وبصماتها الجلية علي مسيرة الحضارة البشرية. فكانت “معرفة مُنصفة” مشكورة إذا ما قورنت بغيرها من أحقاد دفينة، وأفضال منكورة. (تولستوي) يعتبر الروائي والكاتب والأديب الروسي […]
تولستوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة