البشرية بين النظرية العقْدية والنظرية الميثاقية

1- النقد الائتماني لفرضية التعاقد الاجتماعي

لقد أصبح الإنسان المعاصر يدور “في فلك الموت” [1]طه عبد الرحمن، دين الحياء، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ط1، لبنان- بيروت، 2017، ج1، ص 15.؛ إنه، برأي طه عبد الرحمن، إنسان بلا فطرة – التي هي مستودع القيم الأخلاقية ذات الأصل الديني، ومن كان بلا فطرة الدين كان بلا قلب حي، ومن كان بلا قلب حي كان معدودًا في الأموات؛ فمن مات قلبه، مات كله. (البشرية بين النظرية العقْدية والنظرية الميثاقية)

البشرية بين النظرية العقْدية والنظرية الميثاقية
الرابطة المحمدية للعلماء

وإذن، فالإنسان المعاصر الذي ليس له نور من الدين عبارة عن إنسان ميت [2]نفسه، ص 14.. واضح أن صاحب “روح الدين” إنما يقر بموت الإنسان المعاصر، ولكن كيف تم التأسيس لهذه الحالة، حالة الممات؟ أو بعبارة أخرى: ما أساس فكرة “الإنسان المعاصر” بوصفه مثال خُلُقي ذهني [3]نفسه، ص 15. يهيمن على القلوب ويستبد بالعقول؛ العقول الغربية أو المسلمة؟

إن الجواب على هذا الاستفهام يقتضي استحضار نظريات [4]معلوم أن نظرية التعاقد الاجتماعي ليست نظرية واحدة، بل نظريات، فـبعضها يرى أن حالة الطبيعة كانت حالة محاربة … Continue reading العقد الاجتماعي، فهي عند طه أساس حالة الممات التي يعيشها الإنسان المعاصر. يتعلق الأمر إذن بفحص للنظرية العقدية، ولا يتوقف فيلسوفنا عند النقد فحسب، كما سنرى، بل يتجاوز ذلك إلى التأسيس؛ حيث الانتقال من حالة الممات إلى حالة الحياة على حد تعبيره.

ينطلق طه من أنه لما كان الإنسان المعاصر ميتًا، فيجب أن تكون الحالة المدنية التي هو فيها هي حالة ممات، ولإنقاذ الإنسانية لابد من إخراجها من هذه الحالة التي هي فيه؛ إلى حالة تضادها، ومن هنا “يلزم أن تكون هذه الحالة الثانية هي حالة حياة” [5]نفسه، ص 16.. لذلك، سيحاول فيلسوف الائتمان وضع نظرية تعاقدية تقلب رأسًا على عقب النهج الذي اتبعته نظريات التعاقد الاجتماعي؛ وهي نظرية يسميها بـــ”النظرية الميثاقية”؛ وتقضي نقل الإنسان المعاصر من حالة الممات إلى حالة الحياة عن طريق المواثقة [6]نفسه، ص ص 16ــ17..

إن الحالة الأولى التي كان فيها الإنسان ليست حالة وجدت في عالم الملك الذي يتصرف فيه الإنسان بجسمه كما هي حالة الطبيعة [7]وهذا تصور مادي للإنسان حيث تسلم نظريات العقد الاجتماعي بأن “الإنسان لم يشهد إلا هذا العالم المادي (عالم … Continue reading، وإنما حالة وجدت في عالم الملكوت الذي يتصرف فيه الإنسان بروحه، ومن ثم يجب أن تكون هذه الحالة الملكوتية حالة أخلاقية مثلى لا حالة أخلاقية دنيا كما هي في حالة الطبيعة؛ التي هي حالة مُلكية خالصة. وإذا كانت المواثقة التي حصلت في الحالة الأولى كما في النظرية العقْدية إنما حصلت بين الانسان والانسان، فإن المواثقة التي حصلت في الحالة الأولى كما في النظرية الميثاقية إنما هي حصلت بين الإنسان وخالقه؛ فهي إذن مواثقة روحية وليس مواثقة اجتماعية.

(البشرية بين النظرية العقْدية)

إقرأ أيضاً:  لا تبدّد حياتك خلف هدف

مساحة إعلانية


تتمثل هذه المواثقة الائتمانية في ميثاقين رئيسين: (البشرية بين النظرية العقْدية والنظرية الميثاقية)

ميثاق الإشهاد الذي أقر فيه الانسان بربوبية خالقه لما تجلى له بأسمائه الحسنى، ثم ميثاق الائتمان الذي حمل بموجبه الإنسان أمانة القيم التي تجلت بها هذه الأسماء الحسنى [8]نفسه، ص 16.. ثم، إذا كانت النظرية العقدية تعتبر الحالة الثانية حالة سلم أو حقوق أو قيم مدنية ينبغي الدخول إليها، فإن النظرية الميثاقية تعتبر أن الحالة الثانية حالة ممات يتعين الخروج منها، وبالتالي، فالحالة التي يجب الدخول إليها إنما هي الحالة الملكوتية الأولى؛ ما يعني أن هذا الخروج عبارة عن عودة إلى الحالة الأصلية.

ويفيد مبدأ العودة هذا، إلى الحالة الأولى، وقوع النكث في الحالة الثانية عندما نزل الإنسان إلى عالم الملك، ومن نكث ميثاقا فقد خان مواثَقَه، ما يعني أن الحالة الثانية هي حالة الخيانة أو الحالة الاختيانية أو حالة ممات، وفي المقابل؛ فالحالة الأولى هي حالة حياة وحياة أمانة أو الحالة الائتمانية [9]نفسه، ص ص 17ــ18.. والمظهر الذي يتجلى بها تسفل الإنسان في النظرية الميثاقية ليس توحشا أصليا اتصف به الانسان كأنما خلق متوحشا، فاحتيج إلى نقله إلى التأنس في صورة التمدن كما في النظرية العقدية، وإنما هو الوقوع في الخيانة لما واثق ربه عليه من حفظ إيمانه يوم الإشهاد وحفظ إلتزامه الأخلاقي يوم الائتمان [10]نفسه، ص 18..

إذا كان الميثاق وسيلة للخروج من حالة التسفل كما في النظرية العقْدية، فهو في النظرية الميثاقية سبب ووسيلة ومقصد؛ فالميثاق سبب غير مباشر من جهة أن التسفل نتج عن خيانة الميثاق، وهو وسيلة من وجهين: أن الإنسان قبل ظهوره في عالم الملك واثق ربه، والوجه الثاني هو أنه بعد خيانته احتاج إلى أن يجدد مواثقته لربه، والميثاق مقصد من جهة أن الإنسان يطلب العودة إلى الحالة الأولى التي هي الوجود في كنف المواثقة. وبهذا المعنى، تكون الحقيقة الإنسانية في النظرية العقدية تواثقية بدءا فحسب لا عودا كما نجد في النظرية الميثاقية (بدءا وعودا)، وأن المشكلة الأساسية للانسان ليس كيف الخروج من التوحش إلى التمدن – كما في النظرية العقدية – وإنما هل وفّى الإنسان بالميثاق أم لم يوف به؟ فإن وفى بالميثاق فقد حظي بتواجد ملكوتي، وإن لم يوف به فقد وُكل إلى وجوده الملكي [11]نفسه، ص 18..

وإذا كان الميثاق في النظرية العقدية لتجنب التنازع والتقاتل على المِلكية، فإن الميثاق في النظرية الميثاقية ليس يتعلق القصد بتنظيم المِلكية بل توريث الائتمان؛ حتى لا يبقى ما يُتنازع عليه وتُسفك الدماء من أجله. يتعلق الأمر إذن باجتثاث المِلكية من أصلها في النظرية الميثاقية وضبطها في النظرية العقدية [12]نفسه، ص ص 18ــ19..

والتواثق في النظرية الميثاقية تعاهد أخلاقي أو روحي يضبط علاقات التعامل بين المؤمنين وخالقهم، وليس تعاهدًا اجتماعيًا أو سياسيًا يضبط علاقات تبادل المصالح بين المواطنين، كما في النظرية العقدية. والتواثق الروحي إنما يتأسس على عدد من المعاني الدقيقة التي لا يمكن أن يُنشئها العقل المادي من عنده؛ كالوعد، الصدق، الثقة، الوفاء. ولا يستقيم التعاقد الاجتماعي، بالتالي، إلا إذا استند إلى هذه المعاني الروحية ومن ثم يكون بمنزلة الفرع من التواثق الروحي؛ حتى ولو قام على مبدأ إنكار المواثقة بين الإنسان والإله [13]نفسه، ص 19..

إن الانتقال من حالة الاختيان (الخيانة) إلى حالة الائتمان في النظرية الميثاقية لا يقع بإرادة الجميع أو بمعرفتهم وتجردهم كما في النظرية العقدية – ولو أن وجود هذه الإرادة أو المعرفة أو التجرد يتنافى مع نسبة قدر من التوحش لهم إن كثيرا أو قليلا – وإنما يقع هذا الانتقال بهداية أهل العلم منهم الذين يتولون تذكيرهم بالالتزامات الملكوتية السابقة ومآلهم؛ حيث موت قلوبهم الذي هو نتيجة خيانتهم لهذه الالتزامات الروحية، ويدلونهم على السبيل الذي يوصلهم إلى تجديد مواثقتهم لربهم حتى تعود الحياة إلى قلوبهم [14]نفسه، ص 19.. ولا يقتضي الانتقال إلى الحالة الائتمانية في النظرية الميثاقية إحلال التسلط محل التوحش؛ سواء كان تسلط الدولة أو تسلط الإرادة العامة كما في النظرية العقدية، وإنما إلى تخلص الإنسان من كل صور التسلط الملكي التي يُكره فيها على التعبد لغير الذي ائتمنه على معاني تجلياته في خلقه، سبحانه وتعالى [15]نفسه، ص 20..

وما يريد طه التأكيد عليه في النهاية هو أن النظرية الميثاقية هي الأصل الذي نسخته وحرفته النظرية العقدية؛ فالذين وضعوا هذه النظرية، حسبه، اقتبسوا عناصرها الأساسية مما جاء في التوراة عن المواثيق التي أخذها الإله من الإنسان في العالمين؛ الملكي والملكوتي، وأضافوا إليها عناصر أخرى ونسجوا من ذلك نظريات تدور على مبدأ التواثق وألبسوها لباس النظريات العلمية العَلمانية [16]العَلمانية (بفتح العين) تعني فصل السياسة عن الدين، بينما العِلمانية (بكسر العين) تعني فصل العلم عن الدين. انظر: … Continue reading متنكرين لأصلها الديني [17]طه عبد الرحمن، دين الحياء، ج1، ص 20..

(البشرية بين النظرية العقْدية)


مساحة إعلانية


2- نقد النقد الائتماني

إن شئنا أن نعيد ما سبق في عبارات مكثفة، يمكن القول أن تجديد الإنسان وإخراجه من حالته التي هو فيها مشروط بوصله بخالقه، ذلك بقلب تراتبية العالمين، عالم المُلك وعالم الملكوت؛ فيعود الأول فرعًا بعدما أضحى أصلًا ويعود الثاني أصلًا بعد أن أصبح فرعًا. وهو قلب منهجي عميق يعبر عن وعي دقيق مفاده أن نقد الأفكار دون التوجه إلى مصدرها رمي في عَماية، لذلك يحرص على تغيير منهج النظر أكثر من مواجهة نتاجه والوقوف عنده؛ بل إن تغيير المنهج هو تغيير لنتاجه، وهو ما نفتقده في عالمنا العربي والإسلامي [18]فبدل أن نصلح الآلة المنتجة لقطع الثوب المثقوبة، مثلا، نظل حبيسي إصلاح النتاج؛ بأن نتعرض لكل قطعة بها خرق، وهو … Continue reading. لذا، فطه عبد الرحمن إنما يروم قلب الرؤية الغربية عموما، وكأنه يؤكد على أنها تمشي على رأسها ومن ثم يتعين قلبها لتمشي على رجليها. ولكن، وعلى الرغم من قيمة ذلك، يبدو أن مشكلة الفلاسفة الذين يبنون الأنساق أنهم يهملون ويغفلون السياقات، ونقصد أن الفيلسوف المغربي إنما يتجاهل سياق ما انتقده. ولبيان ذلك نقول: ما الذي غاب عن طه حين وجه نقده اللاذع لفرضية التعاقد الاجتماعي؟

إن نقد طه عبد الرحمن لفرضية التعاقد الاجتماعي – حسب حسن الحريري – إنما يغفل ويُهمل سياقها المتمثل في ضرورة تجاوز الأزمة، أي أنها جاءت كضرورة فرضتها الأوضاع التي كان يعيشها الغرب، أي مشكلة الاستبداد الكنسي الديني؛ إنها فرضية ضرورية وليست مجرد ترف فكري، يتعلق الأمر بضرورة الإجابة عن أسئلة حارقة. كما أن حالة الطبيعة ليست، دائمًا، حالة صراع وتملك، فجون جاك روسو يرى أن حالة الطبيعة هي حالة المساواة المطلقة، أي أن حالة الطبيعة عنده هي الحالة المثالية للمجتمع. إن واقع المجتمع الغربي – كما عند روسو – أنه مجتمع مِلكية وهنا أصل التفاوت بين الناس، وهنا يتقاطع طه مع روسو من حيث الانتقال من المُلكية (الطبيعة عند طه/المِلكية عند روسو) إلى الملكوتية (الحالة الأصلية عند طه/حالة الطبيعة عند روسو) [19]انظر مداخلة: حسن الحريري، طه عبد الرحمان نحو براديغم جديد.. بل إن هناك تشابه – كما يرى أحد الباحثين – بين طه وماركس؛ الذي ربط بين التقسيم الطبقي الاحتيازي وبين الصراع الذي ولد عنفًا وعنفًا مضادً [20]عبد الكريم عنيات، أصل العنف في الدرس الحداثي العربي: مقاربات ــ مقارنات ــ تعقيبات، مجلة العلوم الإنسانية … Continue reading.

اليوسفي رحو

(البشرية بين النظرية العقْدية)

إقرأ أيضاً:  قول ومقالة


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 طه عبد الرحمن، دين الحياء، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ط1، لبنان- بيروت، 2017، ج1، ص 15.
2 نفسه، ص 14.
3 نفسه، ص 15.
4 معلوم أن نظرية التعاقد الاجتماعي ليست نظرية واحدة، بل نظريات، فـبعضها يرى أن حالة الطبيعة كانت حالة محاربة الجميع للجميع، فيكون التعاقد إذن قد نقل الإنسان إلى الحالة التي يجد فيها الأمن أو السلام، وبعضها يرى أنها – أي حالة الطبيعة – كانت حالة حقوق طبيعية مُعرضة للهضم والانتهاك؛ فيكون التعاقد إذن قد أخرجه إلى الحالة التي يظفر فيها بضمانات لهذه الحقوق، وبعضها الآخَر يرى أنها – أي حالة الطبيعة – كانت حالة الحياد القيمي للإنسان، فلا هو بخير ولا بشرير؛ فيكون التعاقد إذن قد نقله إلى الحالة التي يكتسب فيها القيم المدنية. المصدر السابق: ص 15.
5, 8 نفسه، ص 16.
6 نفسه، ص ص 16ــ17.
7 وهذا تصور مادي للإنسان حيث تسلم نظريات العقد الاجتماعي بأن “الإنسان لم يشهد إلا هذا العالم المادي (عالم الملك)”. المصدر السابق، ص 16.
9 نفسه، ص ص 17ــ18.
10, 11 نفسه، ص 18.
12 نفسه، ص ص 18ــ19.
13, 14 نفسه، ص 19.
15 نفسه، ص 20.
16 العَلمانية (بفتح العين) تعني فصل السياسة عن الدين، بينما العِلمانية (بكسر العين) تعني فصل العلم عن الدين. انظر: طه عبد الرحمن، بؤس الدهرانية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط2، بيروت، 2014، ص 11.
17 طه عبد الرحمن، دين الحياء، ج1، ص 20.
18 فبدل أن نصلح الآلة المنتجة لقطع الثوب المثقوبة، مثلا، نظل حبيسي إصلاح النتاج؛ بأن نتعرض لكل قطعة بها خرق، وهو ما لن ينتهي. وهذا ما تنبه له فلاسفة الحداثة، في الغرب، حين صوبوا نظرهم نحو المنهج. أنظر: الطيب بوعزة، لماذا نحتاج إلى التجديد المنهجي؟، مركز نهوض للدراسات والنشر، 2018.
19 انظر مداخلة: حسن الحريري، طه عبد الرحمان نحو براديغم جديد.
20 عبد الكريم عنيات، أصل العنف في الدرس الحداثي العربي: مقاربات ــ مقارنات ــ تعقيبات، مجلة العلوم الإنسانية والإجتماعية، العدد 52، ديسمبر 2019، ص 281.
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

صلاح السعدني.. فيلسوف الفن

الأربعاء نوفمبر 3 , 2021
تمت قراءته: 2٬325 يصادف هذه الأيام ميلاد الفنان القدير صلاح السعدني الذى توارى عن الأنظار منذ سنوات لذا فنحن نجوب القنوات التلفزيونية باحثين عن فناننا العظيم الذي ترك خلفه إرثا كبيرًا من الأعمال المتميزة، لم يكن فحسب فنان يقوم بأداء دوره الفني ببراعة لكنه كان لديه فلسفته الخاصة التي تحول […]
صلاح السعدني

اقرأ أيضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة