أصبح الخلق يعيش في حالة من الخوف والقلق التي ربما تخلع القلوب حتى كدت لا ترى ولا تشاهد أصحاب السكينة والطمأنينة إلا نادرًا. وهذا الخوف وذلك القلق ربما لا يغيِّر من أقدار الله شيئًا بل من المؤكد أنه يزيد من الهموم والكروبات من مستقبل ربما لا تكون أحد أفراده في يوم من الأيام (أطال الله في أعماركم) وأحسن أعمالكم. وكنت أظن أن كثرة الموت من حولنا وخاصة موت الفجأة سيقلل من التأمل في الدنيا والزهد فيها ولكن بالرغم مما يدور من حولنا إلا أن الناس زادوا في التسويف وأملوا في الدنيا وتشاحنوا وتخاصموا من أجلها. بل وربما كلما وجدت فاجرًا في خصومته شعرت بتملك الدنيا من قلبه وأنه متغافلًا عن أمر الآخرة وأمر ربه. غرباء الدنيا ناجون في الآخرة
وحينها تذكرت قول الحبيب ﷺ في صحيح البخاري كتاب الرقاق الجزء رقم: 8، الصفحة رقم: 89 6416 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”. وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
والغريب في الطريق لا يتزود من المؤنة إلا ما يبلغه سبيله كي لا يزيد من أحماله وأعبائه بقدر ما يتزود من العلم والمعرفة لبلوغ مراده فالغريب خفيف الظهر.
بل لك أن تتأمل في قول ابن عمر رضي الله عنهما إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
ففيها من إبراء الذمة ما فيها. وترك الدنيا وما فيها ولا تنافس فيها بل وليكن منافستك للآخرة وما فيها.
ذهبت الطمأنينة وحل الخوف والقلق – غرباء الدنيا ناجون في الآخرة
وإن هذه الطمأنينة والسكينة للقلب والروح جعل الله لهما سبب فإن غاب السبب فإن محصلة النتيجة صفرًا.
ومهما تعاظمت أمامك الأسباب فليس فيها كمثل ذكر الله شيئًا (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ومن هنا فإنك تعلم حبيبي الغالي أن سبب ما نحن فيه إنما هو البعد عن الله وعن ذكره ﷻ. فالذكر له تأثيرًا عجيبًا على تلك القلوب ويجعلها في حالة اطمئنان وقرب من الرحمن وترك لما يتنازع عليه الخلان.
الذكر ليس فقط للطمأنينة وإنما هو حياة للقلوب.
حياة لقلوب أنهكتها متاعب الحياة.
حياة لقلوب أغوتها الشياطين.
وهذا الذكر الذي يجلب الاطمئنان ربما لا يشعر به أي إنسان فهناك من الناس من يذكرون ولم يتعدى ذكرهم هذا أفواههم ولم يمر على تلك القلوب وللذكر حلاوة تقع في القلب لو علمها أهل الدنيا لماتوا غيظًا على تفريطهم وانشغالهم عنه.
يسعى الإنسان خلف شهواته وملذات الدنيا وإرضاء غروره ويظن أنه بذلك يستطيع أن يحصل تلك السكينة وذلك الاطمئنان.
ولا يدري المسكين أن سعادته وهو يسير خلف شهواته وغروره فهي سعادة لحظية مؤقته يتصنعها لمن أمامه حتى يكسو نفسه بثوب السعادة والانتصار وإذا ما خلا بنفسه تجد الضيق والهزيمة والانكسار سعادة وهمية.
وأما السعادة الحقيقية هي التي تكون في الفقر والغنى، في الصحة والمرض، في كل أمور الإنسان، لأن قلبه مطمئن بذكر الرحمن.
وإن قذف الوهن في تلك القلوب هذه الآفة التي ابتليت بها الأمة ما حلت بنا إلا لأننا أصبحنا كغثاء السيل لا وزن ولا قيمة لنا بين الأمم وكل إنسان ما عاد يفكر إلا في نفسه وتدمير كل ما حوله.
غرباء الدنيا ناجون يوم القيامة – غرباء الدنيا ناجون في الآخرة
ولو عاش المرء على توحيد الله ﷻ متبعًا هدي نبيه ﷺ غريبًا في الدنيا بل وربما الغريب يستطيع أن يتلذذ حال غربته فكان الأفضل في زهده أن يكون عابر سبيل فلو كان الغريب يتنعم ولو للحظات فعابر السبيل لا يشغله إلا بلوغ مراده.
وإذا انشغل العبد بآخرته فإنه مما لا شك فيه يبلغ مأمنه يوم القيامة بعد رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى. ولك أن تتدبر في كل آيات الذكر الحكيم والله ﷻ يصف لنا هذه الحياة الدنيا
(وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت 64]
فالحياة الدنيا بشهواتها وملذاتها ومناصبها وصراعاتها وتنافسها كل ذلك لا يساوي عند الله جناح بعوضة وكل ذلك لعب ولهو لا فائدة فيه إلا من تزود بالتقوى ليكون يوم القيامة من الناجين.
من نافسك في دنياك فألقها في نحره ومن نافسك في آخرتك فنافسه.
غالب الناس إلا من رحم رب العالمين يكيل بمكيالين التنافس من أجل الدنيا يكون على قدم وساق وتنافس الآخرة فيه وهن وضعف.
تجد كثير من الخلق يعرف ما له وما عليه في الدنيا، في العمل، يتنافس في الشارع، يتسابق في بيته، في كل أمور حياته لا يكون في مشكلة إلا ويريد أن يُشار إليه بالبنان أنه المنتصر أنه الفائز أنه الأقوى أنه وأنه.
وعند ذكر الآخرة لا يحسن إلا عبارة “أنا أحسن من غيري”. ولو قلبنا الموازين للحظات لا يطيق بمعنى أن تكون في الدنيا زاهد متسامحًا متغافلًا مع الحفاظ على استقامة الحياة فتكون أحسن من غيرك.
وتكون في الآخرة سباقًا مجتهدًا منافسًا تدين نفسك وتلومها تأدبها ذاكرًا لله آخذًا بيد غيرك إلى جنة عرضها كعرض السماوات والأرض فتنفع نفسك وتنفع غيرك.
وفي الختام كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل تكون من المفلحين برحمة رب العالمين.
حفظنا الله وإياكم من كل مكروه وسوء ورزقنا وإياكم الفردوس الأعلى من الجنة.
كتبه
محمد خيري بدر
معلم بالتربية والتعليم بمصر
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
محمد خيري بدر من مصر. تخرج من معهد دراسات تكميلية بدمياط وعُين معلم بمدرسة ثانوية صناعية، وتوجه بعدها للقراءة والكتابة الاجتماعية، ومن هواياته الرسم.