فهمٌ من نوعٍ آخر: الفن الإنساني
لم يتم إدراجه ضمن أنواع الفنون. لم يُذكر في التلفاز والإذاعات. لم تدوّنه الصحف ولا الجرائد.
يقولُ إنسانْ ما: “أنا أرسمُ، أنا أغني، أنا أكتبُ، أنا أخطّطُ، أنا أنقشُ. أنا فنانٌّ”.
أقولُ: “وأنا إنسانٌ ما أيضًا، أنا أفهمُ. أنا فنّانٌ”.
تركيبةٌ نفسية مجهولة، تتحكمُ بانفعالاتنا وأساليبنا، بِرَدَّاتِ فعلنا القصيرة والطويلة، والنبرة التي نقول بها “لا” والطريقة التي نُحَضِّر فيها القهوة، والتي تُحَضِّر فينا المرارة المحببة. والجهل هُنا، معرفةٌ مستترة.
يقضي المرء سنينه سفيرًا لعدة قضايا بينما يشكل بنفسه القضية الأهم. ولكن، الوقت يطحننا دائمًا كعنبٍ للحصول على النبيذ. كي يتخدر وعينا ونَسكَرَ عن أنفسنا.
متى امتلكنا من الوقت متسعًا للنظر؟ للرؤية؟
نادرًا ما نتظاهر بالعمى من هول المواقف، إلا إنها تكون اللحظات الوحيدة التي نرى بها، والإنسان دونها، كفيف.
من لحظة الولادة، حتى لحظة الموت، إننا في انشغال دائم يضج بالفراغ. إلى أن أصبح الفراغ بذاته، فنًا إنسانيًا محض الصدفة.
شريطُ حياتنا، فيلمٌ زمني. يمضي في دوامة الوجود، حيث لا يشكل عدمك أهمية كونية كبرى. المعادلة بسيطة هنا. من كنت، كي تكون؟
مقتطفٌ من مسرحية الكون – الفن الإنساني
“إن فهمنا محدود، وأمور كثيرة تفوق قدرتنا على التفكير والاستيعاب، والنظر للأعلى، خطرٌ، كالنظر للداخل أيضًا”. خُدعنا، بكلمات بسيطة.
بُرمجت عقولنا على التقبل، والاستماع، وتبني الأفكار. فيُقال، إن كل فكرة يخلقها ذهنك، ما هي سوى فكرة شخص ما أمامك، لكنها تظهر برداء مختلف لدى كليكما. وانطلاقًا من الطاقة المحيطة وتفاعلكما معًا، نشأت الفكرة، بعد ظهورها المستتر بحركة ما، أو جملة، أو نظرة.
إننا نرى في كل مشهد، جزءًا من مشهد سابق. وعلى أساسه نقوم بالحكم وردات الفعل، دون رؤيتنا للمشاهد جميعها متكاملة. وهنا الوهم النفسي الانفعالي اللاواعي، حيث تتمركز الذات في حالة يبتكرها العقل، كرغبة مدفونة نشأت أيضًا نتيجة حركة، أو جملة، أو نظرة، وتخزنت في صندوق المكبوتات.
فهل وعينا غير قادر على رؤية الصورة الكاملة؟
لا، بل مستواه وبعده النفسي.
نصوّر الروحانيين على أنهم الأكثر بلاهة وجنونًا، إذ إنهم غير مبالين بالأحداث التي تثير في الإنسان استفزازه وانفعاله وتعصبه، غير مكترثين بالنفوذ والسلطة والمال، غير فاعلين في المسار الاجتماعي المبتكر من قبل محيطٍ متقدّم.
إلاّ إنهم، الأكثر استنارة وتنويرًا.
بم يفيد المال، والثروة بداخلك؟
بم يفيد النفوذ، وأنت سيد كل الأبعاد؟
بم تفيد السلطة، وبيدك سلطانك؟
إنه خطأ واحد ومحتوم، لن تستطيع من بعده مشاهدة الفيلم كاملًا متى أردت، إلا في حال أدركت وجوده بالفعل. والإدراك هنا، فعل اللحظة. وجمع اللحظات يؤدي لفهم مشهد. وجمع المشاهد، يؤدي لفهم رقعة زمنية. وجمع الرقع الزمنية سيؤدي لأغنية الشارة، لعل بعدها، يبدأ الفيلم.
فتستمر المشاهدة في بعدين، البعد العقلي والبعد النفسي. وما إن أكمل كل منهما الآخر، وما إن أدرك بطل نفسه بأن كل ما يشاركه بعمله الإنتاجي عمل خاص أيضًا. يصل المرء أخيرًا لفهمٍ إنسانيٍ سَوِيّ بعض الشيء، ويغدو العالم الميتافيزيقي، كوب شاي بالنعناع.
كل تلك المراحل، تتم بعد إدراك الفكرة.
كَيَومٍ مشمس تقرر فيه الذهاب في نزهة، وتحضر الأغراض و”الحاجات” كلها، ومع ذلك يستغرق الطريق مسافة طويلة.
ولكن، كل الأيام مشمسة للذهاب في نزهة حول النفس. أما مللنا الضجر؟
مساحة إعلانية
لحظة الولادة – الفن الإنساني
ما الفرق بين لحظة الولادة ولحظة الموت؟
ما إن أدركت ولادتك، ستدرك أنك لن تموت أبدًا.
إن خروجك من جوف أمك، لا يعني أبدًا بأنك ولدت.
كذلك مفارقتك لهذا العالم، لا يعني أبدًا أنك مت.
إن السيناريو المطروح حول قضية الوجود ومفارقته، ذلك السيناريو المكتوب بأنامل مادية، بماء من ذهب يشبع الشجع – والذهب هنا صدأٌ أحمر – ما هو سوى لعبة زائفة. السيناريو الأسوأ فى عقلك، الذي ترسمه القيم الظلامية في تعريفاتك الوجودية.
ولأن الوجود موجود أبدًا فنحن نُسقِط تعريفاتنا له بالكلية لألّا يجد الظلام مكانًا يعبث فيه.
وعندما نسقط تعريفاتنا للوجود يُعَرِّفُنا الوجود على نفسه.
حينها، تنتهي الازدواجية الوجودية الناتجة عن البرمجة والتعريفات، ويصير الانفصال اتصالًا لأنه لم يعد هناك شخص منفصل ينظر للوجود كمجهول يحاول تعريفه.
وعندما تتم هذه المطابقة. نرى العناصر وحدة منظمة في مملكة الفهم وتغدو الحياة المادية أسهل وأبسط.
لأن شقاء المرء وسعادته، خوفه وراحته، غير محكومة برغباته ومقياس تحقيقها، بل بدرجة فهمها وقبولها، وأحيانًا ترويضها.
جميع الأشخاص المتواجدون في محيطك، سواء ولدوا أم لم يولدوا بعد، ما هم إلّا ممثلون لحالات الشعور الموجودة داخلك. لأن كلًا منّا يخلق صورة خاصة عن محيطه ويتصرف على أساسها دون النظر أبعد من ذلك. وربما البعد النظري بمعناه الذي تطلبه الفكرة، غير مُجدٍ هنا. فالسير للأمام، سيرٌ نحو المتاهة. إن لم تُفكّ الشيفرة الخلفية.
الفهمُ المتوارث
وفق ما نراه ونحسّه اليوم، والرؤيةُ شاهدةٌ على الإحساس، البشرية تسير وفق نهجٍ وخطة رُسمت لها من آلاف السنين وما زلنا نحيا ونُبعَث من جديد في الدائرة نفسها.
يتقدّم الزمن، يتقدّم العمر، يتقدّم التطور والتكنولوجيا. غالبًا، وحده تطوّر الفكر يقع ضمن مفاهيمٍ محرمة و”يحشرونه” في أنبوبٍ ضيّق بجانب أفكارٍ أجهضوها واغتصبوا بناتها. بينما ما هو الفكر والعلم والتطور سوى كسر هذه الأنابيب، دون إعادة تدويرها، دون إنشاء ما يعادلها. بل اليقين بأن المساحة الفاصلة بين سماءٍ وأرض، تتّسع.
لا شك بأننا بشرية مبرمجة على قاعدة فكرية معيّنة، إن التَّحَرُّر من القاعدة القبلية المؤسَّسَة منذ خَلق الوعي الكوني، صعبةٌ إجمالًا فالأضداد وجهان منعكسان لشيء واحد، متَّحد في طبيعته، تختلف أوجهه، أو بالأصح تنعكس كل مرة بهيئة واحدة. فخلق الوعي الكوني قد سبَّبَ بطريقة أو بأخرى خلق قاعدة فكريَّة مسيطرة على بشريَّة مُبَرمَجَة.
على الأقل، أليسَ جديرًا بتحرير العقل من هواجس المحيط للحصول على بناءٍ غير معرّض للهدم مع أوّل عاصفة؟
فهم المحسوسات والمعرفة بها وشكل إدراكها، لم يعد يحدث فارقًا.
فالمشكلة غير كامنة في تسيير الفهم ضمن أبواب الألوان والأشكال والأعداد. بل في فهم النفس وصورتها المنبثقة عن الصورة الكليّة المقدّسة، وهذا ما سيوافقه كل مؤمن، بإله، بطبيعة، أو بنفسه.
أنت، نسخةٌ واحدة.
حياتك، مغامرةٌ واحدة.
المال والأملاك والأعمال والنسب. على هذا الإرث أن يتوقف هُنا.
قد تظن بأن خلع المعطف، في طقس شتوي، يأخذ بصاحبه للتهلكة. ولكن، ماذا لو كان الطقس شتويًا لأنك ترتدي معطفًا؟ أفكرت في ذلك قط!
الحياةُ مسرح، إلّا أنك الممثلُ والمشاهد في آن معًا، وصانع “فشار” يقفُ في زاوية الممشى.
كل ما وقع عليه نظرك خلال مسيرتك، حمل جزءًا منك.
أن تتعامل مع كل ما يحيط بك على أنه شيء منك، وأن ترتقي عن الكل بفهم الكل، هُنا، تصل لمرحلةٍ تتراجع بها الكثير من المقدسات والعادات والتقاليد لمرتبةِ البلاهة. ولكن هل بات لك القدرة على أن تُولد، أيّها الميّت المرمي في سماء الزيف!
زهرة عارف العمر
فهمٌ من نوعٍ آخر: الفن الإنساني
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
زهرة عارف العمر من لبنان. طالبة بكالوريا تتحضر لدخول كلية الحقوق ٢٠٢١-٢٠٢٢، مفكّرة وكاتبة وناشطة، دُوِّن لها العديد من المقالات والنصوص الأدبية الفلسفية.