قرية “الحرانية” تغزل فنوناً عالمية

مشاغل مُشيدة علي شكل قباب، وأنوال خشبية تعزف عليها أنامل ذهبية. قرويون وقرويات يبدعون – بعفوية – مشاهد من حياتهم اليومية، ومن المحلية ينطلقون للعالمية. إنها قرية صنعها معماري فنان. (قرية “الحرانية”)

قرية الحرانية
اليوم السابع

“الحرانية”. إحدى قرى مركز “أبو النمرس” بمحافظة الجيزة، مصر. وتبعد نحو 15 كم عن منطقة آثار سقارة. وتعد بمثابة “ورشة كبيرة” للسجاد والكليم اليدوي. ولقد تبوأت مكانها ومكانتها بفضل ريادة “مركز الفنون المحلية/ مدرسة الفنون الجميلة”. قلب القرية النابض بممارسة وتعليم الحرفة. ذلك الإنجاز الذي طبقت شهرته الأفاق وأسسه “رمسيس ويصا واصف”. حصل المهندس المصري “رمسيس ويصا واصف” (1911- 1974) على دبلوم الفن من أكاديمية الفنون فى باريس (1935)، وعاد إلى مصر فعمل أستاذًا للفنون وتاريخ العمارة في أكاديمية الفنون الجميلة بالقاهرة.

واقتنع بأهمية دور “الفن والحرفة في تغيير المجتمع”. فأنشأ بالإشتراك مع زوجته “صوفي”، ووالدها “حبيب جورجى” (مركز الفنون المحلية بالحرانية) الذى بُني من قوالب طينية وضم العديد من ورش العمل، والفنون، وصالات العرض. وقام المركز بإطلاق ملكة الإبداع الفطرى لأهالى القرية حيث يقومون بأعمال السجاد والكليم والمنسوجات المُبهرة. كما نجح خلفاء “رمسيس” فى إضافة العديد من الصناعات اليدوية المحلية الأخرى مثل “صناعات الخزف اليدوى، والأغطية، والملابس اليدوية”.

مشروع رائد – الحرانية

بدأت فكرة إنشاء المركز عام 1952، وكانت الحرانية هي القرية الأنسب لتأسيس هذا المشروع الرائد، فقد كانت تخلو من الحرف سوى الزراعة. واعتمدت الرؤية “الفلسفية” على ضرورة إحياء الحرف اليدوية، وتنمية حياة الفلاحين، ومساعدتهم ليبنوا مستقبلًا متميزًا. وقد اختار النسيج لكونها حرفة تراثية يعبر من خلالها الريفيون عن أنفسهم بحرية، كما أنها تعتمد على الطبيعة في كل مفرداتها. كذلك تشغيل عقلية الأطفال وتنمية مواهبهم في التشكيل الفطري التلقائي: “فلكل إنسان طاقة إبداع لو لم تستغل فقد تضمحل”. فمنح الطفل الثقة في نفسه تسمح له باكتشاف إمكاناته ومهاراته والتعبير عنها بحرية.

فاهتم “ويصا” بالأطفال (10-12 عامًا)، وبدأ مع الجيل الأول وكانوا 15 طفلًا وطفلة من داخل القرية، وعلمهم القراءة والكتابة ليحفزهم على التفكير وتوسيع أفقهم بصورة عامة وليس في مجال الفن فقط، كما اختار النسيج حقلًا لتنمية إبداعهم. ولتوسيع مداركهم الفنية. نظم لهم رحلات لعدد من الأماكن كحديقة الحيوان، ومعالم الإسكندرية، وبدأ الأطفال في تعلم الحرفة عبر تنفيذ أفكارهم مباشرة على الأنوال دون رسوم أو ماكيتات مسبقة، فخيال الطفل وحده هو الصانع للوحة. وجاء الجيل الثاني الذي شكلته إبنة “ويصا واصف” فيما بين (1972- 1978) وكان مكونًا من 40 طفلًا وطفلة. ثم تعددت المدارس لتعليم الحرفة في القرية وانتشرت انتشارًا واسعًا لدرجة أنها أصبحت مهنتها الأساسية ومصدر رزقها. فتجربة المركز لم تؤثر فقط على مستوى حياة النساجين من رواده، ولكن على جيرانهم أيضًا. ليصبح في كل بيت نول، وإن اختلفت مستويات الإنتاج، لتغدو قرية الحرانية أحد أهم مراكز صناعة السجاد اليدوي.

إقرأ أيضاً:  المَها في الثقافة العربية

مساحة إعلانية


أسرار الصنعة – الحرانية

معظم الخامات المستخدمة طبيعية: أصواف (الخراف المحلية)، وخيوط قطنية وحريرية. وتبدأ الصناعة عبر تسخين تلك الخيوط لفترة طويلة، ثم صباغتها بصبغات طبيعية مستخلصة من نباتات عدة كنبات الكركديه، والمضر، والفوه الذي تستخرج منه الصبغة الحمراء، ونبات ليبيتولا الذي تستخرج منه الصبغة الصفراء، ونبات النيلة للحصول على اللون الأزرق. وللحصول على درجات اللون البني يلجأون لأوراق شجر البيكان، بينما يأتي اللون الأصفر من نبات الروزيد الخ. وفي محاولة لإستخدام تلك الثروة النباتية في الصباغة. تم زراعة معظمها في أرض المشروع، واستيراد بذور بعضها للحصول على درجات لونية بعينها.

وبدأ مؤخرًا استيراد بعض الخامات من الخارج. أما الأدوات المستخدمة فهي الأنوال الخشبية، مختلفة الأحجام لتثبيت الخيوط عليها، ومشط لتشكيل الخيوط والتحكم فيها. وتوجد طريقتان للتصنيع: الطريقة الأفقية والرأسية. ويتم إعداد السجاد القطني عبر طبقتين من الخيوط موضوعة على خشبتين يتم التحكم فيهما عن طريق بدال يتحكم فيه الحرفي بساقيه.

ويتطلب ممارسة الحرفة قدرًا كبيراُ من الصبر والتحمل، وحدة البصر، والدقة، والتركيز، بعيدًا عن زحام الحياة. فالضوضاء هي الخطر الأول الذي يـُفقد التركيز المُراد لتناغم الألوان، ووضع الخيط تلو الآخر في مكانه الصحيح، فإن أي خطأ سيستلزم نقض كل ما تم نسجه من خيوط، وإعادة نسجه من جديد. ويفضل لمن يرغب في تعلم تلك المهنة أن يبدأ صغيرًا (ما بين 7- 9 سنوات) كي يعتاد هذه الخصال، وتلك الأسرار إلى جانب تنمية ذوقه الفطري، ويلزمه نحو عشر سنوات ليكون فنانًا حقيقيًا بارعًا. ولذا تستعصي المهنة كثيرًا على من يريد تعلمها في الكبر.

ومتوسط الوقت لعمل سجادة/ تابلوه من 4- 6 أسابيع وقد يمتد العمل في بعضها لأكثر من عام حسب مقاساتها، وموضوعات رسومها. وتتنوع تلك الموضوعات من: أثار ومشاهد فرعونية (كالأهرامات، وتماثيل ملوك الفراعنة، وعين حورس ألخ)، ولوحات إسلامية (للمساجد، والقباب، والمآذن، والهلال ألخ)، وآيات قرآنية (بالخط الكوفي أو النسخ)، وموضوعات طبيعية (كالحقول، والأشجار، والأنهار، والحيوانات، والطيور إلخ) أو تشكيلات فنية تجريدية، ويبقي خيال الناسج لا ينضب، فالصور في ذهنه، والإبداع حرفته.

ويعكس كثير من السجاد/ الكليم اليدوي رؤية وحسًا فنيًا، فوراء كل قطعة قصة وحكاية. وصناعة سجادة واحدة يقوم بها شخص واحد تاركًا بصمته وابداعه عليها، فيقوم بتوقيع اسمه، وسنة إنتاجها. ومن بين الأعمال الأكثر شهرة في المركز منسوجات “عم علي” شديدة الاتقان. ولم لا. فهو من الرعيل الأول ممن التحقوا بالمكان، كما يفتخر الجميع بسجاد “عاشور” الذي يستلهم أعماله من مفردات البحر كما لو كانت “ذاكرته البصرية” التقطت صورًا فوتوغرافية دقيقة لمشاهد بحرية يترجمها عبر خيوط وألوان.

ويعتبر السجاد اليدوى بالحرانية من أهم الصادرات اليدوية بمصر، ومنافس قوي لأشهر الأنواع العالمية. أما الكليم في مصر فنوعان: الأول شعبي يصنع في “الحرانية” بمحافظة الجيزة، و”فوة” بمحافظة كفر الشيخ، والآخر يدوي تشتهر به واحة سيوة بالصحراء الغربية، ومدينة العريش بشمال سيناء. ولكلٍ طريقة تطريز وعقد وألوان مختلفة أيضًا، حيث يميل كليم “الحرانية” إلى: الأحمر، والبني، والأصفر الداكن، بينما يميل الثاني إلى: الأسود، والأبيض، والأزرق.

والإقبال على الكليم اليدوي كبير لاسيما لمن يزينون به الحوائط كما في الأماكن الراقية كالقرى السياحية، والفنادق الكبرى، وقصور ومنازل الأثرياء. وتبدأ الأسعار من 100- 100 ألف جنيهًا مصريًا للسجادة أو التابلوه، لكن أسعار الكليم منخفضة نسبيًا وتبدأ من 50- 500 جنيهًا مصريًا للمتر المريع. لأن كثافة الغرز والعقد في السجاد أضعاف الكليم، وتستغرق قطعة الكليم المتوسطة الحجم (3 أمتار) نحو خمسة أيام من العمل.

حرفة تناسب النسوة

توارثت الأجيال هذه الحرفة. فلقد قضوا أمام النول الخشبي عشرات السنوات بين العمل بأجر يومي، ثم كأصحاب ورش كبيرة تنتج ما بين 15-20 قطعة سجاد/ كليم/ شهريًا. ويحرص الحرفيون الكبار (الأسطوات) على نقل خبرتهم للأجيال الجديدة لتستمر الصنعة، ولا تندثر كغيرها من المهن اليدوية. ولم تقتصر هذه الصنعة على الذكور بل شاركهم العمل كثير من فتيات ونساء القرية سواء في المركز، أو الورش الكبيرة أو على أنوال داخل منازلهن. واستمررن فيها لعشرات الأعوام بعد إتمام دراستهن، أو زواجهن، أو إنجابهن.

فتصنيع السجاد/ الكليم اليدوي مهنة تناسب النسوة كثيرًا، فيمكن وضع النول في أحد جوانب الحجرة وفي أوقات فراغهن يمكنهن العمل لساعات. ولا يوجد وقت محدد يقيدها لإنجاز المنسوج مما يجعلها تبدع بفطرتها دون أي قيود كما تنظم بين حياتها الشخصية والعملية. ثم يبعن ما أنتجنه للبازارات، أو يعرضنه أمام المارة على الطرقات.

بينما في المركز. يبدأ العمل عند التاسعة صباحًا حتى الظهر وتعود النسوة لبيوتهن لتحضير الطعام ومتابعة شئون المنزل ثم يعدن ثانية ليغزلن على النول حتى الرابعة/ الخامسة عصرًا. والمدهش هو الجودة العالية لمنتوجهن الفني، ودقة رسوماتهن وخيالهن المُحلق عاليًا، بالرغم من عدم دراستهن الفن، لكنهن ريفيات يحكن الصبر والفن في لوحات فطرية فريدة ترسمها أناملهن.

إقرأ أيضاً:  "الفن السابع" يعالج الجائحات

مساحة إعلانية


وبالقرية. متحفان

يوجد في القرية متحف “دار الفن”. معلم بارز يقصده السياح للوقوف على مشوار المعماري العالمي “ويصا واصف”، وزوجته وما قاما به لتحويل القرية المصرية إلى قرية منتجة عالمية. وقد أسسته أسرته عام 1989 تخليدًا لذكراه، وذكرى تجربته الرائدة. كما يوجد أيضًا متحف “حبيب جورجي” والد زوجة “ويصا واصف” وزميل مشواره الفني ويضم عدة قاعات تعرض بين جنباتها أعمالًا متنوعة: خزفية، وفخارية، ونسيجية من المواد المحلية وبأيدي أهل الحرانية المبدعين. وقد نالت أسرة المعماري “ويصا واصف” جائزة أغاخان (1983) تقديرا لأعمالها.

إقبال عالمي

نجحت فكرة “ويصا واصف” ووصلت إلى العالم، وشارك مركزه في 135 معرضًا/ سوقًا دوليًا (في سويسرا، وهولندا، وباريس، ولندن، وأوسلو، وميلانو، وشيكاغو إلخ) وسمي بـ”الهرم المصري الرابع”. ولقد حظيت منتجات “الحرانية” بالعديد من الجوائز التقديرية، والإقتناء كـ”علامة تجارية” عالمية لها بريقها، وسمعتها. فهو نسيج يدوي يـُدهش أشهر الخبراء، والمتذوقين لهذا الفن.

كما تحولت”الحرانية” إلى مقصد ومزار سياحى فني. وقد زارها كثير من الملوك، والرؤساء، والوزراء، والسفراء، والشخصيات البارزة كالأميرة الراحلة “ديانا”، والفيلسوف الوجودي الفرنسي “جان بول سارتر”.

صفوة القول: رغم مفردات الحياة القروية البسيطة والمُتشابة إلى حد كبير. إلا أن القرويين المصريين يغزلون بأناملهم روائع إبداعية متفردة تبهر العالم.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

 

إقرأ أيضاً:  أكادير الساحرة


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

الدراجات الهوائية.. تحُـل مشكلات مُستعصية

الخميس أكتوبر 7 , 2021
تمت قراءته: 2٬647 يوافق يوم 22 سبتمبر سنويًا الاحتفال بـ “اليوم العالمي بدون سيارات”. ويهدف إلى التخفيف من انبعاث عوادم المركبات وإبراز ضرورة حماية البيئة، حيث يعد إحدى أبرز آليات الأمم المتحدة لتعزيز الوعي العالمي فى هذا الشأن. ويعتبر هذا اليوم منبرًا عالميًا للتوعية بقضايا البيئة فى العديد من دول […]
الدراجات الهوائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة