أدب الرحلة و أدبُ الرَّحِيل…
أدب الرحلة طبقُ معرفة يغري كلّ قارئ متأمّل للتراث الحضاري، ممتع التذوّق كوكتاليّ المحتوى: يضمّ عديد النّماذج المختلفة لثقافة الإنسان وما اكتسبه في بيئته حيث ارتحل وحيث حلّ وأقام.
ربّما يكون هذا الوصفُ الأفضل والأكثر تعبيرًا والأنسبُ في المعنى حين يتحدّثُ الكاتب الرحّالة في ما يدوّنه عن ترابطِ بين المجتمعات وتأثُّرها بعاداتِ وبإنتاجِ فِكر بعضِها البعض، فيحصُل بذلك تَلاقُحِ وتداخل وتلاحق وتشابكٌ للحضارات واشتباك متبادل لثقافاتها المتحفّزة للنفاذ وتهجين لأنماط العيش المستحدث بمفعول قانون الإثارة والاستجابة ولو كان ذلك بنسب تتفاوت حسبَ قابليّة الترحيب أو الصدّ.
أدبِ الرِّحلةِ أهم مادّةٌ خصبةٌ تتيح لكلِّ باحث مهتم بالصيرورة [1]نشأ مصطلح الصيرورة في شرق اليونان القديمة، في القرن السادس ق.م. فقد كان الفيلسوف اليوناني هرقليطس هو أول من … Continue reading التاريخية بمعنى التّحوّل النوعي لحيثيّات الحياة المتحرّكة، والتطوّرات السِّياسيّة الحاصلة، وتفاعلات الحياة الاجتماعيّة النّاتجة عما يحدث رقيّا وانحدارًا مجال استقراء واستنتاج، يرصد من خلاله آثارُ التَّمايُزِ والتَّأثّرِ والتَّأثيرِ بين الحَضاراتِ والشُّعوبِ. وما تتركه تلك النّتائج من بصمة على الإرث الحضاري الإنساني عامّة.
أدبُ الرِّحلةِ من زاوية نظر أخرى نمط كتابة فنّيّة نثريّة قديمة يغري القارئ. كان اعتمده طلاّبُ المعرفة وعشّاقها سابقًا، وتكبَّدوا لأجل امتلاكه مشاقّ الأسفار المرهقة وأخطارها الكثيرة: فقد كانت وَسيلَةَ طَلَبِ العِلمِ الأمينة من صُدورِ أهلِه دون وسيط قد يشوّه روحه، ومِعيارَ الحُكمِ العادل على أهْليَّةِ العالِمِ وكفاءَتِه في بسط ما يحتكم عليه من معرفة. فكانت الرّحلةُ وسيلةَ التَّعرُّف إلى مَواطِنِ البَشَرِ الّتي عمّروها وإلى اختِلافِ ثقافاتِهم الّتي طبعت أساليب حياتهم، والحَضاراتِ ّالتي يَنحدِرون منها ويَنتمون إليها ومدى تجذّرهم بهوية الانتماء لها واستعدادهم لحماية مقوّمات بقائها.
أدب الرحلة خيالُ روحٍ أيضًا
هذا عن الرّحلات التقليديّة الحسيّة، أمّا الرّحلات الأخرى فخياليّة ذّهنيّة هي أقرب إلى تلك الرّحلات التي يقوم بها المُتَصوِّفة فينفصلون عن كلّ ملموس، فيصعدون في أثنائها إلى عالمٍ سماويٍّ متسم بالصفاء من أدران الجسد ينشدون فيه للذّات المنعتقة القُرْبَ والوِصالَ والسَّلام الّذي تهفو إليه لترتاح وتنعم بالسّكون.
وبصرف النّظر عن نوع الرِّحلات التي وثّقها الأدب في الكتبِ كتراث فكريّ باهر. فإنَّها إرث لأرواحٍ نَوَتْ وسعت فَروتْ مَا شاهدتْ ودوَّنتْ ونَقَلت بأمانة ما وصَلنا وَ بعَث فيها رهبة السّؤال، لكن ماذا عن الّذي علينا الوفاء به؟ هل ما تزال ثمّة رحلات تستحقّ ترجمة أدب الحاضر لها؟ لعلّ رحلاتنا إلى سواكن النَّفسِ نعرّيها لنفهما فنقوّمها لدفعها ولَفّها بأمان السّبيل لقَويم.
أدب الرّحيل وجعٌ لا يرحل
أمّا عنْ أدب الرّحيلِ فطبقٌ مؤلمُ المذاقِ يختلفُ أشدّ الاختلاف عن سابقه كَينُونةَ وَ وقْعًا. فإن كانت الرّحلة بِعَوْدٍ واستمتاع وغنيمة فالرَّحِيلُ بِدُونه غالبا ما يكون إلّا من وجع.
إذ يرحل المُفْتَقدُ في جسده ولكنَّه في غالبِ الأحيان يُخلّف وراءه الذَّاكرة موشومة على جدار ذهن كلّ من لم يبلغ نهاية الرّحلة، تلك التي تأبى إلّا أن تبقى في المحطّة التي شعرت فيها بالرّاحة والأمان. وليس أكثر فيضانا حسيّا في الكتابة ممّا يكتب على الرّحيل الغير منتظر. إذ كيف للإنسان أن يقدر على اعتياد رحيل من اختارهم القدر فغيّبهم قهرًا ليعلّم أحبّتهم سُوء الفقدِ قصرًا. الفاقد هو الّذي لا يقدر على نسيان الأحياء الّذين يطمئن عليهم في كلّ حين، فما بالك برحيل “الميتين”؟!
صفعة الدرس
الرّحيل في كلّ الحالات هو الصفعة الأقوى التي يتلقّاها الإنسان طيلة حياته، ومن المستحيل أن يعود بعدها كما كان سابقا. إنّنا ننتبه لمرارة الغياب حين نفقد من لم نشبع منه ولعلّ ذلك أسوأ ما فينا كبشر يتعلّم بعد التجربة فلا يستفيد..
عامر علي إبراهيم
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
عامر علي ابراهيم من الجمهورية التونسية. تخرج من المدرسة العليا للعلوم والتقنيات بتونس متحصلًا على الأستاذية في الهندسة الكهربائية، واختار مجال التعليم كمهنة، لكنه لم يُهمل غرامه بالحقل الأدبي. له إنتاجات لا تزال في انتظار النشر.
الملاحظات أو المصادر