“أزمة” منتصف العمر لدى الرجل، والمرأة

مرحلة منتصف العمر أو ما يعرف بـ “سن اليأس” (وهو توصيف غير مستساغ) مرحلة ليست قاصرة فقط علي المرأة بل يشاركها الرجل في التعرض لتغيرات جسمية وبيولوجية ونفسية. فما هي خصائص هذه المرحلة الهامة من مراحل حياة الإنسان، وأعراضها، ومشكلاتها؟ وما هي سبل التعامل السليم معها كي تمر بسلام وأمل، دون يأس أو ألم؟

سن اليأس
The Guardian

يقول الله تعالى:”اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ” (الروم: 54). إنها مراحل متداخلة ـ مهد، فطفولة، فشباب، فرجولة، فشيخوخة ـ قدرها العليم الخبير سبحانه وتعالn. ومع الارتفاع النسبي لمتوسط عمر الإنسان (76 – 83 عاما بحلول عام 2050) تعتبر مرحلة ما بعد سن الأربعين منعطفاً هاماً ومؤثراً في حياة الرجل والمرأة في آن. إنها مرحلة تطفو فيها تساؤلات وتقويمات لما كان وما بقي: هل سأعيش بقدر ما عشت؟، إلى أي مدى حققت ما كنت أصبو إليه؟ هل أنا سعيد حقاً؟ وهل أنا راض عن نفسي وأسلوبي في الحياة؟

إنها وقفة لإلتقاط الأنفاس في “مرحلة الأشد”، وإعادة الحسابات، وبدأ رحلة جديدة علي طريق شكر نعم الله تعالى، والعمل الصالح، وإتمام إصلاح الذرية، والتوبة والأوبة والإنابة، وإسلام الوجه لله رب العالمين. وقد خصها الله جل جلاله بالذكر: “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” (الأحقاف: 15).

ملامح “خريف العمر” عند الرجل – سن اليأس

  • تقويم عقلي وفكري لما مر من السنين، وجني ثمار ما تحقق من إنجازات، وغض الطرف عما يصعب/ لا يمكن تحقيقه. قال الشاعر:

خذ من شبابك قبل الموت والهرم ** وبــــادر التوب قبل الفوت والندم.
واعـــلم بأنك مجــزئ ومــــرتهن *** وراقـــب الله واحـذر زلة القـدم.

  • تغيرات نفسية وفسيولوجية وبدنية لكن ليست مفاجئة بل تدريجية. مع ظهور توتر انفعالي، وتراجع الرغبة في تعلم الجديد، وخمول، وسمنة، وشعور بالرغبة في الوحدة.
  • ضعف في القدرات الجنسية. نقص طفيف في معدل إفراز هرمون التستوستيرون. وقد يحدث تضخم في غدة البروستاتا.
  • التخفف من تبعات الأبوة.
  • التخفف من تبعات الأعمال التنافسية الحياتية.. في العمل/ التجارة / العائلة/ البيت الخ.
  • الإستعداد النفسي لمرحلة التقاعد، وتعويض فقد أحد الأدوار بنشاط أكبر في أدوار أخرى.
  • الشعور بمزيد من مظاهر الحرية لتخففه من كثير من الأعباء.
  • فرصة لمزيد من التعبير عن الذات.
إقرأ أيضاً:  الولادة طبيعية أم قيصرية؟

مساحة إعلانية


سمات منتصف العمر عند المرأة (ما بين 45-50 عاما) – سن اليأس

  • ضعف وتوقف وظائف المبيض، ونقص الهرمونات الأنثوية (الاستروجين)، قلة وتباعد وتوقف الدورة الطمثية أو الشهرية، ونهاية مرحلة مقدرة المرأة علي الإنجاب. وقد يسبق كل ذلك حدوث أنزفة من الرحم.
  • هواجس متلاحقة “مُقلقة” بشأن المظهر الخارجي، وتغير ملامح الجمال، وسبل استمرار اهتمام الزوج.
  • تغيرات فسيولوجية ونفسية وجسدية.
  • التخفف من تبعات الأمومة.
  • شعور بالفراغ لإبتعاد الأولاد .. عملاً وزواجاً، وانشغال الزوج.
  • شعور بالقلق والصداع والغثيان وقلة ساعات النوم، وميل للسمنة.
  • توقف الخصوبة عند المرأة لا يمتد بصلة للنشاط الجنسي.

سبل التعامل السليم

يتباين تقبل الأشخاص لمظاهر وخصائص هذه المرحلة الهامة. كما يتباين إقترابهم معها.. فهماً وتعرفاً وتعاملاُ ووقاية وعلاجاً. علي اية حال فمن مطالب هذه المرحلة:

  • مرونة التقبل والتكيف وحسن التعايش من تغيرات هذه المرحلة، وبخاصة الفهم والتفاهم والتناغم بين الزوجين. فهما يكبران معا وسعبران هذه المرحلة معاً، لذا وجب هنا تنامي مشاعر الرحمة، كما كانت مشاعر المودة سائدة من قبل: “وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (الروم:21).
  • تحقق درجة من النجاح المعيشي والأسري والاجتماعي.
  • حسن الإستعداد لمرحلة التقاعد، واستثمارها إيجابياً.
  • المساعدة في أستمرارية بذل الجهد التربوي للأبناء والأحفاد.
  • تنمية الهوايات وشغل الأوقات بالواجبات والطاعات، وتنمية المشاركة المجتمعية.
  • الإعتدال في العادات الغذائية والصحية وممارسة الرياضات المناسبة.
  • الإهتمام بالفحص الصحي الدوري (كتخطيط القلب وفحص البروستاتا للرجال)، والوقوف علي مؤشرات هامة (كقياس مستويات سكر الدم، والكوليسترول والدهون الثلاثية الخ.
  • يجتاز معظم النساء والرجال هذه المرحلة دون علاج خصوصا إذا وجد من يساندهم نفسياً. وقد تكون المعالجات الهرمونية، بإشراف الأطباء، مفيدة لعلاج بعض الأعراض المصاحبة لأزمة منتصف العمر (مثل هشاشة العظام، وأمراض القلب والشرايين) التي يتعرض لها البعض بدرجة شديدة.
إقرأ أيضاً:  داء السكري

مساحة إعلانية


“إلحاح المقارنة”

يطفو “إلحاح المقارنة بأنواعها، مع ما كان ، وما هو كائن، ومع الغير” لذا تتزايد “إعلانات التجميل، وجراحاته، وطرق إعادة الشباب علي أحدث صرعات الموضة”. فهل باستطاعة مبضع جراح التجميل إطالة فترة الشباب الحقيقي، والجمال الناضر لدى النساء والرجال علي حد سواء؟ وهل يتحقق ذلك الجمال بالتركيز فقط علي شباب المظهر، و”التصابي”، ووسامة الهندام، وإبهار الثياب العصرية، وكثرة المساحيق التجميلية، وجمال التقاسيم الجسمية [1](راجع د. ناصر أحمد سنه: مع زيادة استهلاك مستحضرات التجميل..هل ازداد الاستقرار الأسري والاجتماعي؟”. مجلة … Continue reading. وأين الاهتمام المماثل بشباب الجوهر، والوعي والارتقاء بالذات، والرضا عنها، والتأقلم السليم مع مراحلها السوية، وجمال الروح، وامتلاء الوجدان، وارتياح البال، وهناء النفس، وروعة التجمل بالقيم الثقافية والإنسانية؟

في الختام

حين تتأمل حياة بعض من تخطوا مرحلة منتصف العمر بسلام وأمان، من مفكرين وعلماء ومبدعين تجد أنها حياة مليئة بالحركة والعطاء. حتى أن الواحد منهم ليبلغ نهاية عمره ولم يتوقف إنتاجه وعمله بعد. بل تفاجئ أنه كتب آخر مقالاته/ كتبه في ساعاته الأخيرة علي الحياة. وآخرين لا يزالون، تكاد أعمارهم تعجز غيرهم عن الجلوس لساعة متواصلة على كرسي، وهم لا يزالون يلقون الخطب ويشاركون في المؤتمرات ويحققون الانجازات التي تبقى ذكراهم حية لعقود عديدة. ولعل هؤلاء، وغيرهم، يتمثلون قول النبي صلى الله عليه وسلم: “اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك” (رواه ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه الحاكم 4/341، رقم 7846 وقال : صحيح على شرط الشيخين، والبيهقى فى شعب الإيمان 7/263 رقم 10248).

ولا يمكن إيقاف عقارب الساعة، أو إرجاعها للوراء. وما بعد الكمال إلا النقصان.. هذه سنة الحياة. فلنتقبل طبيعتنا، ومراحل نضجنا البشري، و”سيرنا” إلى الله تعالى. ولنسع السعي الجاد للقيام بواجباتنا وأداء الحقوق لأصحابها حتى آخر لحظات أعمارنا. وقال أحد السلف: “الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما”. ويبقى العمر الحقيقي المثمر ينبثق، ليس من جمال الشكل الخارجي للشخص، بل من جمال الشخصية المؤمنة، الصالحة المُصلحة خلال كل مراحلها. والتي تنمي ملكاتها وقدراتها ومواهبها، باعثة النشاط والإيجابية في كل من حولها.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

(سن اليأس)

إقرأ أيضاً:  قبل فوات الأوان


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 (راجع د. ناصر أحمد سنه: مع زيادة استهلاك مستحضرات التجميل..هل ازداد الاستقرار الأسري والاجتماعي؟”. مجلة الوعي الإسلامي: العدد:474، صفر 1426هـ ـ مارس/أبريل 2005م،ص 78ـ80، الكويت)
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

"أمير الشعراء الروس"، وقبسات من القرآن

الأثنين مايو 9 , 2022
تمت قراءته: 2٬133 “قبسات” أمير الشعراء الروس تقف شاهداً علي ملابسات عصرها، وظروف إبداعها، وتجسيدا لمدي النمو الفني والروحي للمجتمع الروسي. وهي نموذج يستثمر التنوع، ويستنير بالمشترك الثقافي الإنساني، مما يصب في صالح “حوار الحضارات، لا صدامها”. إن عبقرية “ألكسندر بوشكين” Pushkin .A (1799- 1837م) “أكبر فخر لروسيا، وشمس شعرها، […]
ألكسندر بوشكين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة