التفاوت البشري

يعدّ التّفاوت الإدراكي والشّعوري في الطّبيعة البشريّة من أبرز الحقائق وأكثرها جلاء وبيانا لكلّ شخص،فالتّمايز والاختلاف سنّة من سنن الطّبيعة،الّتي تندرج في حنايا كلّ نفس بشريّة.

التّفاوت الإدراكي والشّعوري
Quora

الحقيقة عندي خلاف للحقيقة عندك ،والجمال بالنّسبة لي يختلف عن الجمال بالنّسبة إليك،قد ترى الأحمر سيئا،ولونا كريها؛ قد تراه عنوانا للدّم المسفوك يدعو إلى الاشمئزاز والقرف أو أيّ سبب آخر،ولكن غيرك يراه من أحب الألوان وأفضلها؛ يرى فيه الثّورة، والإباء والشّمم والعزّة، ورمز البقاء الأبدي للأنفس والرٌقيّ.

قد تحب المأكولات الغربيّة الحديثة من بيتزا وشاروما وبرجر…وغيرك يكاد القيء يطلع إلى حلقومه بمجرد ذكر ذاك،ويحدث له مغص في الأفكار،وتشمئز نفسه.

قد تكون كلاسيكي تحب كلّ مايمت للكلاسيكية بصلة،في الملبس والأثاث المنزلي والآراء,وغيرك قد اتخم بالمفهوم الثّوّري حتّى بات يرى الكلاسيكية شكلا قديما, وأدراسا وأطلالا؛عفا عنها الزمن،تدعو للآسى والتّعب،وما عادت روح العصر تتقبّلها أو تميل إليها.

قد ترى مجموعة أشخاص ما لوحة فيها ما فيها من الألوان والجمال،ويكاد اللّونان الأحمر والأزرق يأخذان النّصيب الأوفر فيها،فيقول أحدهم: يالجمال هذه اللّوحة وهذا الازرقاق الجميل الّذي يخالج النّفس،ويحادثها ويهدئ من روعها ويسكّنها،بينما لا يرى أيّ من أجزاء اللّوحة المطليّة باللّون الأحمر،لعمى ألوان نصفي يصيبه.

فيقهقه الآخر،ويعلو صوت ضحكه ومن قوّة ذاك يكاد يسقط على الأرض،فيخاطب الأوّل: أين الأزرق ياهذا؟ لا وجود له. اللّوحة ليست إلّا مخضّبة بذاك اللّون القرمزي الأحمر،الّذي يناجي القلب والدّماء في الأوردة،ويستثيرها للاندفاع بكلّ حيويّة.

إقرأ أيضاً:  لا تبدّد حياتك خلف هدف

مساحة إعلانية


وبينما الثّالث منهم ينظر مدهوشا إليهم مشدوها،تجول الأفكار في خاطره،ياترى هل أصاب صديقيّ خطب ما؟ لا ألوان،لا جمال،ما أرى إلّا سوادا في سواد،ومعالم باهتة.
وينطق أخيرا: ما جرى لعينيكما،لا أرى أيّ لون، لستم إلّا تحلمون، وتغرقون في لجج أمواج الخيال.

وبينما أحد أولئك الرّفقة ،لاتكاد تختلف نظرته عن أقرانه،بل إنّه يرى كلّ شيء متزعزع،غير ثابت، بسبب ضعف النّظر،ولعلّة أصابته.

بينما آخر يرى اللّوحة بألوانها،وكلّ مافيها،ولكنّه لا يرى فيها أيّ جمال، وأيّ من هذا الخزعبلات حسب تصوّره واعتقاده،لأنّه يفتقد الملكة التّذوّقية؛ إنّه بصير العينين،أعمى البصيرة.

وهل نقول على أي من أولئك الأشخاص أنّه ليس على حقيقة،أو كاذب؟
لا،فكلّ قال ما رآه حقيقة،وأخبر عمّا استنبطه عقله،واندفعت به نفسه.

فرؤية اللّوحة بلونها الأزرق لا يعني إلّا نصف عمى، يحجب تمام الحقيقة عن المثول أمامه، وكذلك لايختلف الحال في من يرى اللّون الأحمر فقط.ومن لم ير أي من اللّونين مصاب بعمى كلّي للألوان تام في عينيه، وربما يرى عندما يدرك مواطن ضعفه، ويعالجها، ويعترف بذاك الجزء النّاقص والمحدودية الإدراكية، والقصور الإنساني.

تلك اللّوحة تكاد تكون مرآة لحياتنا وتشريح لواقعنا النّسبي وتجسيدا له؛ فالإنسان بطبعه لن يرى في أكثر الأحوال نصف الحقيقة -الّتي تعدّ أخطر من الجهل المطبق-، ولن يصل أحد إلى المدلول الحقيقي الذي تعنيه هذه اللّوحة أبدا، قد يصل البعض ممّن يوفّقون رؤى النّظر ويمزجون المتناقضات، ويوفّقون بينها إلى جزء كبير منها لكن ليس كلّها، وحتما سيتأثرون بإحدى الآراء الّتي ستنقل إلى عقلهم،وتخاطبه بمنطق العاطفة، فيكون صاحب النّصيب الأوفر من الكعكة، ممّا يحجب جزء كبير من الحقيقة.

قد نصل إلى جزء كبير من الحقيقة ونستبينها ، ونقارب المطلق عندما نؤمن أنّ فينا قصورا، وعندما نسعى لمعالجته، وعندما ندرك طبيعة النّقص البشري الإنسان، وأنّ البشر كلّهم يرون الحقيقة على أقرب استنتاج ويصوّرنها حسبما شاهدوا واستنتجوا، ولن تتحقّق الصورة الأقرب للمطلق في الأذهان وتثبت، إلاّ إن قدّم بعضنا بعض الجزء الذي بجعبته وصدق في اعطائه، وهذا شيء بعيد بسبب الغرور الإنساني وحب الاستئثار.

لذلك كتب النّقص والإدراك في معرفة الحقيقة وكنهها، مادامت الشّوائب والنّقائص تمتلئ بها النّفس البشرية والأقذاء تحيط بالعينين،وتعكّر من الرّؤية وتصعّبها، ولن نصل إلى شاطئ الحقيقة إلّا عندما ندركها ونتعقّلها،ونسلّم بطبيعة الاختلاف والتّمايز.

عبد الرّحمٰن محمّد الحدّاد

(التّفاوت الإدراكي والشّعوري)

إقرأ أيضاً:  مبادئ الفلسفة الائتمانية (فلسفة طه عبد الرحمن)


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

السلطانة راضية

الأربعاء يوليو 20 , 2022
تمت قراءته: 1٬087 الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وخص المرأة باللطف والتحمل والحنان، المرأة ذلك الكائن اللطيف؛ الذي أودعهُ الله أسرار الكون في الحب والحنان، والتي رفعت لها القبعات لدورها الفعال في المجتمع، فهي تربيّ أجيالا جديدة من الذكور والإناث؛ بهدف بناء مستقبل أفضل للوطن، فكانت هي […]
السلطانة راضية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة