“درّة الجبل، وعاصمة الأمراء، وبلدة الإصطياف، والفن المعماري”.. تنطق تاريخاً. فهي مُتحف تراثي عامر بشواهد التاريخ، ومعالم التراث، والعلامات الأثرية ذات الشهرة والجاذبية العربية، والعالمية. (“دير القمر”.. تاريخ ودُرر)
تقع في قضاء “الشوف” أحد أقضية محافظة “جبل لبنان” (واحدة من ثمان محافظات يتشكل منها لبنان الإداري). وتبعد حوالي 35 كلم عن العاصمة “بيروت”. وتصلها صعوداً (على ارتفاع نحو 850 متراً فوق سطح البحر) عبر الطريق المحاذية لمجرى نهر “الدامور”. وتمتد – بطبيعتها الخلابة، وينابيعها، وأحراش صنوبرها – على مساحة تُقدَّر بـ 752 هكتاراً. وإذا كان هذا امتدادها في الجغرافيا، فإن رسوخها في الزمان والتاريخ والعمارة أكبر وأعمق.
فعلى مدى أربعة قرون، كانت “دير القمر” المركز السياسي والاقتصادي والثقافي الأهم في جبل لبنان. وكانت مقر الإقامة الصيفي للأمراء أثناء حكمهم جبل لبنان. إذا جعلها “المعنيون” عاصمة حكمهم منذ عام 1518، وحتى انتهاء الحكم الشهابي عام 1843. وسكن فيها أول “متصرف” قبل انتقاله إلى “بيت الدين” صيفاَ، و”بعبدا” شتاءً. وبتاريخ 31 أغسطس 1864 أصبحت “دير القمر” البلدة الأولى في الجبل، ولديها مجلس بلدي. كما أنها من أوائل البلدات التي تملك نظام صرف صحي، وقامت برصف شوارعها وأزقتها بالحجر الصخري.
إنها حقبة متألقة من تاريخ لبنان أورثت الدير العديد من القصور والمنازل التراثية، والمآثر المعمارية الجميلة. عقد منظوم يتلألأ فيه: سراي الأمير “فخر الدين المعني الثاني”، وجامع الأمير “فخر الدين المعني الأول”، وسراي الأمير يوسف شهاب، وقصر “فؤاد إفرام البستاني”، و”قصر موسى”، وساحة الميدان، ومنزل “آل اسطفان نعمة”، وقاعة العمود، و”تلة الرام”، وكنيسة سيدة التلة، وعين “أم نقولا”، وضريح القبة، وسوق القيصرية (أو خان الحرير)، وأسواق الاسكافيين، والحدادين، والنجارين، والصباغين الخ. كلها، وغيرها، منحت “دير القمر” ألقابها المتعددة. وباتت محطة أساس من المحطات السياحية والحضارية في لبنان.
واليوم.. يحتضن سراي الأمير “فخر الدين المعني الثاني”، متحف “ماري باز”. ويحوي أكثر من سبعين تمثالاً من الشمع لأبرز الشخصيات اللبنانية والعالمية. ومنها تماثيل للأمير “فخر الدين المعني”، والشاعر الفرنسي الكبير “لامارتين”، إضافة إلى رؤساء وشخصيات سياسية لبنانية، وأخرى لوجوه فنية أمثال “ماجدة الرومي”. وكانت آخر الشخصيات المنضمة إلي أعمال المتحف تخص الرؤساء اللبنانيين “إلياس الهراوي”، والجنرال “إميل لحود”، والرئيس “رفيق الحريري”، و”نبيه بري”. أما كلفة صناعة تمثال واحد فتبلغ حوالي عشرين ألف دولار، يتناوب على العمل فيه لمدة تزيد عن خمسة أسابيع فريق عمل يعمل أفراده أيضاً في متحف الشمع الفرنسي. ويستطيع الزوار دخول المتحف يومياً من العاشرة صباحاً حتى الخامسة بعد الظهر.
مساحة إعلانية
ويروي قصر “فؤاد إفرام البستاني” حكاية “آل البستاني” في عالم الأدب والثقافة.. لغة، وشعراَ. حيث كان “نجيب وكرم وفؤاد إفرام البستاني، من رجالات اللغة العربية، وفحولها. تركوا إنتاجاًَ غزيراَ من المؤلفات ومكتبة كبيرة. أما “قصر موسى”، فبدأ في تشييده “المعلم” “موسى” المعماري عام 1962. وهو عبارة عن قلعة يحيطها سور، وتسكن غرف القصر شخصيات منحوتة تمثل عائلات لبنانية ريفية. فهو يضم أكثر من 150 تمثالاً متحركاً تمثل التراث اللبناني الأصيل الذي اختار المعماري تجسيده لحفظه علي كر السنين؟ كما يضم تماثيل أخرى تصور “نابوليون”، والجنرال “ديغول” وغيرهما. كما يضم القصر قطعاً أثرية يعود بعضها إلى القرن السادس عشر، وقطع من السلاح تعود إلى الحرب الأهلية الأميركية.
وتتوسط “ساحة الميدان” بركة ماء مستديرة تتغذى من نبع الشالوط، وبنيت في القرن التاسع عشر في فترة حكم المتصرفية. وهذه الساحة هي الرئيسة في البلدة. حيث تشهد الكثير من المهرجانات الفنية والاحتفالات السنوية (صيفيات دير القمر). وتعرف اليوم بـ “ساحة داني كميل شمعون”، ابن “دير القمر” الذي قضى اغتيالاً مع زوجته وولديه غداة انتهاء الحرب اللبنانية. وكانت البلدة قد أخرجت رجالاًً عظامًا، فكان هناك المشرعون، والقضاة، والسياسيين، والأدباء، والمؤرخون، والأطباء، والمهندسون الخ. وتبوّأ هؤلاء أعلى المراكز الإدارية، ومن أشهر رجالات “دير القمر” رئيس الجمهورية اللبناني الأسبق “كميل شمعون”.
وتقام معارض البلدة ومناسباتها الثقافية (غالباً ما ينظمها المركز الثقافي الفرنسي) فتقام في سوق القيصرية أو “خان الحرير” (بني عام 1595). وهي سوق شعبي مُخصص لتجارة الحلي والحرير. كما يرجع تاريح “سوق السكافي” إلى القرن السادس عشر. وهو يتألف من ثمانية وثلاثين محلاً للسكافين يعمل فيها نحو مائتي حرفي. واشتهرت البلدة بزراعة التوت لتربية دود القز، وزراعة القمح والشعير، والخضروات. وقد استعملت “القيصرية”، و”ساحة الميدان” في أكثر من كليب غنائي مصور بينها أغنية “فينو” لهشام عباس، وآخر خاص بتلفزيون الـ”ال. بي. سي”.
وقرب بركة الساحة، يوجد مسجد الأمير “فخر الدين” الذي يعود تاريخ تشييده إلى القرن السادس عشر. مسجد متميز بأناقة بنائه، ويضم مئذنة ثمانية الأضلاع، يتم الصعود إليها عبر سلم مؤلف من خمسين درجة حجرية. وداخل المسجد رسوم هندسية. كما تضم “دير القمر” عدة أضرحة أشهرها “ضريح القبة” حيث يرقد الأمراء “أحمد معن” (1697)، و”وحيد شهاب” (1732)، وابنه “منصور” (1770). والضريح بناء مربع بقياس ستة أمتار من كل جانب، وبإرتفاع خمسة أمتار تعلوه قبة من عهد المعنيين. ومع ضريحين من الرخام الأبيض والرمادي وهما في علو متر ونصف المتر.
وتضم بلدة دير القمر ست كنائس: “مار جرجس”، و”سيدة النجاة”، و”سيدة الفقيرة”، و”مار إلياس”، و”الوردية”، و”سيدة التلة”. وهذه الاخيرة من أهمهم ويؤمها الزوار من مختلف بقاع الأرض. وفيها كانت أول مدرسة أقامها الرهبان الجليلييون. كما توجد الجامعة اللبنانية (الفرع الرابع)، وجامعة اللويزة.
وتنتشر في “دير القمر” المطاعم والمقاهي حيث تحلو الجلسات على ضفاف نبع الشالوط. ويتجمع المصطافين والسياح وأهل البلدة لقضاء اوقات جميلة .. نهاراً، وليلاً. ومن أهم مطاعمها: “القمري”، و”سراي البيك” و”استراحة عين أوريث”، و”مقهى الميدان”، و”مطعم الكردينيا”، إضافة لمطاعم أخرى تقع في أول البلدة وعلى تلالها المطلة على منطقة الشوف بأكملها. وتنتشر “حرفة الارتيزانا”. ففي أغلب المنازل، وأمام المحال تطرز/ تزركش السيدات قماش “الدانيتل بريتان”. حيث يملأ بالخيوط الملونة وبأشكال ورسوم رائعة. إنها حرفة “الصبر والمثابرة” نقلتها “زهية سعد” من مصر عام 1840.
الحفاظ على هذا التراث – دير القمر
إنه إرث ساحر. وحده الجمال يستوقفك لترتشف كأس الحضارة، وتتنسم عبق منبعث من “بستان التاريخ”.
ومن أجل الحفاظ على هذا التراث، تمّ تصنيف بعض المباني والأنسجة التاريخية التقليدية في دير القمر رسمياً. كما أن ملف إدراج الأجزاء التراثية في البلدة على لائحة التراث العالمي قد قطع شوطاً مهماً وشارف نهايته. وللمحافظة على تراث دير القمر، تعتمد بلديتها “التدقيق التراثي” في طلبات رخص البناء والترميم. وخصوصاً من النواحي المعمارية الجمالية، وحسن الإندماج مع الموقع. لذلك تصرّ علي إرفاق الرخصة بملف تصويري خارجي وداخلي للبناء المراد ترميمه، وتعتمد تدابير أخرى تتعلق بالمواد المستعملة في الترميم، وبمراعاة المقاييس المعمارية والتراثية والجمالية.
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
(دير القمر)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.