الضمير
الضمير هو ما يجعل الإنسان واقفًا على الخط الفاصل بين الخطأ والصواب، وبين المقبول واللا مقبول، وكذلك بين الحق والباطل، في ظل مكتسبات ومبادئ لا يمكن التنازل عنها، وتعتبر خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها في معاملاتنا وتعاملاتنا اليومية. وكل خلاف مع هذه المبادئ، يعتبر صراعًا بين الأخلاق والقيم، ويخلف شعورًا بالندم.
ولكن السؤال المطروح هو: هل يمتلك الجميع هذا الضمير الذي يعتبر محور التقاطع بين الخير والشر في حياتنا؟ أم أن البعض يمتلكه، والبعض الآخر عطله ليطلق العنان كاملًا لتصرفاته دون لجام يحكمها؟
الضمير المنفصل
فعندما ينفصل الضمير عن الإنسانية ويتم تعطيله، فإننا نفقد مكونًا مهمًا وأساسيًا من مكونات الأخلاق والقيم. حتى إن كنا مثقفين، فالثقافة في غياب الضمير جهل؛ وغيابه في الدين تضليل؛ وفي العدالة ظلم وقهر …إلخ.
فالمثقف بدون ضمير يفسد جيلًا بأكمله، والعالِم بدونه يُضِلّ أمة بأكملها، وكذلك القاضي بدونه سيُفسِد العدالة وينشر الظلم بين العباد.
إذن معيار الضمير ليس بالمستوى الدراسي أو الاجتماعي، وإنما بالمقياس الأخلاقي الذي يُراعي الآخر، بما يحفظ كرامته وحقوقه، ويصون عزة نفسه؛ لكون الإنسان اجتماعيًا بطبعه وطبيعته. وكل أمر يضر المجتمع أو جزءًا من أفراده، فهو ناتج عن ضمير ميت، لأن من يسعى إلى هدم المجتمع أو الأفراد أو الإضرار بالبيئة والمحيط، فلا ضمير له. أما من يسعى للبناء والحفاظ على البيئة الإنسانية والمجتمعية دون أن يلحق الضرر بأحد، فضميره حي، ويريد من خلاله إحياء من حوله ولو بكلمة طيبة أو ابتسامة. لأن الابتسامة في وجه أخيك صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، كما جاء في مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة. أما أن يكون ضميرك ميتًا، فأنت تسعى إلى التخريب ونشر الشر والحقد بين الناس.
سوق البشرية
ولكن الغريب أننا أصبحنا نفتقد لأصحاب الضمائر الحية، وأصبحت الميتة منها مطلوبة وبشدة داخل سوق البشرية، بل ويزداد الطلب عليها يومًا بعد آخر. لأنه لا أحد منا تقريبًا سوى القليل من القلة يسعى للحفاظ على ضميره حيًا، حتى وإن أوجعه بين الفينة والأخرى نتيجة تعطيله مرة أو مرتين في الحياة في مرحلة طيش من المراحل، ومن أجل مصلحة من المصالح؛ ليظل هذا الوجع يذكره بأن ما قام به خطأ ولا يمكن تكراره وإن أمكن إصلاحه.
في حين أن هناك من يبيع ضميره بصفة نهائية ليتخلص من الأوجاع، وحتى لا ينغص عليه ضمير الحياة؛ لكونه باعه أكثر من مرة بدعوى الضرورات تبيح المحظورات. وباستمراره في هذا النهج، وسعيًا لمصالحه على حساب الغير، فسيكون مصير ضميره غرفة الإنعاش، وبالتالي أصابته بسكتة دماغية يصعب علاجها. لأن الاستمرار في الخطأ رغم علمنا المسبق بأنه مجانب للصواب يعتبر قتلًا مع سبق الإصرار والترصد في حقه؛ خصوصًا أن هذا الأخير يعرف انقراضًا واسعًا، ويحتاج إلى محميات تربوية وفكرية وأخلاقية.
لذا فالعديد من الأشخاص أصبحوا يحبذون شراء الضمير الميت، أو الإجهاز على ضميرهم الحي، حتى لا يقف حجر عثرة بينهم وبين ما يعتقدون أنه نجاح، حتى ولو كان ذلك على حساب الكثير من الضحايا، أو على حساب مجتمع بأكمله. فهم لا يعيرون ذلك أدنى اهتمام، ولا يحرك فيهم ساكنًا، لأن الآلة الرقابية على تصرفاتهم معطلة وميتة، ولا تمارس مهامها؛ وأقصد بها الضمير. وبدلًا عن أن ينعشوا ما تبقى منه ليذكرهم بأخطائهم ليتعظوا منها، فإنهم يُجهزون عليه بصفة نهائية، أو يبيعون ما تبقى منه لمن يرغب في شراءه.
المزاد العلني
ومن هنا، يتضح أن قتل الضمير أو بيعه، يكون صعبًا لدى البعض، وسهلًا لدى الآخر. كما أن لكل ضمير ثمنه وقيمته الاعتبارية؛ لأن الأمر برمته تتحكم فيه وسائل الإقناع ونوع المصالح. فهناك من يبيع ضميره من أجل سيجارة وكوب قهوة، وهناك من يبيعه مقابل ترقية أو منصب، وهناك من يبيعه لأجل المال وتحسين الوضعية؛ المهم أن لكل ضمير سعره في المزاد العلني. وذلك حسب كل فرد ومدى استعداده والمصلحة التي تأتي بعد البيع. إذن الطمع هو من يجعل الإنسان يبيع كل شيء على حساب كل شيء، حتى وإن كان الضمير والشرف من ضمن هذه الأشياء.
الضمير الحي
ليبقى الضمير الحي هو العملة النادرة في هذا العصر، في ظل انتشار الضمائر الميتة. وهو الخيط الرفيع الذي يفصل بين الشعور بالندم والاتفاق مع الأخلاق والتصالح مع الذات، لخلق توازن يضمن الثقة بين الأفراد ويحمي المجتمع والقيم من الانهيار. وبه سنضمن الحقوق، وتكون المساواة والعدالة الاجتماعية. وإن مات، فستصبح الحياة صحراءً قاحلة، يأكل قويها ضعيفها ويُقهر المظلوم فيها، وتُغتصب الحقوق وتُسلب الحريات بها. فبدون تحكيم للضمير، لا يوجد قانون ولا عدالة ولا إنصاف، لأنه يبقى بمثابة الشُرطي الحقيقي الذي يمنعك من ارتكاب الخطأ، ويرشدك الطريق الصحيح، ويعلمك احترام الآخر. فلا تقتل ضميرك من أجل مصلحتك على حساب الآخرين، ولا تجعل منه سلعة لمن يدفع أكثر.
مع تحيات
سعيد لقراشي
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
تخرج سعيد لقراشي من الثالثة ثانوي بالمغرب. حاصل على دبلوم المحاسبة. كاتب سيناريو لمجموعة من الأفلام القصيرة عرضت على قنوات اليوتيوب. شارك في بعضها كممثل كما يعمل كمراسل لمجموعة من المواقع الإلكترونية.