العملية القياسية “Standard Operation/Process” في موقف حافلات باليابان!

من المشاهدات التي توقفت عندها أثناء إحدى زياراتي السابقة لدولة اليابان وكانت تستحق التأمل والدراسة:

كنت ذات يوم جالسًا بقرب موقف حافلات، ورأيت حافلة بعد عودتها من رحلتها، تحاول الاصطفاف “تركن” بجانب بقية الحافلات. قام السائق بالاصطفاف خلال ثوان فقط في موضع محدد، ورغم أن الموقف لم يأخذ حتى دقيقة إلا أنه مثال ممتاز لإيضاح “العملية القياسية” أو ما تعرف بالـ Standard Operation أو Standard Process.

العملية القياسية
天保山大型駐車場

في البداية: معنى العملية القياسية الأدق Standard Operation أم Standard Process؟

وللإجابة على هذا السؤال، لابد من توضيح الفارق بين كلمتيّ Operation و Process أولًا [1]ورقة بعنوان: Process versus Operation للكاتب Michael Stickler (إضغط هنا)

  • Operation تعني نشاط أو أنشطة -في حالة الجمع- يتم إجراؤها على منتج أو خدمة بواسطة آلة أو شخص واحد.
  • Process هي سلسلة متتابعة من العمليات Operations تتكون من: (أشخاص، وآلات، وخامات، وطُرُقْ) لتصميم وتصنيع وتسليم منتج أو خدمة

في القصة المذكورة في أول المقالة يعتبر الوصف الأدق لهذه العملية القياسية: Standard Operation لأنه سائق واحد وحافلة واحدة. أما Standard Process فهي مناسبة أكثر لخطوط الإنتاج بالمصانع وغيرها.

العملية القياسية ومحاولة الاصطفاف بالحافلة

إستكمالًا لقصة سائق الحافلة، أنك إذا وقفت ذات يوم في أي محطة حافلات ستجد خطوط باللون الأبيض على الأرض تُحدد مكان توقف واصطفاف كل حافلة بطريقة هندسية معينة (مثال الصورة بالأعلى)، بحيث يتم اصطفاف أكبر عدد ممكن من الحافلات بدون أي مشاكل في عملية الاصطفاف أو هادر في الأرض (إستغلال المساحة إلى الحد الأقصى).

عملية التخطيط في حد ذاتها هي إحدى طرق 5S وهي طريقة يابانية خاصة بالتنظيم والنظافة (سأتعرض لها بشكل منفصل في مقالة قادمة إن شاء الله).

كان يدور في ذهني وقتها أن هذه “الركنة معمولة بالمقاس!” بمعنى آخر ضيقة وصعبة جدًا بالنسبة لسائق الحافلة أنه يصطف بظهر الحافلة في وسط المستطيل الأبيض الضيق جدًا، وتخيلت أن سائقي الحافلات اليابانية “عفاريت” بمعنى أنهم مهرة للغاية.

قررت الإنتظار ومراقبة عملية اصطفاف الحافلة القادمة، وحينما أتت لاحظت أن السائق ينفذ تعليمات يحفظها عن ظهر قلب. فقد توقف بطريقة معينة ورجع بالحافلة رويدًا بسرعة مُحددة مع لف عجلة القيادة عدد لفات معين لليمين ثم عدد لفات معين لليسار وهكذا، بدون حتى أن يحتاج إلى المكابح!

لاحظت أنه ينفذ خطوات ثابتة ومدروسة حتى إصطفت الحافلة “بالمللي”!

التوحيد القياسي Standardization

جذبني الموضوع أكثر، وقررت أن أنتظر لكي ألاحظ الحافلات القادمة، وبدأت في قياس الوقت. وكما توقعت أن الطريقة ثابتة والوقت شبه ثابت!

هذه الطريقة تدعى “التوحيد القياسي” أو Standardization، وعملية الاصطفاف هذه هي بالتالي Standard Operation أو عملية قياسية، وفيها خطوات ثابتة محفوظة.

يجب إتباع هذه الطريقة في حالة أنك تريد عمل عملية معينة بشكل متكرر ونمطي، وتريد أن تحافظ على نفس النتيجة في كل مرة.

هذه الطريقة نستخدمها كثيرًا في الصناعة، ومثال على ذلك في صناعة السيارات يكون إعتمادنا على التوحيد القياسي من خلال العمليات القياسية، لكي لا يكون هناك مجال للإجتهاد وبالتالي العشوائية.

حينها تجد منتج بشكل ما مرة، وفي مرة أخرى تجد المنتج له شكل مختلف أو جودة مختلفة، رغم أن مواصفة المنتج المفترض أنها واحدة!

هل العملية القياسية تقتل روح الإبداع؟

الطريقة القياسية ليست قتلًا لروح الإبداع لأن هذه الطريقة تُستخدم -كما أوضحت آنفًا- مع العمليات النمطية المتكررة والتي أريد أن آخذ منها نفس النتيجة كل مرة حسب المواصفة الثابتة للمنتج أو الخدمة. بالإضافة لإمكانية التحسين المستمر وكما يسميها اليابانيين KAIZEN وبالتالي العملية الإنتاجية ليست قالبًا جامدًا، بل هي دومًا تحتاج إلى التحسين والتطوير من أشخاص مفكرين ومبدعين.

من سلبيات العملية القياسية أن الإنتاج يكون بلا روح وممل بالنسبة للعامل -وهذه النقاط لها حلول- لكن إيجابياتها كثيرة مثلما ذكرت.

هل العملية القياسية في الصناعة فقط؟

ما لفتني فعلًا، أن التوحيد القياسي في اليابان لا يستخدم في نطاق الصناعة فقط، ولكنهم يعملون به في كافة مناحي الحياة بقدر الإمكان، وبالتالي الحياة منظمة وخالية من العشوائية. والنتيجة: أفضل النتائج بأقل تكلفة ووقت ومجهود.

هل التوحيد القياسي مهم إلى هذه الدرجة؟

لإيضاح أهمية التوحيد القياسي من خلال العملية القياسية، سوف أضرب نفس المثال ولكن العكس! وذلك لأن التضاد يقوي المعنى ويوضحه.

سائق حافلة يصل المحطة.. تقدم بالحافلة ثم رجع مرة أخرى.. ظل يضبط “الركنة” في 10 دقائق -مثلًا- لكن يقف في النهاية وسط المستطيل الأبيض بالضبط.

أو من الممكن أن “يركن” في دقيقة واحدة، ولكن بدون الإلتزام بالعلامات، ويضايق أحد زملاؤه كان يريد التحرك بعدها ولم يتمكن لأنه سدّ عليه الطريق بطريقة وقوف الحافلة العشوائية.

مثال آخر لكي أبين أهمية الموضوع وأن بعضنا يعمل به بالفعل: هو “الطبخ!”

أليست دائمًا كل طبخة تكون لها وصفة فيها الخطوات والمقادير بالضبط للحصول على نفس “الطعم” كل مرة؟

إذًا الموضوع عبارة عن “وصفة”. وهذه وصفة من وصفات نجاح اليابان!

وللحديث بقية إن شاء الله..

 

إقرأ أيضاً:  العلامة التجارية - أهم 22 قانونًا لتمييز علامتك التجارية - Branding


أطيب التحايا،
محمد أبوجادالله
#أبوجادالله_يكتب


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



الكاتب مسئول عن كتاباته على منصة المقالة.

مساحة إعلانية

الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 ورقة بعنوان: Process versus Operation للكاتب Michael Stickler (إضغط هنا)
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

الوسائد الهوائية (اﻹيرباج): لماذا لم تنطلق في الحادث؟!

الخميس أبريل 22 , 2021
تمت قراءته: 2٬154 شفنا من كام يوم بوست منتشر على فيسبوك لواحد كان سايق عربيته وعمل حادثة واشتكى ان الوسائد الهوائية -Airbags أو الاسم الشائع “اﻹيرباج”- مافتحتش و ده أدى لإصابات بدنية جسيمة عنده (شافاه الله و عافاه من كل سوء). أنا مش عارف ايه السيناريو اللي حصل بالظبط معاه […]
وسادة هوائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة