سيمولوجيا الحياة: عتمة ينيرها القدر

سيمولوجيا الحياة [1]علم العلامات – ويكيبيديا : عتمة ينيرها القدر

استيقظ من نومه في الساعة الثامنة صباحًا، تجول في شوارع اليوتيوب، ومنصات الفيسبوك وقنوات التويتر، صادف أغنية من الزمن الجميل. سمعها وهو يحاول استرداد مشاعر ذكرى الطفولة التي تلوح في أفق استيعابه الممكن.

سيمولوجيا الحياة
iStock

حنين قاتل وذكريات أرهقها الزمن، شغف متواصل، أشخاص تفرقوا، ماتوا، تغيروا، غادروا. شوق ممزق لصدى الطفولة ودمى الطين ورائحة المطر وعطر المزرعة، رائحة الجدة ماما، ورغيف الخبز وسنابل القمح بأعناقها الملوية. بدأ يرسمها في الذاكرة ويعيد تشكيلها بألوان منسية، وفجأة انتابته موجة سحر عن حياتنا في الصغر، عن حجم الشمس والقمر، عن ارتفاع النجوم وطول النهر.

وتساءل:

هل ما زال المطر يعزف أنشودته على أوراق الشجر؟ وكيف للصيف أن يحمل كل تلك المسرات ومرح الطفولة؟ كيف تكف الروح عن الإقامة في الزمن، وما نحن إلا مسافرون على أرض مرتجلة مع قوم رحل، إنه سفر اللاعودة. نشتاق فيه ذاتنا في مدينة الدنيا وليل السديم. (سيمولوجيا الحياة)

لا نذكر شيئا سوى أننا فتحنا باب الوجود فدخلنا كل هذه الأيام الغير مفهومة. فنحن فراغ لا يملؤنا إلا القدر، نحن عتمة لا ينيرها إلا الإيمان، فمنذ وُلدنا وجدنا أنفسنا نطوف قسرًا مع الزمن. نتيه في لجة الوجود، تحملنا قصائد الشوق، وما بين وبين نحن نموت دون رجعة إلى عتبات المقابر فهي راحتنا في النهاية، فهناك سنلتقي مع ذواتنا مع من نحب دون أقنعة عندها لا نحتاج الى شاهد العين، سيأخذنا الحب إلى حيث السعادة الأبدية. إلى تلك الغاية التي لم نخلق إلا لأجلها.

حين أتذكر تفاصيل حياة “الجدة ماما” أشارك ذلك العالم، أحس بتلك المثل البريئة، كأنها وجد روح يغمرنا بالسعادة، أتذكرها تحكي لنا قصة القبض على اللحظة الهاربة من عمرنا في ميزان برج الجدي، أشم عبيرها الباقي كمسك يصوغ في الذاكرة. كانت “الجدة ماما” كأنها الكون تحكي قصة الزمن اللعوب. أتراه كان حلما أن أنثر مشاعري المبعثرة على أوراق زمنك الجميل، أي حياة تلك التي كانت. في مكان ما وزمان. يضحكنا ويبكينا ما تختزنه تلك الذاكرة من حياة جدتنا الأم!

للأسف ضاقت مساحة التعبير والكتابة هنا لشدة ضوء الحقيقة. ضاقت مع اتساع المعنى وبقايا ذكريات. ولأني أقطر روحي هنا لا أحتج أبدًا على ديمومة [2]دَيْمومَةُ: دَوامُهُ وَاسْتِمْرارُهُ. قاموس المعاني الحياة وهي تراهن على غير توقعاتنا والآمال. كأنها البارحة وليس قبل سنوات. أليست مدهشة ومذهلة هبة الله أن يمنحنا هذه الذكرى الجميلة التي تحرك في داخلنا مشاعر لا توصف، تحرك فينا كل العواطف النبيلة التي تستخرج ما في اعماقنا من ينابيع الحب والرحمة، بل وسائر القيم الانسانية التي لم نقرأها في قاموس أفلاطون ولا حتى أرسطو. فشكرًا لك والثناء وانت تواسينا كل هذا الانتظار.

طيفك الجميل يطل على يومي كل ساعة، حيث أودعت بعض كنوز الذاكرة، ووهج عاطفة يزيدها الزمن توقدًا، ذكرى ارهقها الحنين. (سيمولوجيا الحياة)

هي حكاية الزمن السعيد، فعندما تكسوني الهموم أسبح في بحر ذكراها العطر، هي ذاكرة سنين طوال تمتد لأكثر من تسعين عامًا تعلمنا أن الجمال موجود في كل شيء لكن ليس كل العيون ترى. وتعلمنا أن الألم الكبير لا دموع له، وللحياة أسلوب أهم من العيش ذاته. دائمًا تردد عبارة إقرأ وهي الأمية. أضافت إلى خزائن قصصها والحكايات قصة خزائن يوسف وما آل إليه من نعيم.

قلبها الكبير كغرفتها لا يكاد يخلو من ضيوف. تحدثنا جدران بيتها القديم عن المعنى الحقيقي للحياة المتمثل بالبساطة والحب والتراحم والتزاور والتجاور، بل والسعادة بكل ما تحمله من معنى. وفي صلابة الواقع وزحمة الحياة وغياب الروح نتساءل كيف يكون لها كل هذا الحضور الحي والمحبة.

هذا الشعور ينتابنا في كل تفاصيل حياتنا دون تكلف أو عناء، كيف يكون لها في كل غرس ثمرة حتى إذا بحثت عن جذورها وجدته يمتد إلى مساحات عديدة. ذكرياتنا معها طيف حلم جميل قلما نصحو منه.

صدق محبة وقبول رباني كريم. رزقها الأكبر في الحياة هو الرضا لذا تتكرر كلمات الحمد على لسانها. تحمد الله قبل أن تروي قصصها وحكاياتها سواء في ليالي الصيف المضيء ونحن ننظر بوجه القمر أم في ليالي الشتاء البارد. تتلو لنا الحكاية تلو الحكاية دون كلل او ملل. وكان همنا الوحيد أن تستمر في الحديث ولا تنتهي. فالنهاية مؤلمة تذكرنا بوطأة الزمن. كان مطلبنا لو أن دنيانا كلها تصبح حكاية حالمة لا تنتهي بتقادم الزمن.

هي التي عندما تدق أجراس قلبها تدق أجراس الحياة، هي التي تأتي حلمًا وروحًا ونبضًا يدق في وجداننا لتصفه بعض الذات.

إلى جدتي الرحمة وبقايا أمنيات. حسنًا من الممكن ألَّا نعود إلَّا ونحن قلم جف حبره عن الكتابة بعد أن خط أولى الكلمات. لذا فالكتابة تشبهنا تمامًا نقطر فيها من أرواحنا تفاصيل الوجوه، تسلبنا الكثير من الأقنعة التي لبسناها أمام مرآة الواقع وبكل تخفٍ وغموض. وأنا الآن أفعل الشيء نفسه حينما كنت طفلًا. كأن السنين توقفت. كل شيء كما كان. كنت أمدُّ يدي في المساء لألتقط نجمة الثريا التي كنت أراها قريبة مني. كنت أعد النجوم ولا أحصي منها إلا عشرًا.

نهاية كل حكاية كانت ترويها لنا ” الجدة ماما” عن الدب الاصغر وبنات نعش. لهذا لم تكن الكتابة بالنسبة لي إلا ملاذًا أسكب فيه جداول مشاعري ووجدي بالحياة، بل وسؤال كينونتنا البشرية وعشقنا والممات.

إليك جدتنا الأم كل الحب والأماني الجميلة التي تمتد إلى ما وراء عالم الدنيا القصير. نستعير منك الحب دعاءًا يوميًا تتلينه لنا قبل وبعد صلاة الفجر علنا نهتدي ونأمن بعد أن ضيعتنا الحياة في أجواءها الموحشة المكتظة بالمظاهر والماديات. كم تلقينا منك دروس الحياة وعبر الزمان. تعلمنا منك أن الصدق وحسن الظن قيم تستحق الذكر، قيم محفزة للحياة. ووصيتها التي ترددها كلما دعونا لها بطول العمر، أن يغفر الله لها ونلملم قبرها في التراب. فمنها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى. اللهم اغفر لها وارحمها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة. (سيمولوجيا الحياة)

أ م.د سامي محمود ابراهيم
رئيس قسم الفلسفة
كلية الآداب
جامعة الموصل
العراق

 

إقرأ أيضاً:  ذكرى أرهقها الحنين


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 علم العلامات – ويكيبيديا
2 دَيْمومَةُ: دَوامُهُ وَاسْتِمْرارُهُ. قاموس المعاني
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

التدريب فى كنف المركزية

الخميس يونيو 24 , 2021
تمت قراءته: 1٬303 من مشكلات المركزية النظامية فى المجتمعات توفر فرص التدريب للبعض دون الآخر أو انعدامها كلياً. وربما تواجدت تلك الظاهرة فى دول عدة ولكن مصر هى نموذج صارخ لتلك الأزمة مع ارتباط عوامل أخرى مما لا تجعلنا دولة من العالم الأول. (التدريب فى كنف المركزية) والراصد لمساق التدريب […]
التدريب فى كنف المركزية

اقرأ أيضاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة