نظرية النسبية ببساطة

تعد نظرية النسبية واحدة من أغرب النظريات التي جاد بها العقل البشري، وأكثرها إثارة وعصفًا للذهن؛ وهي نظرية عبقرية قدمها العالم الألماني “ألبرت آينشتاين” عام 1905.

النظرية النسبية
Amazon Prime

ورغم أنها تتفق مع المنطق والعقل السليم، إلا أنها تحتاج إلى مخيلة واسعة وعقل أكثر تفتحًا؛ وربما كان هذا هو السبب في انتشار مقولة “إن عشرة أفراد فقط في العالم هم الذين فهموا النسبية”، ولا شك أن هذا من قبيل المبالغة التي اعتدنا عليها من الغرب. ومن الطريف أن لجنة تحكيم نوبل -عندما رشحت آينشتاين لنيل الجائزة-، ذكرت حيثيات الجائزة، وحددت أنها بخصوص “التأثير الكهروضوئي”، وهو عمل آخر لآينشتاين، ولم تتطرق للنسبية؛ وقيل في كواليس اللجنة إن السبب هو أنهم أخذتهم الريبة نتيجة عدم فهمهم الجيد للنسبية، فصرفوا النظر عنها، مما أثار حفيظة آينشتاين ودفعه ليصدم الجمهور كعادته ويتكلم عن النسبية أثناء الحفل، ولم يتطرق للتأثير الكهروضوئي – موضوع الجائزة.

فهيا بنا نتناول النظرية النسبية الخاصة بشكل سريع ومبسط، ونُدلي بدلونا في تقييمها، وتوضيح أوجه القصور فيها. وهذه المصادر للاستزادة. [1]النظرية النسبية الخاصة – د. علي مصطفى مشرفة – مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – 1945. [2]“كون آينشتاين” – ميشيو كاكو – الطبعة الثانية – 2012. [3]آينشتاين و النسبية – د. مصطفى محمود – دار المعارف – 2009. [4]فلسفة العلم في فيزياء آينشتاين – د. عادل عوض – 2005. [5]“Sears And Zemansky’s University Physics: with modern physics”- Hugh D. Young, Roger A. Freedman – 13th edition- 2004.

ما قبل نظرية النسبية

كان الاعتقاد السائد سابقًا أن القيم الفيزيائية التي نرصدها ونقيسها قيم مطلقة، وأن وحدات القياس ثابتة في الكون كله؛ فالثانية على الأرض لا تختلف عن الثانية على المريخ أو على الشمس أو حتى على أي مكان خارج المجرة. وكان من المسلَّمات أن ما نرصده من أحداث متزامنة في رصدها تكون متزامنة في حدوثها، وأن المتر والساعة والدقيقة والثانية وبقية القيم والوحدات ثابتة في كل أرجاء الكون؛ لكن لم تكن تلك هي الحقيقة.

لآينشتاين رأي آخر (نظرية النسبية)

رأى آينشتاين أن القيم الفيزيائية ليست مطلقة، وأن اختلاف موقع الراصد من الممكن أن يغير من القيم التي يرصدها، فالقلم الذي أكتب به الآن أراه مستقيمًا، لكن السمكة التي تنظر إليه وهي تسبح في حوض دائري تراه منحنيًا وليس مستقيمًا؛ فالقلم هو نفسه بدا مستقيمًا مرة ومنحنيًا مرة، وذلك تبعًا لظروف الراصد.

وإليك مثال آخر: إذا مرت سيارة بسرعة 100 كم/ساعة، فهناك على الأقل ثلاثة احتمالات:

  1. من الممكن أن يرصدها أحدهم بنفس تلك السرعة -أي بسرعة 100 كم/ساعة- وهو الشخص الواقف على الرصيف.
  2. ومن الممكن أن يرصدها آخر بسرعة صفر، وهو الذي يرصدها من داخل سيارة تسير بنفس سرعتها وفي نفس اتجاهها.
  3. ومن الممكن أن يرصدها ثالث بضعف تلك السرعة -أي بسرعة 200 كم/ساعة- وهو الذي يرصدها من داخل سيارة تسير بنفس سرعتها عكس اتجاهها.

إذن فالقيم ليست مطلقة، ومن هنا جاء أول مبدأ من مبادئ النسبية، وهو ينص على أن (جميع القيم الفيزيائية ثابتة طالما تم رصدها من نفس “الإطار المرجعي”). والإطار المرجعي يشير إلى الظرف المكاني الزماني الذي يتم فيه الرصد والقياس.

إذا طبقنا هذا المفهوم على قذيفة سرعتها 10 كم/ث تخرج من طائرة تتحرك بسرعة 10 كم/ث، فإن محصلة سرعة القذيفة بالنسبة لشخص يقف على الأرض ويرصد القذيفة هي 20 كم/ث. لكن هَب أننا استبدلنا القذيفة بشعاع ليزر يتحرك بسرعة الضوء في الفراغ 300،000 كم/ث من نفس الطائرة التي تتحرك بسرعة 10 كم/ث، فهل معنى ذلك أن سرعة شعاع الليزر تضاف عليها سرعة الطائرة كما فعلنا مع القذيفة؟؟ الجواب لا.. لماذا؟؟ لأنه طبقًا لنظرية النسبية فإن سرعة الضوء هي أقصى حد للسرعات، ولا يمكن تجاوزها، وهذا هو المبدأ الثاني من مبادئ النسبية.

نسبية الزمن

قد تجلس في شرفة منزلك تتأمل السماء، وتلمح نجمين من النجوم البعيدة ينطفآن فجأة في نفس الوقت، يخيل إليك حينئذ أن الحدثين وقعا في التو وحدثا معًا في لحظة وحدة، وتغيب عنك حقيقة أن النجم الأبعد إليك قد انطفأ في زمن مبكر عن النجم الأقرب، إلا أن الضوء الصادر من النجم البعيد استغرق وقتا أطول في سفره إليك، إذ أن الضوء يتحرك بسرعة تقترب من 300 ألف كيلومتر في الثانية، وهذا يعني الآتي:

  1. أن الحدثين لم يحدث معا.
  2. أنهما لم يحدثا في الوقت الحاضر، بل هما صورتان منفصلتان من الماضي السحيق، قد يصل زمن وقوع أي منهما إلى آلاف أو ملايين السنين، تبعًا لبعد النجم عن مجرتنا وعن كوكب الأرض، بل إن أقرب نجم لنا وهو الشمس حين نراها تشرق صباحًا، تكون قد أشرقت بالفعل منذ ما يقرب من 8 دقائق، واستغرق الضوء تلك المدة في سفره من الشمس إلى الأرض. إذن فمفهوم الزمن نسبي، وتقديره يختلف تبعًا لبعد الراصد عن موقع الحدث.

نسبية الطول

في المثال السابق، إذا قدَّرنا المسافة بين النجمين ولتكن مترًا، فهذا التقدير نسبي وغير مطلق ولا حقيقي، فقد يبعد النجمان عن بعضهما ملايين السنين؛ وإذا وقف راصد آخر في كوكب آخر على مجرة غير مجرتنا، فقد يُقَدر البعد بين النجمين بقيمة مختلفة، وهكذا. فالطول نسبي هو أيضًا. كما بينت النسبية أن الزمان والمكان ليسا منفصلين عن بعضهما، بحيث يجب اعتبارهما وحدة واحدة نظرًا للتداخل الشديد بينهما. وقد طُرح مصطلح الزمكان لهذا المقصد، واعتبر آينشتاين أبعاد المادة أربعة، بعد أن كانت أبعادًا مكانية ثلاث (طول وعرض وارتفاع)، فأضاف لها بعدًا رابعًا وهو بعد الزمن، فصارت الأبعاد 3+1.

إقرأ أيضاً:  السفر في الفضاء عن طريق طي النسيج الزمكاني

أوجه القصور وفخ الفلسفة

نلاحظ من خلال فهمنا للنظرية أنها كشفت عن القصور في الفكر السابق، والمتمثل في فيزياء نيوتن وما قبلها؛ حيث رأى نيوتن أن قوانين الكون وظواهره يحكمها الجمود وصرامة القيم، وثبوت مطلق لنتائج القياس والبعد عن المتغيرات. لكن النسبية الخاصة كشفت عن صفة المرونة والترابط الزمكاني التي تحيط بالكون؛ إلا أنها لم تتطرق للقوى التي تُمسِك بالأجرام السماوية وتضبط حركتها، وهي قوى الجاذبية. وبالتالي تظل النسبية الخاصة عاجزة عن تفسير نسق الكون ككل وفهم كل ظواهره، وهو ما استدركه آينشتاين بالفعل في النظرية النسبية العامة، والتي ربما نفرد لها مقالًا فيما بعد.

لكن ما لم يستدركه آينشتاين هو الإطار المرجعي المطلق، وبقى السؤال معلَّقًا: إذا كانت كل القيم نسبية فأين الصواب؟ أين الحقيقة؟.. الحقيقة أن النسبية بشقيها لم تجب عن هذا السؤال، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل تدخلت الفلسفة في المعترك –الذي ليس لها فيه ناقة ولا جمل- وأقرت بأن الحقائق كلها نسبية، وألغت مفهوم الحقيقة المطلقة، وكأنها سلمت للنسبية بأنها نظرية كاملة لا نقص فيها، وأنها آخر العلوم. وكنت وما زلت أود أن تقف النظريات العلمية عند حدودها، وألا تخرج عن دائرة العلوم المادية، وألا تتطرق إلى الفلسفة وما وراء العقل والأمور الغيبية والأديان (كما بينا في مقال سابق اسمه “نظرية التطور بين ميزان العقل والعلم”).

إقرأ أيضاً:  نظرية التطور بين ميزان العقل والعلم

فالنظريات العلمية مهما عظمت وخرجت عن دائرة الخطأ، لا تخرج عن دائرة النقص، فكيف نُقحمها في أمور الدين ومسائل الغيبيات التي لا يمكن أن نستدل عليها إلا بوحي من الخالق سبحانه وتعالى؟

والصواب عندي أن كل القيم التي نرصدها نسبية، ورغم ذلك فهي كافية لإدارة شئون حياتنا؛ فإذا استحضرنا نموذج السيارة (الذي ذكرناه بالأعلى) والراصدين الثلاث، تبين لنا أن الراصد غير المتحرك هو الذي استطاع أن يحدد القيمة الأكثر واقعية لسرعة السيارة، فهو نسبيًا طرف محايد؛ لكن عدم التحرك ليس هو المعيار الوحيد لدقة القياس، فقد يبعد عن موقع الحدث، ونقع في فخ انكماش الطول مرة أخرى؛ أضف إلى ذلك أنه قَدَّرَ السرعة بـ100 كم/ساعة بمقياس الزمن الأرضي الذي يتأثر بجاذبية الأرض –طبقًا للنسبية العامة–، وبالتالي فحتى أدق القيم الثلاثة ليست دقيقة بالشكل الكافي لتكون قيمة مطلقة.

ويبقى السؤال معلقًا: أين الحقيقة؟ وإلى من نحتكم؟

والجواب: أن جميعنا أطراف في المعادلة التي نقيسها، وأننا جزء من الزمكان الذي نعاينه؛ فإذا ابتغينا الحقيقة المطلقة فعلينا أن نحتكم إلى من ليس طرفًا في أي معادلة –وهو الله سبحانه وتعالى–، وما لم يخبرنا الله ورسله بحقيقته يظل نسبيًا مهما بلغت دقة قياسنا؛ فكأن النظرية النسبية -مشكورة- لفتت أنظارنا إلى ضعف العقل البشري، وقصوره عن إدراك كل الحقيقة، ويظل كمال العلم عند الله وحده، تصديقًا لقول الله سبحانه: {قُلْ إنَّمَا العِلمُ عِنْدَ الله} سورة المُلك- 26 .. وقوله: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُم لَا تَعْلَمُونَ} سورة البقرة- 216.

د. عمرو يحيى
طبيب بيطري ومُنَظر علمي

 

إقرأ أيضاً:  احتكار الحق (فلسفية)


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


الملاحظات أو المصادر

الملاحظات أو المصادر
1 النظرية النسبية الخاصة – د. علي مصطفى مشرفة – مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – 1945.
2 “كون آينشتاين” – ميشيو كاكو – الطبعة الثانية – 2012.
3 آينشتاين و النسبية – د. مصطفى محمود – دار المعارف – 2009.
4 فلسفة العلم في فيزياء آينشتاين – د. عادل عوض – 2005.
5 “Sears And Zemansky’s University Physics: with modern physics”- Hugh D. Young, Roger A. Freedman – 13th edition- 2004.
⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

فيض الخاطر

الأحد مايو 16 , 2021
تمت قراءته: 5٬238 ما أقصر الساعات في اليوم، وما أقصر اليوم في الأسبوع، وما أقصر الأسبوع في… الشهر، وما أقصر الشهر في السنة، وما أقصر السنة في العمر، وما أقصر العمر في سنوات الكون الضوئية. لم يعش الإنسان حياة الذرة، الإلكترون، البروتون، النيوترون، الكوارك، ودورات عشقها حول نفسها وحول بعضها، […]
الكون الفسيح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة