أُسر العلم “بنو زُهر”

“بنو زُهر” كُنية أسرة عربية عريقة وشهيرة، ذاع صيتُ نوابغها في الأندلس ما بين القرن الخامس – السابع الهجري (القرن العاشر- أوائل الثالث عشر الميلادي). وتنحدر الأسرة من قبيلة “إياد العدنانية” التي هاجرت من الجزيرة العربية واستقرت في شَاطبة (جفن شاطبة) في الجنوب الشرقي من الأندلس، ثم تفرق أحفادها في أنحاء شبه جزيرة أيبيريا. ويسمي الجد الأعلى للفرع الأندلسي “زهر”، ويـُلقب بـ “الأيادي” لورود نسبه إلي “إياد بن نزار بن معد بن عدنان” أحد أجداد الجنس البشري. ويشير “ابن خلكان” إنه كان لـ”زهر الأيادي” ولد يسمى “مروان” وهو والد “أبي بكر محمد” أول من كان له شأن هام بين معاصريه. واستمر «بنو زهر» يتوارثون المجد رجالاً ونساءً إلى القرن السابع الهجري. فكان منها الوزراء والأدباء والشعراء والفقهاء وعلماء الطبيعة والتاريخ، ولكنهم اشتهروا على الأخص بالطب والجراحة. (بنو زهر)

بنو زهر
رجال المجد الضائع

الجد الأعلى للأسرة – بنو زهر

ولد “أبو بكر محمد بن مروان بن زهر” سنة 337هـ/947م. دخل أبو بكر الأندلس قادماً من الجزيرة العربية واستقر بمدينة دانية. وعرف منذ صغره بحبه وميله إلى الفقه والأدب وعرف بإيمانه ونبله وكان أول من اشتهر في هذه الأسرة. واستطاع اكتساب مكانة مرموقة واحتراما بين الناس وكانت من سماته الفقه وحسن الفتوى والشورى متفننا في العلوم، وكان فاضلاً في جمع الرواية، اشتهر بالعلم والتقوى والفصاحة والكرم، وتوفي عام 422هـ (1030-1031م) وهو في الخامسة والثمانين من عمره وتم دفنه في “طـَلبيرة” (تقع على نهر تاجة على مسافة 70 كلم إلى الغرب من “طليطلة”، وفتحها طارق بن زياد سنة 92هـ). لم تتطرق الكتب والتراجم إلي حياته بالتفاصيل ولم تتطرق إلى إسهاماته العلمية، ويُجهل سبب ذلك.

“أبو مروان، عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر”

كان طبيباً مشهوراً مارس الطب في “القيروان”، كما مارسه بعد ذلك مدة طويلة في “القاهرة”. ولما عاد إلي الأندلس استقر في “دانِـية” وهناك غمره أميرها “مجاهد” بفضله وألحقه ببلاطه، ومنها ذاعت شهرته في عموم أنحاء الأندلس. يقال أنه لم يكن طبيباً بارعاً فحسب بل كان فقيهاً واسع العلم أيضاً. ويزعم “ابن آبي اصيبعة” أنه غادر “دانـِية” إلي “أشبيلية” حيث توفي عن ثروة لا يُستهان بها. بينما يؤكد “ابن خلكان”، معتمداً علي مصادر موثوق بها، أنه توفي سنة 470، أو 471ﻫ/ 1077 ـ 1078م)، في “دانـِية” ولم يغادرها قط.

“أبو العلاء، زهر بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان”

يُكني عادة “أبا العلاء” وحرفت هذه الكنية منذ العصور الوسطي فصارت “أبوالي” Aboali، وأبوللي Abuleli، وإبيلول .Ebilule وقد أضيفت غلي زهر فقيل “أبو لليزور” Abulelizor، وألبو ليزور Albuleizor. واشتغل أبو العلاء بالطب وتدرب عليه تدريبا فنيا فائقاً علي يد ابيه وعلي يد أبي العيناء المصري. وكان نابغاً ودقيقاً في تشخيص الأمراض. ومن تلاميذه الشاعر “أبا عامر بن يـَنَّق”. وأدت به دراسته للأدب والحديث إلي قرطبة حيث استفاد من دروس أعاظم شيوخ عصره. وسرعان ما ذاع صيته وجذب إليه أنظار “المعتمد بن عباد” أخر أمراء بني عباد في “اشبيلية”، فألحقه الأمير ببلاطه وغمره بفضله.

وأعاد إليه ضيعة جدة التي كان قد صودرت. ولما خلع أمير المرابطين “يوسف بن تاشفين” الأمير “المعتمد” عام 484هـ (1091م) أتيحت الفرصة لأبي العلاء ليظهر اعترافه بالجميل لمولاه السابق، لكنه لم يلبث إن انضم إلي “يوسف بن تاشفين” الذي شرفه بمنصب الوزارة. لذا يسبق اسمه عادة في الترجمات اللاتينية في العصور الوسطي بالصيغة الأسبانية “الكوازير” Alguazir. وله مؤلفات عديدة منها: “الإيضاح بشواهد الافتضاح”، والرد على ابن سينا، و«الخواص»، و«الأدوية المفردة» (أي غير المركبة)، و«رسالة في حل شكوك الرازي على جالينوس”. وقيل انه توفي بقرطبة ونقل جثمانه إلي “اشبيلية” ليدفن بها عام سنة 525 هـ (1130-1131م).

إقرأ أيضاً:  الحضارة العربية الإسلامية في النظم و العلوم و الفنون

مساحة إعلانية


“أبو مروان، عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر” – بنو زهر

طبيب نطاسي من أشهر أطباء بني زهر جميعاً، وواسطة العقد في هذه الأسرة الأندلسية العريقة. ولد بأشبيلية في تاريخ لم يذكر في كتب التراجم، لكن تقدره دائرة المعارف الإسلامية بأنه بين عامي (484-487هـ) (1091-1094م). ويسمي عادة “أبي مروان بن زهر”. ولقد حرف نساخ العصور الوسطي اسمه فقالوا:”أبهو مروان أفنزور”Abhomeron Avenzoar أو افنزور وحسب. فعندما يقول الناس «ابن زهر» Ibn Zuhrدون ذكر الاسم كاملا، يقصدون هذا الرجل بالذات. وهم يشيرون إليه أيضا باسم «عبد الملك بن زهر» للاختصار (و«أبو مروان» كنيته). وقد درس الأدب والفقه والشريعة دراسة وافية وبلغ فيها منزلة عالية. ثم علمه أبوه الطب، ولم يمر وقت طويل حتى بز أستاذه في الطب وفاقه في كثير من مسائله الدقيقة. فكان أمهر أطباء أسرة زُهر، وبرز في تجاربه المبتكرة في الأقربازين، وعلم الطفيليات. وكان كوالده في خدمة المرابطين أول الأمر ثم التحق بخدمة الموحدين وأعطي لقب الوزارة كابية من قبل. وكان “ابن رشد” صديقاً حميماً له. وكان “ابن رشد” يقدّر “أبا مروان بن زهر”، وعبقريته في صناعة الطب، ويعده أعظم الأطباء منذ عهد “جالينوس”.

وكان “أبن زهر” طبيباً بارعاً، ومفكراً بارزاً، وأديبًا وشاعرًا. وله مؤلفات جيدة في الطبـ وأشهرها “كتاب الاقتصاد فى إصلاح الأنفس والأجساد”، وهو كتاب مختصر أمره بتأليفه الأمير إبراهيم بن يوسف ورسم له خطته. أما عمدة مصنفاته فهو كتابه الأشهر: “التيسير فى المداواة والتدبير” وهو كتاب شامل في الطب ترجم إلى اللاتينية عام 1280م (طبع ثمان مرات في النصف الأول من القرن السادس عشر). وكان ذو أهمية كبيرة فى الجامعات الأوربية، وأعتبر من أهم المراجع الطبية حني نهاية القرن السابع عشر الميلادي. كما ألف “الترياق السبعيني” ومختصره، وكتاب “الأغذية”، ورسالة كتب فيها إلى بعض الأطباء بأشبيلية في علمي “البرص” و”البهق”، ومقال في “علل الكلى”. وله أيضًا كتاب “التذكرة” وضعه لولده في معالجة الأمراض، وفيه نصائح تتصل بالأحوال الجوية وصلتها بالأمراض المألوفة في مدينة مراكش.

ونظرياً.. كان ابن زهر يأخذ ـ كما اخذ جالينوس ـ بنظرية الأمزجة. لكنه عملياً يري أن التجربة خير مرشد. كانت وظيفته كمدير للمستشفى، قد أتاحت له فرصة العثور على كثير من جثث الموتى لتشريحها، وقد تمكن من فصل طب العيون عن الطب العام في هذا الوقت المبكر. كان ابن زهر من أوائل الأطباء الذين وصفوا خراج الحيزوم، والتهاب التامور (التهاب غشاء القلب) اليابس والانسكابي، وميز بينه وبين “التهاب غشاء الرئة” (Plura). وهو أول طبيب عربي أشار بعملية شق القصبة الهوائية لعلاج “شلل البلعوم” (Pharyngoplegia)، وتغذية المصاب صناعيًّا بأنبوب من الفضة ينقل الغذاء من البلعوم إلى المعدة أو التغذية عبر الشرج. كان رائدًا في مجال التخدير، إذ كان يخدر مرضاه بطريقة الاستنشاق بالإسفنج المنوّم؛ وهو إسفنج طبيعي يغمر في مزيج من المواد المنوّمة والمواد العطرية كالأفيون والسيكران والزوان والشيلم، ثم يجفف ويحفظ، وعند الاستعمال يبلل بالماء فيصبح مشبعًا بالمحلول المخدر، ويستخدم في التخدير بوضعه على أنف وفم المريض أثناء الجراحة.

وقد توصل إلى دراسات وتشخيصات سريرية (إكلينيكية) لأول مرة لمرض السرطان والأورام الخبيثة. وهو لذلك أول من أشار بالوصف الدقيق إلى الورم الذي يحدث في الصدر، وفي الغشاء الذي يقسم الصدر طولياً “المنصف”Mediastinum . ووصف طفيل الجرب (وهو في حقيقة الأمر نوع من مفصليات الأرجل) الصغيرة الشبيهة بالعناكب، والتي تسمى “الحلم” (Mites)، وقد أشار إليه باسم “قمل الجرب”. وقد عالج ابن زهر “الخثر” وهو جرب العين عند العرب، والرمد الحبيبي حديثًا، بواسطة الجراحة بشق شريان الخثر. وقد نادى بالطب الوقائي في مقدمة كتابه “التيسير في المداواة والتدبير”، حيث قدم أكثر من عشرين نصيحة تتعلق بحفظ الصحة، وقال إنها تهدف إلى “إدامة أسباب الصحة ودفع أسباب الأسقام”. كما تصدى باقتدار لدراسة الأمراض النفسية، واعتبرها حاصلة عن عوامل عديدة منها الصدمات المتوالية التي يتعرض لها الإنسان وصحة الجسم. ونصح بحسن معاملة المريض وإعطائه العقاقير المهدئة، وإسماعه الموسيقى، ونصح -كذلك- الطبيبَ المعالج بمعرفة حالة مريضه، لأن ذلك يساعد على الشفاء.

وبعد حياة حافلة بالأعمال المثمرة والفعال الطيبة توفي ابن زهر عام 557هـ (1161ـ1162م) في اشبيلية” بسبب ورم خبيث كما مات أبيه من قبل. وليس غريبًا أن نجد المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكة” في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب” تقول: “إن الطبيب الأشبيلي ابن زهر، المتحدر من عائلة عريقة في الطب تمتد فروعها حتى تصل إلى جذورها العربية الأصيلة، قد وضع كتابه “التيسير في المداواة والتدبير” وهو موسوعة طبية يظهر فيها تضلع ابن زهر من الطب وموهبته فيه. لقد أضاف ابن زهر كثيرًا من الاكتشافات العلمية، وأتقن كثيرًا من الممارسات الطبية العملية التي جعلت من صاحبها أشهر وأكبر أعلام الطب العربي والإسلامي في الأندلس، وعملت على تطور وتقدم علم الطب في العصور اللاحقة حتى وصلت إلى الغرب الذي عرفه باسم (Avenzoar).

إقرأ أيضاً:  أدهشت طواغيت الإستعمار فقرّروا إعدامها

مساحة إعلانية


“أبو بكر، محمد بن عبد الملك عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر” (الحفيد)

اشتهر بـ “الحفيد”، ولد هذا الطبيب “الكحال” (طبيب العيون) والأديب والشاعر البارز عام 504 (1110-1111م) أو عام 507هـ وانصرف إلي الجوانب الطبية العملية دون التأليف في الطب. ومع ذلك نسبت إليه رسالة في طب العيون. ومما تميز به الأطباء من بني زهر أنهم لم يؤلفوا بغير الطب. فلم يُروَ عن أيٍّ منهم أنه ألّف في الفلسفة أو الرياضيات أو الفقه أو الأدب،ما عدا هذا الطبيب “أبو بكر الحفيد”. فإنه إلى جانب اشتغاله بالطب، اشتغل بالفقه واللغة والأدب، وكان شاعراً رقيقاً نال شهرة واسعة في نظم الموشحات التي تُعَدُّ من أرقى الموشحات الأندلسية. وقد تمتع بشهرة ـ أدبية وشعرية ـ واسعة في الأندلس وافريقية. وكانت له علاقات وطيدة بالموحدين، واستدعاه الخليفة “يعقوب بن يوسف المنصور الموحدي” ليكون طبيبه الخاص وبالغ الخليفة في إكرامه. مما أثار حسد الوزير “أبي زيد عبد الرحمن بن يوجان” عليه. وأثناء أقامة “الحفيد” ابنة أخته (كانت ماهرة في فن التوليد وإمراض النساء) بمراكش دُس له السمَّ فمات عام 595هـ (1198-1199م).

“أبو محمد، عبد الله بن الحفيد” – بنو زهر

ولد “أبو محمد عبد الله بن الحفيد” عام 577 هـ (1181-1182م) في أشبيلية. وكان طبيبا ماهراً تعلم في مدرسة أبيه. ولقد ألحقه الخليفتان: المنصور ثم الناصر ببلاطهما وغمراه بفضلهما. ولما بلغ من العمر 25 عاماً.. توفي ـ عام 602هـ/ 1205-1206م ـ بالسم كما توفي أبوه. وقد كان في طريقه إلي مراكش، ودفن بالرباط ثم نقل جثمانه إلي اشبيلية حيث وضع إلي جانب رفات أجداده خارج باب النصر. وخلف ابنين أبا مروان عبد الملك وأبا العلاء محمداً وعاش كلاهما في اشبيلية وكان أصغرهما طبيباً أيضا وعلي علم بارع بمؤلفات جالينوس. والخلاصة: بنـو زهر من نبلاء الأندلس العرب الذين اشتهروا بالجـاه والتقـوى والطب. أسرة عريقة، يصعُب حصر عباقرتها في سطور معدودة. أسهمت في نهضة الطب والثقافة والحضارة الأندلسية. وجري النبوغ الطبي والعلمي مجري الدم بعروقها، وتغلغل في موروثاتها. وجملة القول: ازدهر العلم في الأندلس، ونبغ فيها كثير من العلماء والفلاسفة والأطباء، ومن أشهر هؤلاء أفراد أسرة بني زهر. وقد ذاع صيت العديد من أطبائها الذين تعاقبوا في التربع على عرش مهنة الطب والجراحة، وتوارثوها. ومن المُدهش ما اتصف به “بنو زهر” من شدة التعلق بمهنة الطب والجراحة، ويتعذر العثور علي أسرة عربية أخرى نبغ فيها هذا العدد المتلاحق من مشاهير الأطباء.

أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري

(بنو زهر)

إقرأ أيضاً:  المُضحون من أجل البشرية: علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

ظاهرة تدني الذوق العام.. الأسباب والحلول

الأحد يناير 2 , 2022
تمت قراءته: 2٬301 هناك أعمال ترتقي بمستوى المشاهد أو المستهلك وأعمال أخرى تنحدر به، وقيمة العمل أن يكون له “قيمة” و”هدف نبيل”، لا أن يحظى بشعبية أو يحقق أرباحًا ومشاهدات. والذوق العام لا يقتصر على الفن والغناء، وإنما يشمل كل نواحي الحياة بما فيها الغذاء والدواء. فهيا بنا ندرس تلك […]
ظاهرة تدني الذوق العام.. الأسباب والحلول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة