لم يحقق العلم في العصر الحديث قفزات مثلما حققها في مطلع القرن العشرين، فقد تحول العلم وقتئذ إلى سباق محموم -وماراثون عالمي- بات فيه العلماء نجومًا لامعة، وتحول أكثر المثقفين والعَوَام إلى مشجعين ومتعصبين، وصاروا أشبه بمشجعي الكرة في أيامنا المعاصرة. تُرى ما السبب؟ وهل من الممكن أن تتحول بوصلة البشرية مرة أخرى إلى العلم؟! هذا ما سنعرفه في هذا المقال. وللاستزادة يرجى الإطلاع على المصادر. [1]“البحث عن قطة شرودنجر” – جون جريبين – نسخة مترجمة – الطبعة الثانية – كلمة وكلمات عربية للترجمة … Continue reading [2]“مع القفزة الكمومية” – فريد ألان وولف – نسخة مترجمة – المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا – … Continue reading [3]“كون آينشتاين” – ميشيو كاكو – نسخة مترجمة – الطبعة الثانية – 2012. [4]موسوعة “ويكيبيديا” على شبكة الإنترنت – صفحات (ماكس بلانك- بولتزمان – آينشتاين- رذرفورد – نيلز بور- دي … Continue reading [5]“Sears And Zemansky’s University Physics: With modern physics”- Hugh D. Young, Roger A. Freedman – 13th edition- 2004. [6]Helge Kragh (1990). “The purest soul”. Dirac: A Scientific Biography. Cambridge University Press. pp. 256–257.
هدوء يسبق العاصفة
في أواخر القرن التاسع عشر، كان العالم يَحيا عصر الآلة، فقد حلَّت الكهرباء محل الفحم والبخار، وأدرك الإنسان كثيرًا من أسرار الكيمياء والضغط والحرارة، وشعر العالَم بأنه قد أصيب بـ”تخمة علمية” من عِظَم التغير الذي حدث في نمط الحياة، وسهولة “ميكنة التصنيع”، وتيسير سُبُل المعيشة وكسب الرزق، فأصيب بعضهم بالغرور، وأحس الناس أنهم أدركوا نهاية العلم، حتى أنهم زهدوا عن التطلع إلى أفكار علمية جديدة ونبذوا كل جديد.
فها هو “بولتزمان” (1844-1906 م) يشنُق نفسه لأن فكرته الجديدة حول “النظرية الحركية للجزيئات” لم تلقَ قبولًا ولا استحسانًا من الأوساط العلمية، ورغم انتحاره إلا أن نظريته قُبِلت وثَبَتت صحتها بعد انتحاره بأعوام قليلة. وها هو العالم الألماني “ماكس بلانك” (1858-1947 م) يتقدم إلى دراسة الفيزياء في الجامعة، فينصحه أحد الأساتذة بأن يتجه إلى دراسة الطب أو الأديان؛ بحجة أن علم الفيزياء قد اكتمل ولم يعد ينقصه سوى سحابات طفيفة. ولم يكن يعلم هذا المسكين أنه لا علم يكتمل، وأن علم الفيزياء بالتحديد على وشك التعرض لطفرات و”قفزات” غير مسبوقة في التاريخ البشري، وأن “ماكس بلانك” نفسه سيكون أحد رواد تلك الطفرات.
فتوحات علمية (العلوم)
افتُتِح القرن العشرين -وبالتحديد في عام 1895م- باكتشاف أشعة إكس “X-rays” على يد الألماني “روتنجن” (1845- 1923م) الحائز على أول جائزة لنوبل في الفيزياء. تلا ذلك بعام اكتشاف النشاط الإشعاعي على يد “هنري بيكريل” (1852-1908م). تلا ذلك بعام أيضًا اكتشاف الإلكترون على يد “جوزيف ج. طومسون” (1865- 1940م). تلا ذلك بعام اكتشاف العناصر المشعة كالراديوم والبولينيوم وذلك في عام 1898م على يد “بيار كوري” (1859-1906م) وزوجته “ماري كوري” (1867-1934م).وكانت تلك السلسلة من المفاجئات المتلاحقة بمثابة هِبَات ربانية تمهد العالم لدخول القرن العشرين بوجه جديد ستتغير فيه ملامح الحياة.
استغل رذرفورد (1871-1937م) إنجازات عائلة كوري، وتمكن من اختراق الذرة –وحدة بناء الكون- ومعرفة أسرارها، من خلال قذفها بوابل من الأشعة ودراسة ردود الفعل، فكانت النتيجة مذهلة؛ حيث اكتشف أن معظم الذرة فراغ، وأن كتلتها في مركزها. كما اكتشف أنواع الإشعاع بناءً على شحناتها، وقسمها إلى أشعة ألفا وبيتا وجاما، واستحق جائزة نوبل عام 1908م.
وفي عام 1900م، أتى الألماني “ماكس بلانك” (1858-1947م) باكتشاف رياضي غريب وعجيب ومذهل في آن واحد، حيث أثبت أن الطاقة يمكن تجزئتها إلى وحدات/قطع (مثلما تم تجزئة المادة إلى ذرات)، واكتشف علاقة طاقة الموجة بترددها، وكان هذا هو الميلاد الأول لمفهوم “الكم”. ثم التفت “بلانك” إلى بحث مهم قدمه موظف مغمور في مكتب براءات الاختراع في ألمانيا، كان هذا البحث عن التأثير الكهروضوئي، وكان الموظف المغمور هو “ألبرت آينشتاين” (1879-1955). وسِرُّ اهتمام بلانك بهذا البحث أنه كان يتفق تمامًا مع قانون بلانك؛ حيث أن تسليط كم من الطاقة بتردد معين كافٍ لتحرير الإلكترون من نطاق الذرة، مما يؤكد أن التردد وليس شدة الموجة الساقطة هو معيار التأثير على الإلكترون.
وفي عام 1913، أطل على الساحة الدنماركي “نيلز بور” (1885- 1962م) الذي قام بدراسة أعمال “رذرفورد” على الذرة والإشعاع، ورسم تصورًا جديدًا للذرة، يقوم على أن الإلكترونات تَسبَح حول نواة الذرة في مدارات تشبه المجموعة الشمسية. وبغض النظر عن أن تلك الفكرة تم نسفها فيما بعد، إلا أن أبحاث بور عن طيف ذرة الهيدروجين كانت مثيرة، إضافةً إلى أن فكرة أعداد الكم وكيفية انتقال الإلكترون بين مستويات الطاقة حول النواة كانت رائعة، وبناءً عليها تم اختراع جهاز التحليل الطيفي الذي يُعَّد عصب استكشاف المواد الكيميائية حتى يوم.
وبعدما كان الاعتقاد السائد أن الضوء موجة، لاح في الأفق مفهوم الضوء كجسيم (فوتون) في التأثير الكهروضوئي، ولكن لم يُبَرهَن عليه بشكل كافٍ إلا حينما تم قياس طاقته الحركية، عندما أجرى كومبتون (1892- 1962م) تجربته الشيقة، فقذف أحد الإلكترونات بفوتون من أشعة إكس ولاحظ انحراف كل من الجسيمين، وكأنهما كرتين من كرات البلياردو. ومن حينها اعتُبِر أن للفوتون طبيعة (أو شخصية) مزدوجة، فهو موجة وجسيم في نفس الوقت. ثم في لمحة خاطفة، اقترح دي برويل (1892- 1987م) أن الإلكترون قد يكون له طبيعة مزدوجة كالفوتون، وقد ضَمَّن رسالته الأكاديمية معادلات رياضية تُعد إثباتًا رياضيًا للطبيعة الموجية للإلكترون.
ولم يكتفِ بذلك بل اقترح فكرة لتجربة حيود الإلكترونات في البلورات من خلال ضربها بأشعة إكس، وقد صُممت تجربة أثبتت صحة معادلاته، وبهذا طالت الطبيعة المزدوجة الإلكترون أيضًا.
وتعاقب اهتمام العلماء بنظرية الكم وأتي “هايزنبرج” (1901-1976م) بمبدأ الشك، حيث أكد على أنه لا يمكن تحديد موقع الإلكترون وطاقته الموجية في نفس الوقت، وقام “شرودنجر” (1887-1961م) باستنتاج المعادلة الموجية للإلكترون، وظهر مفهوم السحابة الموجية بديلًا عن فكرة المدارات التي تشبه المجموعة الشمسية. وبعدئذ أثبت “ديراك” (1902-1984م) وجود المادة المضادة، وأضافت إسهامات “باولي” و “ماكس بورن” و”فيرمي” زخمًا كبيرًا لنظرية الكم واستنتاجاتها الـ”مُخِلَّة بالمنطق” والتي أحدثت جروحًا في العقل والمنطق لم تلتئم بعد.
حفاوة المجتمع واهتمامه بالعلم (العلوم)
قُبَيل اكتشاف الميكروسكوب الإلكتروني، كان عوام الناس على وعي بما يجري في الأوساط العلمية، وقد قيل إن الناس في النوادي والحوانيت كانوا يتحدثون عن ترقبهم للاستفادة من الاكتشافات الحديثة في عمل ميكروسكوبات ذات مُعامل تكبير ضخم. وكان آينشتاين يسير بين الناس وكأنه نجم سينمائي، ويَلقى ترحيبًا كبيرًا من المتعلمين والأميين على السواء. ومن الطريف أنه ذات مرة تجول مع الممثل الشهير الصامت “شارل شابلن”، وتكلم الناس عن أنهم يعرفونهما جيدًا، إلا أنهم يعرفون شابلن رغم صمته، ويعرفون آينشتاين رغم أنهم لم يفهموا منه أي شيء.
وعلى مستوى الزعماء، كان الرؤساء والقادة يلتقون بالعلماء ويحتفون بهم، ويقيمون المآدب الكبرى لاستقبالهم، ويدعمون أبحاثهم ماديًا ومعنويًا، بل وفوق ذلك أنهم كانوا يوفرون التأمين والحراسة لمؤتمراتهم الشعبية، مثلما حدث في مؤتمر مناهضة النسبية الذي أقيم في أغسطس 1920م في برلين.
و لا أروع في العصر الحديث من مؤتمر سولفاي السادس، والذي عُقد في براسلس عم 1930م، وقد كان أشبه بـ”كرنفال علمي” سما فيه العلم فوق الهامات، وتعالت مكانة العلماء في نفوس العامة والخاصة. حيث التقى رواد المدرسة القديمة -متمثلة في آينشتاين وشرودنجر وبرولي وغيرهم– مع رواد المدرسة الحديثة -متمثلة في نيلز بور وباولي وهايزنبرج-؛ حيث كان الجيل الجديد مؤيدًا لأفكار ميكانيكا الكم وجنونها المتمثل في مبدأ الشك وفكرة الاحتمالات، بينما دافع الجيل القديم عن مبدأ الحتمية، كما هاجموا الشك والاحتمالات وإدخال عنصر الصدفة في معادلات الكون. وأيًا كان موقفك من تلك الأفكار، إلا أن الاهتمام الشعبي والتغطية الصحفية الجيدة لمثل تلك الأحداث شيء يثير الدهشة، وخاصة أن من شأنه أن يوفر بيئة خصبة لازدهار العلوم ودفع عجلة العلم للأمام.
ولهم إخفاقات أيضا (العلوم)
من عجائب القدر أن يجتمع كل هؤلاء العلماء في عصر واحد، ومن الأعجب أنه بمرور ثلث القرن العشرين تقريبًا، يكاد يكون عطاء العلم قد تجمد، ولم تعد هناك وَثَبَاتٌ إلا نادرًا. وأصبح معدل الإنجازات بطيئًا جدًا، بعد ما كان يحدث بشكل شبه سنوي كما بيّنا بالأعلى، ومايؤخذ على تلك الفترة مايلي:
- أن هذا الجيل النابغ يكاد يكون عقيمًا، فالسؤال المُلِح يطرح نفسه: أين طلاب هؤلاء الأفذاذ؟ أين ذهب الجيل الثاني؟ وخاصة أن الجيل الأول لم يكن لديه إمكانيات معملية كافية، بل هو الذي ابتكر معظم الأجهزة، ولم أجد في كتب الكم جوابًا شافيًا لهذا السؤال.
- شارك عدد من هؤلاء الأفذاذ في صناعة الأسلحة النووية الفتّاكة، رغم وقوف بعض الأشراف منهم وقفة إنسانية ضد تلك المشاريع التدميرية، وقال آينشتاين مقولته التاريخية “إن مجتمعًا من القردة لا يمكن أن يبيد أبناء جنسه، فكيف يفعل الإنسان ذلك؟!”
- كان من المتوقع أن يكون علمًا بهذا الزخم هاديًا للعقول إلى كمال اليقين، إلا أن تلك الحقبة الزمنية لم تصل إلى “اليقين”، بل فرضت علينا “الشك”!! حتى أنها انتهت إلى أن الحقيقة ما هي إلا هُرَاء، وأن كل القيم تخضع للشك والصدفة والاحتمالات، ومن أمثلة ذلك الوقوف العِلماني ضد الدين موقف “ديراك” الذي صُدِمتُ عندما قرأت مقولًة له -ألقاها في مؤتمر سولفاي 1927م- بما مفاده “أن اهتمام القدماء بالدين كان نتيجة الخوف والجهل واعتقاد وجود قوًى كبيرة خفية، أما عندما كُشِفت أسرار العلم والذرة والقوى الطبيعية فلم يعد هناك مبررًا للدين”. لكن يبدو أنه كان لابد لـ”ديراك” نفسه أن يعيش 44 سنة أخرى يكتسب فيها مزيدًا من العلم والتفكر ليبصر الحقيقة التي أقر بها في أحد مؤتمراته عام 1971م، حين أكد أن “لحظة نشأة الكون وبداية الحياة لا بد وأن تكون بإرادة وقدرة إله، يتحكم في كل تلك القوانين الفيزيائية المتلاحقة المتناهية الدقة، والتي تجلت للوجود فجأة لحظة البدأ”. (العلوم)
وفي الختام أتمنى أن ندرس تفاصيل تلك الحقبة العلمية المهمة، وأن نجد من يكمل تلك الأعمال، ويسد النقص ويرمم صدع العلوم، ويحقق المزيد من الإنجازات السلمية للعلم، كما أتمنى أن يستعيد العامة وغير المتخصصين شغفهم وتشجيعهم للعلماء، أو على الأقل يعطوا اهتمامًا للعلم بالقدر الذي يعطونه للكرة والفنّ. (العلوم)
د. عمرو يحيى
طبيب بيطري ومُنَظر علمي
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
د. عمرو يحيى من مصر. تخرج من كلية الطب البيطري جامعة القاهرة، اتجه إلى ممارسة الطب البيطري بالريف المصري منذ ١٣ عامًا، يهوى الكتابة وعمل النظريات الفيزيائية وإقامة الندوات العلمية، له كتابان منشوران في علوم الطب البيطري على موقع خاص به، وله مقال منشور بمجلة نيويورك ساينس. يحب الابتكار والقراءة والإلقاء، وحضور المهرجانات الثقافية.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | “البحث عن قطة شرودنجر” – جون جريبين – نسخة مترجمة – الطبعة الثانية – كلمة وكلمات عربية للترجمة والنشر – 2010. |
---|---|
↑2 | “مع القفزة الكمومية” – فريد ألان وولف – نسخة مترجمة – المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا – الطبعة الثانية – 2002. |
↑3 | “كون آينشتاين” – ميشيو كاكو – نسخة مترجمة – الطبعة الثانية – 2012. |
↑4 | موسوعة “ويكيبيديا” على شبكة الإنترنت – صفحات (ماكس بلانك- بولتزمان – آينشتاين- رذرفورد – نيلز بور- دي برويل- ديراك- جوزيف جي طومسون – شرودنجر). |
↑5 | “Sears And Zemansky’s University Physics: With modern physics”- Hugh D. Young, Roger A. Freedman – 13th edition- 2004. |
↑6 | Helge Kragh (1990). “The purest soul”. Dirac: A Scientific Biography. Cambridge University Press. pp. 256–257. |