عقوبة الإعدام خارج الحدود والقصاص

كرَّم الله الإنسان دون مخلوقاته، وقد جاء هذا تجسيدًا لمشيئته في الاستخلاف، وحمل رسالة السلام والصلاح والسير بِهَدي الرب بِخُطًى قُدِّر لها كل سبل الثبات على صراط مستقيم. ومن هنا كان مقتضى التنزيل. (عقوبة الإعدام)

عقوبة الإعدام
مركز دراسات الوحدة العربية

والإسلام كغيره من الشرائع السماوية، جعل من الإنسان جوهر رسالته في السمو والتكريم والقوامة، مُبَيِّنًا لمكامِن الخلل الذي قد يطرأ على السلوك الإنساني، وسبل تحاشي آثار ذلك الخروج عن فطرة الخليقة واحتواء آثاره.

فقد عصم الإسلام النفس البشرية ومنع الاقتراب منها أو المساس بها كأصلٍ عام من أصول الدين، إلا وِفقَ إطارٍ دقيق وضيق. قال تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الإسراء:33]. من هُنا، يمكننا القول إن سلب الروح البشرية حَقَّها بالبقاء كعقوبة تُعَدُّ من أعظم العقوبات التي يمكن إنزالها على الإنسان، إذ تُصَادِرُ حقه في البقاء والعَيش على ظهر البسيطة.

قد جاءت تطبيقًا لقاعدة (الجزاء من جنس العمل). قال تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة:45]، وقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179]. ناهيكم عن بعض الحدود التي ذُكِرَت حصرًا ضمن أحكام الشريعة ومرجعياتها الأساسية: الكتاب والسنة، وكان القتل عقوبة أصيلة لمرتكبها، ومنها ما هو لا خلاف فيه ضمن الأدلة القطعية الثبوت والدلالة، كحد الحَرَابة والزاني المُحْصَن.

ومنها مُخْتَلَفًا فيه كالرِدَّة وشارب الخمر للمرة الرابعة ومرتكِب فعل اللواط والمُتَجَسِّس لصالح العدو. كل ذلك ما عُرِف من الدين بالضرورة فيما يخص تطبيق عقوبة الإعدام قصاصًا، أو جرائم ما يُعرَفُ بالحدود. لذا وبمفهوم المخالفة، لا يجوز تطبيق عقوبة الإعدام إلا ضمن تلك الأُطُرِ الشرعية المُثبَتَة بالتنزيل والسنة النبوية الشريفة. وأن أي أخذ بالعقوبة خارج تلك الأطر يُعَدُّ من قبيل ما عُرِف لاحقًا بعقوبة الإعدام تعزيرًا.

والتعزير كمصطلح فقهي وقانوني يُعرَفُ (بالتأديب دون الحَدِّ على معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة). ما يعني أن التعزير وسيلة ردع غير محددة المقدار، ويرجع تقديرها للحاكم.

والأصل ألا تتمادى العقوبة التعزيرية إلى مستوى القصاص والحدود. وما بين مُجِيزٍ وناكر لتطبيقها بين المذاهب الفقهية ما يُصَعِّب هنا ذِكر تفصيلات الخلاف. فإننا ومن خلال مُطالعتنا وبحثنا، لم نعثر على نص من الكتاب أو السنة بأقسامها الثلاثة ينص صراحة على جواز الأخذ بعقوبة الإعدام تعزيرًا. كما لم تَرِد أي تطبيقات لتلك العقوبه في زمن الخلافة الراشدة. وهذا إن دلّ فإنه يدل أن هذه العقوبة قد جأت خارج السياق التشريعي المُنَزَّل وخارج نطاق السعة التي منحها النص التشريعي. والمخيف أن استخداماتها قد تعدت المجالات التي قررها بعض الفقهاء تحت ذريعة درء المفاسد والحفاظ على المصالح، إلى قتل المعارضين في الفكر والسياسة.

إقرأ أيضاً:  جوهر رسالة المحاماة

مساحة إعلانية


لذلك نستطيع الجزم أن عقوبة الإعدام تعزيرًا قد شُرِعت بعد عصر الخلافة الراشدة، وكان الغرض منها التخلص من المعارضين في الفكر والسياسة. وقد كان أول قتل من هذا النوع هو واقعة مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه سنة (٦١ هـ)، ثم توالى القتل سياسة كقتل عمرو بن سعيد الأموي بدمشق سنة (٦٩ هـ) بتهمة التمرد على عبد الملك بن مروان. وقتلُ الحجاج لعبد الله ابن الزبير سنة (٧٣ هـ)، ثم توالى القتل بقتل المعارضين. وتوسع المتوسعون، وكلٌ أدلى بدلوه إلى يومنا هذا.

إن دستور الجمهورية اليمنية أقر بشكل صريح أن الشريعة الإسلامية مصدر كل القوانين، وقد كان الأحرى بالمُشَرِّع اليمني أن يتماشى مع هذا الأساس الدستوري، ويعمل على حصر حالات تطبيق عقوبة الإعدام تعزيرًا في الأطر الضيقة للسعة التي منحها النص التشريعي. في حين نراه أسرف في إقرار العقوبة، تماشيًا مع النظم القانونية العربية الأخرى. فاليمن كغيرها من الدول قد تأثرت بالمتغيرات التي شهدتها المنطقة بالعقد الأخير، حيث صارت مهددة وفي قلب أعمال العنف السياسي والجنائي المسلح واختطاف الأجانب والأعمال الإرهابية.

ومن هنا كانت المخاوف التي تُرجمت إلى تشريعات كقانون مكافحه الاختطاف وقانون الإرهاب. ويمكن القول إن اليمن يمر بمرحلة تشدد بأساليب التعامل مع الجريمة المرتكبة والمتوقعة، فأنشأ أجهزة أمنية جديدة كجهاز الأمن القومي. وارتفعت نسبة الأحكام القضائية الآخذة بالعقوبة الأشد، وأبرزها تلك الأحكام التي تصدر من المحاكم الجزائية المتخصصة. وهنا نؤكد أن تلك التشريعات وإن كانت من وجهة نظر النظام تهدف إلى حماية الوطن، إلا إنها تمس بشكل مباشر الحريات العامة والحقوق الإنسانية.

وقد تعالت موخرًا الأصوات المنادية بإلغاء عقوبة الإعدام على مستوى العالم، في حين لم تكن محل جدل قديمًا. فقد كان القتل يعد وسيلة من وسائل التوبة في الديانات القديمة، وبازدياد الوعي وتطور الفكر علت تلك النداءات. وقد وُقِّعَت عدة معاهدات ومواثيق دولية بشأن الحث على إلغاء عقوبة الإعدام، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر.

  1. البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
  2. البروتوكول الملحق بالاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لإلغاء عقوبة الإعدام.
  3. البروتوكول رقم 6 ورقم 13 الملحق بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

وغيرها من المواثيق والعهود الدولية ذات العلاقة. ونحن ومن هذا المنطلق، نتمنى على المُشَرِّع اليمني عدم التوسع بتطبيق عقوبة الإعدام تعزيرًا في الجرائم السياسية، وحصرها في مقتضيات القصاص والحدود والجرائم ذات الخطر العام والخاص التي يُشترط للحكم فيها بالإعدام أن ينتج إزهاق الروح أو احتلال أراضي الوطن. وأن يعمل المُشَرِّع اليمني على أن يحيط تطبيق عقوبة الإعدام تعزيرًا بضمانات فعلية تكفل الاطمئنان لتوقيع مثل هذه العقوبة، ووجوب أن تصدر تلك الأحكام من جهة القضاء العادي وليس من محاكم استثنائية كالمحكمة الجزائية المتخصصة.

والله من وراء القصد
عدن-الاثنين2018/6/25
المحامي/ مازن سلام

 

إقرأ أيضاً:  يمنيوا الشمال ويمنيوا الجنوب هوية أم واقع ديموغرافي


لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:



هذه المقالة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن منصة المقالة.


مساحة إعلانية


⇐ لا تنس عمل مشاركة (Share)

المقالة التالية

"المخدرات الرقمية". جرعات موسيقية تـُفقد الوعي

الأثنين سبتمبر 6 , 2021
تمت قراءته: 3٬107 “سكون مُزعج، وضوضاء بيضاء”. تعزل “متعاطيها” عن الزمان والمكان. يضع سماعات خاصة، ويطفئ الأنوار عامة، ويغلق عينيه، والأجهزة المحيطة به. ومع هذا السكون، وبكبسة زر، يبدأ في تعاطي جرعات اختيارية لملفات رقمية صاخبة. تحتوي على نغمات أحادية أو ثنائية، فتصل إلى الدماغ وتتلاعب بموجاته وتحاكيها، وتجعله في […]
المخدرات الرقمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: رجاء عدم محاولة النسخ، وعمل مشاركة/شير أو استخدم رابط صفحة المقالة كمرجع في موقعك - جميع الحقوق محفوظة لمنصة المقالة