كم من الوقت والجهد الذي بذله علماء وباحثون لتصل حياتنا إلى ما وصلت إليه اليوم؟! بل كم من المعاناة والتضحيات “الذاتية” التي قدموها لنستمتع باكتشافاتهم واختراعاتهم التي غيرت وجه الحياة المعاصرة، ووفرت سبل اليُسر والرفاهية والصحة الوافرة؟ لنقف برهة مع نماذج فذة من هؤلاء العلماء “الأبطال” الذين ضحوا كثيراُ من أجل البشرية. (علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم)
“إسحق نيوتن” وإبره داخل عينه
كثيرة هي الإنجازات العلمية التي أسداها للبشرية العالم البريطاني “إسحاق نيوتن” Isaac Newton (1643- 1727). فبالإضافة لاكتشافه الجاذبية الأرضية، وقوانين فيزياء الحركة، وأسس التفاضل والتكامل، كان مولعاً بعلم البصريات وخصائص الضوء وانكساره في المنشور الزجاجي. وكان تشريح العين وطريقة رؤيتها للألوان أمراً مثيراً بالنسبة له. فقرر وضع ما يشبه إبرة معدنية بين مقلة العين ومحجرها لمعرفة تأثير ضغط العين برأس الإبرة على رؤيته للألوان. وكرر الأمر مرات عدة مع مستويات مختلفة من الضغط.
“اليزابيث”، ولعنة “إكس” – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
كانت “اليزابيث شيم” (1859-1905) خبيرة أشعة إكس الأمريكية ضحية “أشعة اكس”، حينما كانت تعرض نفسها لهذه الأشعة لتثبت للمرضى أنه لا خطر منها. إلا أنها تعرضت لتغييرات مرضية فى جلدها, وأصيبت بالسرطان, وقطع إحدى ذراعيها. وأشعة أكس هي من اكتشاف العالم “وليام كونراد رونتغن” (William conrad Roentgen) عام 1895. فعندما كان يجري بعض تجاربه الفيزيائية لاحظ وجود وميض على الورقة الحساسة المستخدمة للتجارب. فبدأ يفكر في “شيء مجهول” أطلق عليه “الأشعة غير المرئية” (X-RAY).
وأعاد تجاربه مراراً. وبعد ثمانية أسابيع وفي 28/12/1895 حصل على أول صورة شعاعية ليد زوجته على ورقة حساسة. وبدأ هو وآخرين في إجراء أبحاث مركزة على فيزياء الأشعة نشرت فيما بين مارس 1896م ومايو 1897م. وقد حصل العالم “رونتغن” على جائزة نوبل في الفيزياء العام 1905. وبعد اكتشافها تبين أنها عبارة عن إشعاع كهرومغناطيسي. وتستعمل في الطب إذ تستخدم للتعرف على التركيب الداخلي لجسم الإنسان والحيوانات لأنها تساعد على تصوير العظام والأنسجة الداخلية، ورغم هذا وذاك لابد من استخدامها بحذر فقد تتلف الأنسجة، وقد تسبب بعض أضرار أخرى لجسم الكائن الحي.
مساحة إعلانية
“ماري كوري”، والعناصر المشعة – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
طورت “ماري كوري”(1867- 1934)، وزوجها “بيير كوري” (1859- 1906) نظرية اضمحلال النشاط الإشعاعي واكتشفا عنصري البولونيوم والراديوم. وفاز الزوجان بجائزة نوبل في الفيزياء (1903). كما فازت “ماري” بجائزة نوبل في الكيمياء (1911). وكرّم الزوجان كوري بإطلاق اسم “كوري” كوحدة قياس النشاط الإشعاعي، وإسم “كوريوم” على أحد العناصر الكيميائية. وخلال أبحاثهما تعرضا كثيرا لحروق من عنصر الراديوم. وفي 4 يوليو 1934 توفيت “ماري” في مصحة “سانسيلموز”/ باسي، بإقليم “سافوا العليا” شرق فرنسا؛ حيث كانت تعالج من سرطان الدم الناجم عن تعرضها الزائد للعناصر المشعة. كما تعرضت للأشعة السينية من الأجهزة غير المعزولة، أثناء خدماتها خلال الحرب العالمية الأولى.
“فرنر فورسمان”، أدخل قسطرة إلى قلبه!
اعتقد جراح القلب الألماني “فرنر فورسمان” (1904- 1979) أنه يمكن الوصول إلى القلب عن طريق وضع أنبوبة عبر شرايين المريض، واعترض كثير من زملائه علي هذه الفكرة “المجنونة والقاتلة”. فقرر إجراء التجربة على نفسه عام 1929؟ طلبت منه مساعدته أن يجريها عليها، فرفض. وحقن نفسه بمخدر موضعي ثم أدخل “قسطرة” في أحد أوردة ذراعه ومررها إلى قلبه. ثم صوّر نفسه بالأشعة السينية، وأظهرت الصور بوضوح قيامه بأول قسطرة قلبية. فحاز جائزة نوبل في الطب عام 1956.
“جورج ستراتون” يقلب عالمه رأساً على عقب
تستقبل العين البشرية الصور مقلوبة، ويتم تعديلها لاحقاً في الدماغ لنرى الأمور كما هي في الواقع. كان هذا الأمر مذهلاً بالنسبة للعالم النفسي “جورج ستراتون” George Stratton (1865-1957)، فكان مفتوناً بفهم آلية تعامل الدماغ مع الصور. فقام باختراع نظارة وعدسات خاصة تقلب كل ما يشاهده رأساً على عقب، لمعرفة تأثير الأمر على النظر وإدراك دماغه. كانت مدة التجربة ثمانية أيام وطبقها في البداية على العينين معاً، مما أجهد عينيه وتشوش بصره، فأجراها على عين واحدة. وكان ينام مع عصابة تغلق عينيه كي لا يستخدم بصره بالشكل العادي. وأشار إلي ”تجربة الخروج من الجسد“ عندما لم يكن بصره يطابق ما حوله، لكن بعد نهاية التجربة عاد ليبصر العالم بشكل طبيعي.
“غولدبرغر”، ومرض البلاغرا – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
في بداية القرن العشرين.. انتشر في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية مرض باسم “بلاغرا” (Pellagra). ومن أعراضه الإسهال الشديد، وتشقق الجلد، وتقشره ونزف كثيف. وكان المرض فتاكاً وبلغت نسب الوفيات 40٪ من المصابين. فأسندت الحكومة الأمريكية إلي الطبيب “جوزف غولدبرغر” Joseph Goldberger (1874-1929) مهمة البحث عن سببه وعلاجه. مع ملاحظة ظهوره لدى السجناء دون سجانيهم، وفي المرضى دون معالجيهم وممرضيهم. مما دفع “غولدبرغر” للاستنتاج بأنه “بيئياً وليس ميكروبياً”.
لكن هذا الاستنتاج لم يكن سهلاً لإقناع المسئولين والعامة بطبيعة المرض. فنظرية الأمراض الميكروبية كانت في أوج انتشارها. وأجرى “غولدبرغر” تجارب لإثبات أن نقص التغذية السليمة هو سبب المرض. والحمية المتوازنة تعالجه، لكن تم تجاهل نتائجه، واستمرت محاولات علاجه بالمضادات الحيوية. مما دفع “غولدبرغر” لتناول/ حقن نفسه وزوجته ومجموعة من المتطوعين بدماء وإفرازات بعض المرضى. واحتاج الأمر عقداً من الزمان – بعد وفاة “غولدبرغر”- ليُعرف أن المرض ناتج عن نقص فيتامين B وبعض الأحماض الأمينية (كالنياسين Niacin) ويتم علاجه بإضافتها للغذاء.
مساحة إعلانية
“جان جيون”، ومرض “الحمى الصفراء” – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
في القرن التاسع عشر انتشر الذعر من مرض “الحمى الصفراء”. لم يقتنع كثير من الأطباء، من بينهم الطبيب الفرنسي “جان لويس جينيفيف جيون” Jean Louis Genevieve Guyon، بانتقاله بالطرق التقليدية المباشرة، ولا حاجة لعزل المرضى. ولإثبات وجهة نظره.. قام بارتداء ملابس متسخة بإفرازات مريض حديث الوفاة. وعندما وجد أن الأمر ليس كافياً قام بالنوم علي سرير مريض ممتلئ بالإفرازات، لكنه احتفظ بصحته طوال تجاربه. ومن المعلوم اليوم أن “الحمى الصفراء”: (مرض نزفي فيروسي حاد ينتقل عن طريق البعوض من نوع الزاعجة (Aedes) والهيماغوغيس (Haemogogusi) المُصاب بالعدوى. وتشير كلمة «الصفراء» إلى اليرقان الذي يصيب بعض المرضى).
“جيوفاني غراسي” ومرض “الملاريا” – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
ذاع صيت الطبيب الإيطالي “جيوفاني باتيستا غراسي” Giovanni Battista Grassi (1854- 1925)، وحصل على ميدالية “دارون” لأبحاثه في عدة أمور من أهمها مرض “الملاريا”. كما درس الديدان الشريطية حين عثر عليها أثناء تشريحه لأمعاء مريض حديث الوفاة. وقرر تجربة فرضية منتشرة بأن بيوض الديدان الشريطية (تطرح مع الفضلات) تحتاج لمرحلة انتقالية في مضيف آخر قبل إصابتها شخص آخر (عائل نهائي) مجدداً. فقام بتناول بيوض الديدان الشريطية بشكل مباشر، وتمكن من إثبات أن البيوض لا تحتاج لمضيف وسيط بعد أن أصيب هو بالديدان الشريطية بعد أسابيع من تجربته.
“ريجيني جرايس” ولدغات بق الفراش – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
يعيش “بق الفراش” في المفروشات المنزلية ويتكاثر بسرعة كبيرة. وهو واحد من أكثر أنواع الحشرات إزعاجاً. حيث يتغذى على الدماء البشرية، وقرصة واحدة كافية لجعل الشخص يستمر بالحكة الشديدة والتورم لوقت طويل. ولحسن حظ العالمة “ريجيني جرايس” Regine Gries امتلاكها مناعة نسبية ضد لدغاته. وتعمل “ريجين” وزوجها في جامعة قرب مدينة “فانكوفر” الكندية، ويسعيان لإيجاد حل للتخلص من بق الفراش دون استخدام مبيدات حشرية أو التخلص المفروشات نهائياً، وصنع مادة بيولوجية تجذب الحشرات أكثر من الدماء البشرية. وكانت عينات الحشرات عبارة عن علب تحتوي كل منها حوالي 200 حشرة تحتاج للتغذية لاستمرار التجارب عليها. ومع صعوبة تغذيتها علي دماء بشرية أخرى، باتت العالمة مصدر التغذية. وطوال سنوات تقوم كل سبت بجلب العينات ووضعها على ساعدها لتتغذى من دمائها.
“جوزيف باركروفت” والأسلحة الكيميائية – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
بعد أن جرب سيانيد الهيدروجين على نفسه، نجا السير “جوزف باركروفت” Joseph Barcroft (1872-1947) دون ضرر حقيقي، وعاش عالم وظائف الأعضاء البريطاني ثلاثة عقود بعدها. لكن خلال الحرب العالمية الأولى شهد العالم واحداً من أكبر سباقات التسلح. وتحولت الأسلحة الحربية إلى دبابات مُدرعة، وطائرات قتالية، وأسلحة رشاشة. كما ولدت الأسلحة الكيميائية خلال هذه الحرب، وكان غاز “الخردل” واحداً من الأسلحة الفتاكة التي استخدمها الألمان مما أجبر البريطانيين على محاولة اختراع/ إيجاد سلاح كيميائي خاص بهم.
ووقع الخيار على حمض “سيانيد الهيدروجين المنحل في الماء” (حمض سيان الماء hydrocyanic acid، وسمي قديماً بحمض البروسيك prussic acid). بدأ البريطانيون ببناء مصنع مهمته صنع قذائف مملوءة بحمض سيانيد الهيدروجين لتدمير القوات الألمانية. كان السلاح الكيميائي لا يزال حديثاً جداً ولم يحظر بعد. وكان “باركروفت” من بين العلماء المساهمين في تطوير سلاح بريطانيا الكيميائي، وامتلك اعتراضات على التركيبة المستخدمة لأنها ليست مميتة بما فيه الكفاية. وقام بالتجربة على نفسه حيث دخل غرف مصمتة برفقة كلب لتجربة تأثير الغاز. وبعد حوالي دقيقة ونصف نفق الكلب، لكن “باركروفت” خرج سليماً مع بعض الدوار والغثيان والتشوش مثبتاً أن فاعلية السلاح ليست كفاية، ما أدى إلى إلغائه نهائياً والتوقف عن تطويره.
يجرب طريقة تخدير مبتكرة على نفسه، وعلى مساعده
في نهاية القرن التاسع عشر، كان علم الجراحة بحاجة ماسة لتطوير طرق التخدير أكثر فاعلية. وفي عام 1898.. كان الجراح “اوغست بيير” Bier August واثقاً من أنه اكتشف أسلوباً جديداً للتخدير. يتضمن استخدام جرعة صغيرة من الكوكايين وحقنها ضمن التجويف الشوكي بالعمود الفقري. وللتأكد من كون الطريقة فعالة على البشر، قرر تجربتها على نفسه، فطلب من مساعده حقنه بمادة الكوكايين في عمود الفقري، فتردد المساعد. فقام “بيير” بعكس التجربة، وأجراها على مساعده وحقنه بالكوكايين.
ونجحت التجربة وتخدر المساعد تماماً، وللتأكد من ذلك قام “بيير” باختبار مدى شعوره بالألم بعدة طرق (أطفأ أعقاب السجائر فيه، وضربه بمطرقة حديدية)، فلم يشعر. نجحت التجربة وعاني المساعد من عدة إصابات. وانتشر سريعاً هذا الإنجاز التخديري، لكن علاقة “بيير” بمساعده تدهورت، وبات المساعد من أشد معارضي “بيير” حتى أنه أنكر اكتشافه تلك الطريقة.
مساحة إعلانية
استنشاق غازي أكسيد النيتروز، والأثير – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
ابتكر الكيميائي الإنجليزي السير “همفري دافي” (1778-1882) التحليل الكهربائي للمواد الكيماوية “إلكتروليت”، وعديد من الاكتشافات الأخرى. وكانت معظم تجاربه الكيميائية تسفر عن انفجار تأذت منه عيناه كثيراً. كما قام بتجارب ذاتية ـ عام 1800ـ استنشق فيها جرعات من أكسيد النيتروز، (الغاز المُضحك). وحبس نفسه في حجرة مليئة بالغاز لساعات وهو ما كاد أن يقتله. ووُصف “همفري” بـ “المجنون”، وأصبح مثاراً للسخرية، ولم يلقَ تقديراً من المجتمع العلمي في عصره، لكن توقُّعه أن “الغاز المُضحك” يمكن أن يكون مخدراً طبياً مهماً.
ولاحظ طبيب الأسنان الأمريكي “هوريس ولز” (Horace Wells) أن أحد المترددين على حفلات الأثير المرحة (Ether Frolic)، التي كان يستنشق فيها غاز أكسيد النيتروز (Nitrous Oxide)، قد جُرِحَ جرحاً كبيراً إلا أنه لم يشعر بألم. وفي اليوم التالي ـ من أيام عام 1844ـ قرر “ولز” إجراء تجربة على نفسه، فقام باستنشاق الغاز ثم قام أحد زملائه الأطباء بخلع ضرس له، فلم يشعر “ولز” بألم. وتحمس لهذا الاكتشاف، فقدم طلباً لعرض اكتشافه في المستشفى العام لولاية ماساتشوستس في مدينة بوسطن الأمريكية. وفي يوم العرض، اجتمع حشد كبير من الأطباء والطلاب، وقام “ولز” بإحضار مريض له، يود خلع أحد أسنانه، إلا إن المريض صرخ من الألم، أثناء قيام “ولز” بعملية الخلع، فباءت دعواه بالفشل.
وإذا كان النجاح لم يحالف “ولز”، إلا أنه حالف صديقه “وليم تومس جرين مورتون” (William Thomas Green Morton) (1819-1868) الذي كان يدرس الطب. وكان “مورتون” على دراية بغاز أكسيد النيتروز ومحاولات “ولز”، وبما لغاز الأثير مُخدرة، فعكف على إجراء تجارب لتخدير الحيوانات بالأثير. وبعد نجاحها، قام بإجراء تجارب عدة على نفسه، تعلم منها أموراً كثيرة عن الأثير، وتأثيره على الإنسان. ثم تقدم بطلب لعرض نتائجه وتجربتها على مريض، تُجْرى له عملية جراحية، في المستشفى العام لولاية ماساتشوستس، التي باءت فيها تجربة “ولز” بالفشل. وفي يوم التجربة (16 أكتوبر 1846) احتشدت غرفة العمليات في المستشفى، وتعرف حالياً باسم “قبة الأثير” (Ether Dome) تخليداً لهذا اليوم. ونجح “مورتون” “طالب الطب في الصف الدراسي الثاني في منع الشعور بالألم أثناء إجراء عملية جراحية.
“هالدين”، وضغط غازات ثقبت أذنه – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
قبل تجارب العالم “ج. ب. أس. هالدين” J. B. S. Haldane ، قام والده ـ خلال الجزء الأول من القرن العشرين ـ بتجارب ودراسات على التأثيرات الفسيولوجية على الغواصين البحريين. وبينما كانت تجارب الأب قائمة على ملاحظة وقياسات عينات التجارب، أراد “هالدين” الابن أسلوباً مباشراً لتجاربه المبنية على عمل والده. ومن أهم نقاط البحث الخاصة بـ”هالدين” سلامة البحارين ضمن الغواصات المصابة، لذا فقد قام بتجربة العديد من الغازات لمعرفة الاختلافات في الضغط المحيط ضمن غرف ضغط محكمة الإغلاق، ومع أن أبحاثه وتجاربه هذه قادت إلى الكثير من التحسن والتقدم في معدات التنفس تحت الماء للغواصين ومعدات التهوية في الغواصات، فقد دفع ثمناً باهظاً مع معاناته من نوبات دورية بسبب التسمم بالأكسجين كما أنه عانى من تمزق غشاء الطبلة في إحدى أذنيه. ولم يكن “هالدين” مهتماً لتأثير تجاربه عليه، وكان يمزح حول الغشاء المثقوب، وأنه: (سيشفى تلقائياً، وحتى لو لم يشف فهذا الثقب يساعد علي نفث دخان السجائر من الأذن، وهذا بحد ذاته إنجاز اجتماعي).
“توماس لويس” و”جوناس كيلجرن”، وتجربة الألم
في ثلاثينيات القرن الماضي.. قرر العالمان “توماس لويس” Thomas Lewis، و”جوناس كيلجرن” Jonas Kellgren اختبار مصدر الألم، وطريقة توزعه في الجسم (كالذي يصيب الذراع اليسرى عند الذبحة القلبية، وينتشر إلى كامل اليد). فقاما بحقن سائل ملحي في مختلف مناطق جسميهما لدراسة تأثيره وبالأخص في الأنسجة العضلية. وكانت النتيجة ألماً مبرحاً، لم يكن كافياً لإيقاف مسعاهما. فقاما بتجربة أخرى لحقن العظام. ولم تكن الإبرة صالحة لثقب العظم، فاستخدما شريطاً معدنياً لحفر ثقب في عظم فك (كيلجرن) ومن ثم حقنه. مما ساهم بشكل كبير في فهم آلية عمل الألم في أجسامنا.
مساحة إعلانية
“هوفمان”، و”ليري”، وعقار ل. أس. دي. LSD
خلال الأربعينيات.. كان الكيميائي “ألبرت هوفمان” Albert Hofmann يقوم بتجاربه على أحد أنواع الفطريات، ويدرس التأثيرات الدوائية المحتملة للمواد التي يمكن إنتاجها أو اشتقاقها منه. واكتشف ـ صدفةـ عقار الهلوسة / ل.أس.دي (LSD). وأجري “هوفمان” عدة تجارب أخرى قام فيها بتعاطي العقار بعدة أشكال لدراسة تأثيراته المحتملة، فأدى إلى حدوث هلاوس وأحلام يقظة، والشعور بالنشوة (اليوفوريا). ومع الوقت بدأ بالترويج للعقار كدواء من الممكن استخدامه في الطب والتحليل النفسي، واستمر بتعاطيه بانتظام حتى وفاته.
كما اشتهر عالم النفس “تيموثي ليري” Timothy Leary الذي كان يُدرِّس في جامعة “هارفارد” الشهيرة بتعاطيه المفرط لـعقار ل.أس. دي. (LSD) حتى طرد من عمله بسبب ترويجه للمخدرات كطريق سريع إلى “التنور الروحي، والإبداع”. ولم يكن “هوفمان”، و”ليري” فقط من خاضا تجربة المخدرات ذات التأثيرات النفسية والعقلية على نفسيهما. فقد اشتهر الكيميائي الأمريكي “ألكسندر شولجن” Alexander Shulgin بتجربته عقار MDMA (يعرف اليوم باسم اكستاسي) على نفسه، وهو السبب الأساس لاستخدامه لمدة من الزمن في الطب النفسي.
“مارشال” يحتسي البكتريا، ويفوز مناصفة بنوبل في الطب
في عام 1979، كان الطبيب الأسترالي “باري مارشال” Marshall (1951-) تحت التدريب. وكان واثقاً من أن المؤسسة الطبية العالمية مخطئة في نظرتها لأسباب القرحة المعدية. ورأت أن أسبابها هي “نمط الحياة وأنواع الطعام”. لكن “مارشال” وزميله عالم الأمراض “روبين وارين” Robin Warren كانا مقتنعين بأن السبب ناتج عن بكتيريا ”الملوية البوابية”/ هليوباكتر بيلوري” Helicobacter Pylori، ويمكن علاجها بتناول المضادات الحيوية.
لذا خططا لتجربة فرضيتهما، وأصر “مارشال” علي إجرائها على نفسه. ومع حظر معظم اللجان الأخلاقية في المستشفيات التجربة على النفس فقام بإخفاء الأمر. وقام بابتلاع طبق حساء يحتوي تلك البكتيريا (استخلصها من مريض). وبقي ثلاثة أيام دون أعراض ملموسة، ليبدأ بعدها بالتقيؤ المتكرر وألم مبرح بالمعدة، ورائحة تنفس سيئة جداً، وبعد إجراء فحوص على عينات من معدته تبين أنه مصاب بالتهاب حاد بالمعدة، وقد يقود إلى قرحة مزمنة. وفي الفترة الأولى عانى من رفض واسع لنظريته حول القرحة المعدية، لكن الأمور تغيرت مع الوقت. ففي عام 2005 حصل “مارشال” (يشغل منصب أستاذ الميكروبيولوجيا السريرية/ جامعة أستراليا الغربية) على جائزة نوبل في الطب مناصفة مع زميله “وارين”.
“فرجسون”، يجرح يديه – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
أكتشف البروفيسور “مارك فرجسون” (من جامعة مانشستر) عقاراً يساعد على التئام الجروح بسرعة ولا يترك أثراً لندوب. وليختبر مفعول دوائه بنفسه عمد إلى إجراء جرحين قطعيين كبيرين في كلتا يديه. وترك جرح اليد اليمني يندمل طبيعياً فيما دهن الجرح الأيسر بالدواء الجديد. وكانت النتيجة أن الجرح الأيسر اندمل قبل الأيمن بربع المدة ولم يترك أثراً لندوب. ولإثبات فعالية اكتشافه قام بهذه التجربة أمام مراقبين من مؤسسة فينرز التي وافقت على تمويل أبحاثه بشرط أن ترى بنفسها نجاح التجربة.
علماء كانوا ضحية حوادث خطيرة – علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم
من الحوادث التي تستحق الذكر وفاة الكيميائي السويدي “كارل ويلهلم شيل” (1742-1786)، الذي اكتشف عدداً كبيراً من العناصر الكيماوية. وقد اعتاد شم وتذوق كل ما يكتشفه، رغم ما فى هذه العادة من خطورة، وقد كان من القلائل الذين تذوقوا سيانيد الهيدروجين، فمات مسموماًً.
أما الكيميائي الألماني “روبرت ويلهام بانسن” (1811-1899) فبدأ حياته العلمية من خلال تجارب الكيمياء العضوية.. ثم تحول بعد ذلك إلى الكيمياء غير العضوية. ورغم أنه كاد يقتل نفسه مرتين بسم الزرنيخ. وفي إحدى التجارب العلمية فقد “ويلهام” عينيه خلال انفجار مادة كيماوية ليقضى بعد ذلك بقية حياته وهو فاقد البصر حتى وفاته.
وتعرض الفيزيائي الإنجليزي “مايكل فارادي” (مبتكر المحرك الكهربائي) لضرر في عينيه نتيجة انفجار كلوريد النيتروجين. وبعد ذلك عانى من آثار تسمم كيميائي مزمن توفي بسببه عام 1867. أما المخترع الأمريكي الشهير “توماس إديسون” فأصيب بحوادث كثيرة تتناسب مع عدد اختراعاته (التي زادت على ألف اختراع) فقد أصيب بالصمم، واحترق وجهه بالحمض، وأغمي عليه مرات عديدة، واحترقت يده في كل مرة جرب فيها فتيلاً جديداً لمصباحه الكهربائي. وكان جيرانه يسمون معمله «بيت الساحر» لكثرة الحوادث التي تقع فيه!
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
(علماء أجروا تجاربهم علي أنفسهم)
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.