قبل وسائل التواصل المنتشرة حديثًا، كان هناك نوع من أنواع الستر وعدم الدراية الكاملة بكثير مما يدور من حولك، سواء كان ذلك الستر لأحداث أو لأشخاص. ولما كانت الحياة صافية حتى أقرب الناس إليك لم ترى منهم إلا وجهًا واحدًا، فالكل يدور في فلك الرضا والسعادة والعافية والطمأنينة لا ينشغل أحدًا إلا بيومه الذي يعيش فيه. كان من الصعب عليهم بل من المستحيل التفكير في الحاضر، فكان غالب فكرهم هو التفكير في الماضي والعيش على أثره فكان أبسط الطعام يكفيهم ويسد جوعهم، وأقل الأموال تغنيهم وتزيد من سعادتهم. كانت حياة مرسومة ومعلوم فيها أحوال العباد. أما في زمننا هذا فاختلط الحابل بالنابل، وكثر التلون، واتسعت الفوارق رغم زعم تقاربها، فكثرت الأقنعة، وكدت لا تستطيع التفريق بين صالحها وطالحها. (وقت تساقط الأقنعة)
وهذه من السنن الكونية التي لا ريب فيها أن الناس لا يختلفون إلا بعد زيادة العلم والوعي والإدراك. فقال الله تعالى ذلك في أكثر من موضع بين آيات الذكر الحكيم. كما قال ﷻ
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة البقرة 213]
وبالطبع إلا من رحم الله، فالعالم الحق هو الذي إذا ازداد علما ازداد قربًا من ربنا سبحانه وتعالى ويحضرني هنا الرد العبقري للراحل رحمه الله تعالى عليه واسكننا وإياه الفردوس الأعلى من الجنة العبقري دكتور “مصطفى محمود” عندما سألته إحداهن بقولها العلم شقاء فكان الرد العبقري بأن شقاء العلم أفضل من لذة الجهل.
فالعاقل لابد وأن يعلم أن أي علم لم يقربه من ربه فهو جهل وليس بعلم، حتى هؤلاء الذين يدعون أن العلم شهادات موثقة وما دونها جهلًا فلا رد عليهم أبلغ من أنه قد يحصل الرجل على أعلى الشهادات، وقد يعبد بقرة أو فأرا أو ما شابه ذلك. وامرأة لا تكتب ولا تقرأ، ولكنها تعبد الله الواحد القهار.
فكل علم يُبعد العبد عن ربه وإن زعم العالم كله بعبقريته فإنه علم لا يساوي شيئًا وذلك تأكيدا لقول الحبيب ﷺ “لو كانتِ الدُّنيا تعدلُ عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ” [1]الراوي : سهل بن سعد الساعدي | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي. الدرر السنية فكل ما ترى عينك من شهادات وتطورات وتحديثات لا يساوي شيئًا في ملك الله وليس معنى ذلك أبدًا أن يكون المرء ضد هذا التطور وإنما يستخدمه في القرب من ربه ولا يحتقر من أمر أحد ربما يكون أعبد لله منه.
وعادة ما يكون هناك زمن تتساقط فيه الأقنعة (وقت تساقط الأقنعة)
ولما كان السواد العظيم من الناس إلا من رحم رب الناس تكثر فيه الأقنعة والتلونات والتغيرات، وأن المصالح تتحكم في الكثير والتملق وحب الظهور وادعاء العلم والمعرفة. فكان لا بد من خيط وإن كان رفيعًا ليميز الله لنا به بين الحق والباطل، ولكن العاقل إذا غم عليه من أمره شيئا فإنه لا يلجأ إلا لأصحاب الفهم، والإدراك، والوعي، والمعرفة (الحقيقية) بالله.
فلقد جاء في الحديث في صحيح البخاري كتاب المناقب الجزء رقم: 4، الصفحة رقم: 199 3606 (أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: “نعم”. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ” نعم، وفيه دخن”. قلت: وما دخنه؟ قال: ” قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر”. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: “نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها”. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. فقال: “هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا”. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك. قال: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم”. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: “فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك”).
ومن هنا ففيه دلالة على اللجوء لأهل العلم وقت الفتن والمحن والتباس الأمور. ووقت ذلك التمييز تتساقط الأقنعة أمام العالِم المدرك والذي كفتي ميزانه تكون إحداهما صلاح الدنيا والأخرى صلاح الآخرة.
ويتبين لك أن أزمنة التساقط تكون
- بعد العلم والإدراك والمعرفة.
- حينما تعرف مكان الرجل وموقعه فمن أردت أن تعرف مقامه فانظر أين الله أقامه.
- ووقت المحن والاحتياج وعلى حسب القرب والبعد وقت المحن تتساقط الأقنعة.
- ووقت فقر الرجل تعرف المرأة، ووقت مرض الزوجة، يعرف الرجل، وعند توزيع الميراث يعرف الإخوان.
- وعند الفتن ومغريات الدنيا ينقسم الناس منهم الثابتون وآخرون أصحاب أقنعة.
وغيرها كثير من الأزمنة ولكن الأمر متوقف بداية على العلم والفهم والإدراك والفراسة وقبل ذلك توفيق الله للعبد.
وماذا بعد تساقط الأقنعة؟ – وقت تساقط الأقنعة
فالمسلم الحق الذي يسير لربه ﷻ صاحب هم وقضية لا مصالح شخصية ولا أهواء مزاجية وهدفه وكل همه الإصلاح وتعبيد الناس للواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فيجتهد بعدما يتعلم كيف يساعد الناس ويخلصهم من أنفسهم الأمارة بالسوء.
وهدايتهم ودلالتهم على طريق ربهم وإخلاصهم في عبادتهم غير مشركين بالله عبدًا من عباده في ملكه وأن يعمل على زيادة ثقة الناس فيما عند الله وأن الأعمال كلها نهايتها إما جنة وإما نارً. فيملأ قلوبهم بالحب لله والخوف منه سبحانه وتعالى والرجاء فيما عنده من خير ﷻ.
لا تعاملوا الناس كأنكم أربابً
قد يظن عبدًا بعدما وهبه الله علمًا وفهمًا وفراسة أنه بذلك يتكئ على أريكته ويصنف في الناس ويقول هذا مشرك وذاك موحد وهذا صاحب وجهًا واحدًا وذلك ذو وجوه متعددة.
فلا تعاملوا أحدًا كأنكم أربابً بل عاملوهم واعلموا أنكم عبيدًا.
والناس رجلان، مبتلى ومعافًا، فارحموا المبتلى واحمدوا الله على العافية.
نعم من أبغض الناس ذو الوجهين وذلك ليس للحكم على الناس ولكن لئلا تكون واحدًا من هؤلاء.
وأخيرًا دمتم بخير وحفظنا الله واياكم من كل مكروه وسوء.
كتبه
محمد خيري بدر
معلم بالتربية والتعليم بمصر
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
محمد خيري بدر من مصر. تخرج من معهد دراسات تكميلية بدمياط وعُين معلم بمدرسة ثانوية صناعية، وتوجه بعدها للقراءة والكتابة الاجتماعية، ومن هواياته الرسم.
الملاحظات أو المصادر
↑1 | الراوي : سهل بن سعد الساعدي | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي. الدرر السنية |
---|