للقهوة “سحرها”، وعبقها، وتاريخها، وعاداتها، و”طقوسها” المتنوعة. كم قيل فيها من كلمات وأشعار، وغني لها، ومن حولها، مطربون وسُمار. وتحاور -مع رشفتها- العامة والخاصة من أدباء وكتاب ومفكرين ومثقفين. وبطقوس إحتسائها ساهمت في إبداع آداب وفنون وثقافات. وكانت، وما تزال، “عادة عربية” بارزة، لا تكاد تخلو منها مناسبة. وهي ترمز للكرم، وطيب الاستقبال، وحُسن الضيافة.
اختـُلف في تحديد تاريخ اكتشاف أشجار البن، وهوية ومكان اكتشافها. وثمة مرويات عن أن أحد الرعاة (من اليمن، وقيل من الحبشة) قد لاحظ قطيعه من الغنم والماعز يأبي أن يٌقيل في هجير الصيف القائظ. وظل يغدو ويقفز في خفة ونشاط. فتتبع الأمر فوجد أنها رعت علي شجيرات لينة لها ثمرات عنبية. مما دفعه إلى أكل ورقها، وشرب ماؤه مغلياً، فشعر بالحركة والنشاط أيضاً.
ولما ذاع تأثير تلكم النبتة.. تم تناولها لتجنب النوم، وبث الهمة والنشاط”. وهناك مروية أخرى تحدثت عن أول من عرف هذه الشجرة وهو “أبو بكر بن عبد الله العيدروس“. ففي إحدى رحلاته وأثناء مروره بشجرة أكل من ثمارها، فوجد لها تجفيفاً للدماغ، واجتلاباً للسهر، وتنشيطا للعبادة، فاتخذ منه قوتاً وشراباً وطعاماً، وأرشد أتباعه إليه، حتى انتشر في الحجاز واليمن ومصر. وقد أطلق عليها البعض “شراب الصالحين”. إذ كان يشربه متصوفون بقصد السهر والنشاط.
أصول لغوية.. ونباتية (القهوة)
تتعدد معاني “القَهْوةُ” فهي: الخمر (لأنها تقهي شاربها عن الطعام، وتذهب جوعه)، يقول “أبو عبد الله الحسين بن أحمد الكاتب”:
قوماً اسقياني قهوةً روميةً ************ مذ عهد قيصر دنها لم يُمَس
وهي: اللَّبَن المحض، والرَّائحة، والخِصْبُ، وشرابُ مُغْلى البُنِّ. وتُجمع “القهوة” علي: “قَهَوات، وقهاوٍ”. و”القَهْوة، والمقهي”:ُ مكانٌ عام تُقدَّمُ فيه القهوةُ ونحُوها من الأَشربة. وربما أطلق العرب علي “البن” نفسه “قهوة” لأنه “خمر الحبة”. ولعل أصل الكلمة العربية “قهوة” قد جاء من منطقة “كافا caffa” غرب اثيوبيا، حيث يكثر زراعة البن. وقيل أن اسمها مُشتق من اسم الملك الفارسي “قابوس”. أما في اريتريا، فيستخدم لفظ “بن” (أي “خمر الحبة” في اللغة التجرينية). وفي اللغة الأمهرية تسمى القهوة بـبونا. ومن (القهوة أو كافا) نحتت أسماء أعجمية، قريب صوتياً من الأصل العربي. فبالإنجليزية (coffee)، وبالفرنسية (café)،. ولقد شاع استخدام اللفظ الإنجليزي في أوائل القرن السابع عشر، واستخدمت صياغات مبكرة من الكلمة في العقد الأخير من القرن السادس عشر.
لكن كثيراً من المصادر تؤكد أن شجر البن زرع أول ما زرع في اليمن، وتحديداً في بلدة مخا. ولعلها جاءت إلى اليمن على يد رحالة وتجار أحباش خلال الفترة فيما بين القرن الثالث ـ الرابع عشر الميلادي. والبن اليمني يبدأ في الإزدهار في السنة الثالثة أو الرابعة من عمر الشجرة، وينتج محصوله الأول في العام التالي. وأكبر كمية منه تحصد عادة في السنتين السابعة والثامنة. ثم يقل الإنتاج تدريجياً. وتنتج الشجرة المتوسطة من الثمار في العام الواحد ما يكفي لصنع نحو 0.7 كجم من البن المحمص. علي أن أعمار أشجار البن تتفاوت تفاوتاً كبيراً. فمنها ما يعمر عشر سنوات أو ضعف، أو ثلاثة أضعاف ذلك. ومنها مايصل به العمر إلي نصف قرن وأحياناً يعمر بعضها قرناً كاملاً. لكن في الأغلب تجتث الشجرة بعد زراعتها بعشرين عاماً. وتحتاج شجرة البن لظل يقيها وهج الشمس اللافح. لذا فالأغلب أن تزرع حولها اشجار الموز ذات الأوراق الوارفة الظلال.
وخير أماكن زراعتها سفوح الجبال، على ارتفاعات تقدر بنحو ثلاثة أو أربعة آلاف قدم عن مستوى سطح البحر. فتلك أصلح أرضاً، وأجود حصداً. غير أن جودة المحصول لا تتوقف فقط على نوع التربة، ولا على الطقس (الاستوائي) بل أيضا على طريقة جنيه، وتجفيفه، وطحنه. وأفضل الطرق لذلك أن يُقطف ما نضج من ثمر البن، وصار لونه أسوداً أو أرجوانياً. وترك ما سوي ذلك ممن لونه مازال ضارباً في الخضرة أو الصفرة. ومن ذلك يتبين أن ثمر الشجر لا ينضج كله في وقت واحد. لذا فأجود أنواع البن هو الصافي النضج، فقليل من الثمر غير الناضج كفيل بإفساد مذاق كمية كبيرة من الناضج. لذا سيبقى البن من المحاصيل التي تُجني بالأيدي لا بالآلات الميكانيكية، التي لا تميز بين ناضج وغير ناضج، ولا بين أسود ولا أخضر من حبات البن.
أما طريقة تجفيفه فبتعريضه للهواء والشمس غير اللافحة. ويلجأ الناس إلي تجفيفه في المواقد والأفران مما قد ينال كثيراً من مذاقه ورائحته. وخير طرق صنع القهوة أن يُقلى البن قبل تحضيره مباشرة على نار هادئة بطيئة (من فحم أو حطب). أما تركه مقلياً لأيام فيضعف نكهته. ولقهوة الجزيرة العربية نكهتها الخاصة والتي تحمل طعم الشوكولاتة وعبير البهارات ويعود السبب إلى طرق تحضيرها الجافة.
مساحة إعلانية
أنواع عدة من القهوة
ثمة عشرات الأنواع من البن عبر العالم، وتتصف باحتوائها على نسب متفاوتة من مادة “الكافيين” فأعلى نسبة في البن الكولومبي واليمني، وأقله في المكسيكي، أما البرازيلي وسط بينهما. وكان الكيميائي “رونج” قد اكتشف وجودها في البن، عام 1820م. فجرعات قليلة من القهوة تحدث شعورا بالنشاط البدني، وزيادة في الإنتباه، وطاقة التفكير الذهني، وتنشيط ضربات القلب الخ. ومادة”الكافيين” لا توجد في ثمار شجر البن فقط. بل في سائر أجزائها وبخاصة أوراقها. ويوجد من شجر البن (في بعض الجزر، كمدغشقر) ما هو خالٍ من مادة “الكافيين”. وفي مقابل انتشارها عبر أنحاء العالم “كالنار في الهشيم”.. سعي كيميائيون لإيجاد “مادة بديلة”.. تُغني عن القهوة وتكون أرخص ثمناً. لكن ستبقى القهوة عصية عن إيجاد بديل لها. وسيبقى لها أدواتها التي تقدم فيها، وأسماء أقداحها، و”طقوس” تقديمها، و”دلالاتها الثقافية”.
“حليب المفكرين” القهوة
انتقل شرب “قهوة” البن -ذلك الشراب الأسود اللون، المُر المذاق- إلى الحبشة وفارس، وعمّ أكثر بلدان الشرق. وتتميز قهوة شرق أفريقيا بحدة نكهتها المتشبعة بعبق الفواكه ومن أنواعها الأثيوبية والكينية. وفي بدء ظهور القهوة “كشراب إجتماعي” في البيوت والملتقيات أحدثت “مواقف غريبة” لشاربيها.. شرقاً وغرباً. ففي أوائل القرن السادس عشر عرف المصريون القهوة. لكن سرعان ما “حرمها” علماء دين،” أو أنها أن لم تكن خمراً إلا انها مضيعة للمال، والوقت فيما لا يُجدي”.
وأغلقت المقاهي في مصر العام 1534م، وبعض الدول العربية الأخرى. ثم قام من علماء الأزهر من أفتي بجواز شربها. يقول العلّامة “أبو بكر بن أبي زيد” في مؤلفه “إثارة النخوة بِحِلِّ القهوة”: “إنّ اشتقاق القهوة من الإقهاء، وهو الإجتواء، أي الكراهة، أو من الإقهاء بمعنى الإقعاد، من أقهى الرجل عن الشيء أي قعد عنه وكرهه، ومنه سُمِّيَت الخمرةُ قهوةً لأنه تُقهِي أي تُكْرِه الطعام أو تُقْعِدْ عنه. أما القهوة التي نشربها من نقيع البن، فاستعمال هذه الكلمة للدلالة عليها كان متأخّراً”. كما تحدث عنها كثيراً “علي باشا مبارك” في “الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والصغيرة”.
أما الجلوس على المقهى فلم يكن مقصوراً على قضاء وقت الفراغ. إنما لعب المقهى دوراً مهماً (وبخاصة في وقت لم يكن المذياع أو غيره من وسائل الإتصال قد أخترع) في كثير من الأحداث الاجتماعية والسياسية. وعندما دخل العثمانيون مصر عام 1517م. تحولت المقاهي إلى مراكز لإنشاد ملاحم البطولة مثل ملاحم “أبو زيد الهلالى”، وقصص عنترة، والزير سالم، وألف ليلة وليلة، وكان سردها أشبه بالمسلسلات الليلية التي يتشوق الناس إلى سماعها.
وفي العصر الحديث لعبت مقاهي القاهرة حيوياً في الحركة الثقافية والسياسية، وذاع صيت عدد كبير منها، وكانت أشبه بالمنتديات الثقافية والسياسية، إذ كان يجلس فيها أحد رواد الثقافة أو السياسة محاطاً بأتباعه ومريديه. فذاع صيت مقهى (نوبار) الذي كان “عبده الحامولي” يشدو فيه كل ليلة، ومقهى (متاتيا) بالعتبة الذي كان يجتمع فيه “جمال الدين الأفغاني”، والإمام “محمد عبده”، والزعيم “سعد زغلول”، ثم ارتادها فيما بعد “عباس العقاد”، و”إبراهيم المازني”. وهناك قهوة (السنترال)” بالعتبة أيضاً، و(ريش) بشارع طلعت حرب، و(أنديانا) بالدقي، وقهوة “عبد الله” بالجيزة، و(قشتمر) بالحسينية، و(الفيشاوي) بالحسين الخ.
وعرفها الترك خلال حروب السلطان “سليمان الفاتح” (1429-1481). كما انتقل البن من جزيرة العرب إلى تركيا خلال القرن السادس عشر الميلادي. وتم التشجيع على انتشارها، ناسبين لها خاصية “تسهيل النوم”. وفي عام 1554 أفتتح مقهيين في استانبول لاحتسائها.. نهاراً وليلاً. فاجتمع فيهما المغرمون بها، وأكثرهم من الأدباء والمفكرين حتى أطلقوا عليها (حليب المفكرين، ولاعبي الشطرنج). وصدر قانون تركي يعتبر رفض الزوج تقديم القهوة لزوجته سبباً لقيام دعوى الطلاق. لكن بعض السلاطين العثمانيين حاربها، فلقد أفزع السلطان “مراد الثالث”(1546-1595) اجتماع سكان استانبول في المقاهي والحوانيت والدور لشربها. ولاسيما وأن عيونه نقلت إليه “أن الناس يتبادلون، أثناء إحتسائها، الأحاديث السياسية، وتدبير المكائد والفتن”. فأمر بإغلاق جميع المقاهي، وأعتقل أصحابها.
مساحة إعلانية
إلى أوروبا
وعبر الأستانة.. أتخذت القهوة طريقها إلى أوروبا. وفي البداية.. خَشيها الأوروبيون، واعتقدوا أنها سامة. ولعل الإنجليز هم أول من تناولوها، وفتحت أماكن لاحتسائها في لندن عام 1552. وفي عام 1580 -وبعد عودته من مصر، ودراسة نباتاتها- وضع “بروسبير البان” مدير حديقة النباتات بمدينة “بادو” الإيطالية تقريراً عن البن. وسرت القهوة إلى إيطاليا في القرن السابع عشر. وأخذ الباعة الإيطاليون، ابتداء من العام 1610 يستوردونها من “فينيسيا” فانتشرت بسرعة فائقة. وشوهدت لأول مرة في “البندقية” عام 1624، ثم في العام التالي في “روما”. وكان انتشار المقاهي في أوروبا أسرع منه في آسيا. فما هي إلا أعوام قلائل حتى امتلأت بها شوارع المدن الأوربية، وميادينها.
وفي العام 1664 عاد سائح فرنسي من الشرق، فعرّف أصحابه في “مرسيليا” عليها. وحين افتتح أول محل لشرب القهوة في المدينة عام 1671 عارضه أطبائها. وكانت حيثيات معارضتهم:”أن جسيمات القهوة تشلّ عمل الأرواح الحيوانية التي تسبب النوم، بحيث يحدث أرق مستعصٍ يُجمد الدم في الجسم فيصاب بهزال يؤدي لخطر ماحق لسكان مرسيليا”!. وبعد عشر سنوات عرف سائح آخر الفرنسيين في باريس بالقهوة. أما في عام 1676 فقد أسس باعة حبوب البن في باريس “هيئة” سُمح لها ببيع البن.. حبوباً أو مطحوناً أو شراباً. وبعد سنوات ثلاث.. أفتتح “بركوب الصيقلي” أول مقهى باريسي لتقديم القهوة. ومن ثم انتشرت بكثرة في باريس “حتى صار بين المقهى والمقهى.. مقهى”. وكان من أبرز عشاقها الروائي الفرنسي الشهير”بلزاك” الذي قال فيها:”أنا لا أعلم شراب الآلهة الذي كان يذكره اليونانيون، ولكني أحب أن أعتقد أنه القهوة المعروفة”!. أما كبير أدباء فرنسا “فولتير” فكان يشرب كميات كبيرة منها.
وبفناجين من الذهب والصيني.. كانت الطبقة العليا تتناولها في منزل “سليمان آغا” سفير السلطان التركي في فرنسا. وكان ملك فرنسا “لويس الرابع عشر”(1643 – 1715) يشربها ويقدمها لضيوفه. وفي عهد “لويس الخامس عشر” (1710ـ 1774) بلغ عدد “المقاهي” في باريس ستمائة. وفي حين لم يكن في فرنسا كلها شجرة بن واحدة. ثم أحضرت شجرة من اليمن (يذكر أنه في عام 1690 كسر الإحتلال الهولندي احتكار اليمن لأشجار البن) فزرعت في حديقة النباتات. ونجحت التجربة، ومن ثم نقلت فرنسا زراعتها إلى جزيرة “مرتينيك” من جزر الأنتيل عام 1716. ومنها انتقلت إلى أمريكا الجنوبية كلها. وانتشرت في كثير من الدول، وبخاصة في البرازيل التي نافست الأنتيل في وفرة الإنتاج والتصدير. ولكن كالعادة مع كل جديد.. حرم الكهنة، في البرازيل، شربها. وفي مزارع البن الأمريكية، لا تجتث أشجار المزرعة دفعة واحدة. بل يعمد المزارع إلي استبدال ما يشيخ من أشجارها بأخرى فتية، بمعدل عُشر المزرعة كل عام. وتتميز قهوة أمريكا الوسطى واللاتينية بالنكهة الواضحة. ولعل ذلك يعود إلى الطرق الرطبة في تحضيرها ومن أشهر أنواعها الكوستاريكية والكولومبية.
لم تتفش عادة شرب القهوة في ألمانيا إلا بعد أن غمرت أكثر أقطار أوروبا. ولم تلبث أن تمكنت من الشعب لدرجة حملت “فردريك الأكبر” (1712 – 1786) للقول متذمراً:”إن الزيادة المطردة في القهوة غدت أمراً لا يطاق، فما من أحد عامة الناس وفقرائهم إلا وينفق كثيراً من أجره على هذه العادة المرذولة، ولو أمكننا أن نقاوم هذا التيار الجارف لأعدنا الناس إلى تناول البيرة مما يعود بالربح الوفير على منتجيها وتجارها وكلهم ألمان، على النقيض من القهوة التي نستوردها من غير بلادنا”. لكن ، فيما بعد كان من شأن عظيم العبقري الموسيقي الألماني “بيتهوفن” استهلاك ستين حبة من البن في سبيل إعداد فنجان قهوة واحد.
وانتشرت “عدوي المقاهي” من القارة العتيقة إلي إنجلترا حتى قدر عددها عام 1675 بثلاثة آلاف. وقد وضع ” إدوارد فوربس روبنسون” كتابه:” تاريخ المقاهي في انجلترا”. فذكر أنه في ذلك الحين، لم تكن ثمة فئة من أصحاب الحرف والأعمال، أو جماعة من الجماعات السياسية والفكرية إلا ولها بضع مقاه تتخذها مقراً لها. وقد تحولت هذه المقاهي العامة إلي أندية خاصة بأعضائها”. وفي لندن.. قاومت الحكومة البريطانية القهوة بادئ الأمر، ثم أباحتها، ثم عادت إلى مكافحتها بنشر شرب الشاي.
ويذكر أن قبيل وفاة كبير أطباء انجلترا “وليم هارفي” أحضر كاتب عدل وأراه حبة بن، وقال: “من هذه يأتي الحظ والنجاح والذهن”. ونصح في وصيته لكلية الطب “بست وخمسين ليبره” من البن من مختبره، طالباً من الموصى لهم أن يجتمعوا في ذكرى موته السنوية ليشربوا منها. وتسللت القهوة إلى روسيا عن طريق تركيا من جانب، والإمبراطورية الهنغارية النمساوية من جانب آخر. لكنها كانت باهظة الثمن، عزيزة المنال، فلم تنتشر بين عامة الناس على النقيض من أوروبا. وتتصف قهوة شرق آسيا وإندونيسيا بلذعة، واحساس مميز على اللسان، ومن أشهر أنواعها (السومطرا).
ولم تصل القهوة إلى أوروبا الشمالية إلا بعد سنين طويلة من انتشارها في الجنوب. ففي القرن الثامن عشر ارتحلت إلى البلاد الإسكندنافية حتى غدت اليوم من ضرورات بيوتها. ومما يذكر أن حكومة السويد طلبت من الأطباء رأيهم فيها “فأفتوا أنها سامة!”. لم يُصدق الملك “غوستاف أدولف” (1594 – 1632) رأي الاطباء فأمر بوضع شقيقين توأمين محكوم عليهما بالإعدام كلٌ على حدة. ويعطي إحداهما القهوة بإفراط، ويُسقي الثاني الشاي، ليعرف أيهما سيموت أولا. وأشرف عليهما طبيبان ماتا بعد مدة، وعاش الشابان طويلاً. فمات شارب القهوة وقد تجاوز الرابعة والثمانين من عمره. ولحق به شارب الشاي بعدة بسنوات. وإثر هذه التجربة أفرط السويديون في تناول القهوة والشاي، واعتقدوا أن القهوة تطيل العمر أكثر من الشاي.
عشق لا ينتهي
حديثاً.. يستهلك العالم نحو خمسة بلايين كيلوجرام من القهوة كل عام. وتأتي الولايات المتحدة بوصفها اكبر مستهلك للبن في العالم. فتستهلك خُمس ما ينتجه العالم سنوياً، ويتناول الأمريكيون 400 مليون كوب من القهوة يومياً. ومن بين الأقطار الأخرى التي تأتي في مقدمة المستهلكين: إيطاليا، والبرازيل، وبريطانيا، وفرنسا، واليابان. وتنتج البرازيل بمفردها نحو 20% من المحصول العالمي للبن. وتأتي فيتنام كولومبيا في المرتبة التالية من حيث إنتاج البن. ويعد البن محصولاً ذا أهمية قصوى في اقتصاد كثير من بلدان أمريكا اللاتينية. وفي عام 1963م ساعدت الأمم المتحدة في عقد اتفاقية أطلق عليها “الاتفاقية الدولية للبن”.
وبموجبها قبلت الأقطار المنتجة للبن بتصدير حصص محددة لكل دولة. كما وافقت الدول المستوردة على مراعاة الحد الأدنى للأسعار، وأن تعمل على الحد من شراء حاجتها من البن من الدول التي لم توقع على الاتفاقية. إلا أن هذه الاتفاقية لم تحظ إلا بالقليل من النجاح. وجملة القول: في كل بلد دخلته القهوة.. ورغم ما رافق تاريخها الطويل من مصاعب ومفارقات غريبة أسفرت عن معارضين وأنصار. ولكن غلب الأنصار، وأصبح عدد الذين يتناولونها،على مدار اليوم، يستعصي على الحصر. ولقد أصبحت “طقساً ثقافيا عابراً للقارات”، ومعلم أساس في حياة البشر. وبات السؤال مطروحاً: ماذا كان طعم الحياة لو خلت من القهوة؟
أ.د. ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي مصري
لا تنس أن تشترك في النشرة البريدية الأسبوعية لمنصة المقالة ليصلك جديدنا على بريدك الإلكتروني كل يوم جمعة، وذلك من خلال النموذج أدناه و بنقرة واحدة:
مساحة إعلانية
أ.د ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي من مصر، تخرج في جامعة القاهرة (1985)، ويعمل: أستاذًا ورئيسًا لقسم الجراحة – كلية الطب البيطري – جامعة القاهرة. وقد بدأ الكتابة منذ نحو ربع قرن، وله أكثر من خمسمائة مقال (ثقافي متنوع) منشور.. ورقياً والكترونياً، وثلاثة كتب منشورة.